القاهرة 22 ابريل 2015 الساعة 11:40 ص
تعرضت السينما الروسية فى ثلاينيات القرن الماضى، لعملية تقييد و تكبيل لإبداعها لكى تسير فى ركاب المذهب الجديد، الذى سمى " الواقعية الاشتراكية " ، ففى نهاية العشرينات و بداية الثلاثينيات، كرس الجناح الاستالينى " نسبة لجوزيف ستالين " جهوده و أدواته، لتحويل الاتحاد السوفيتى اقتصاديا و ثقافيا إلى الفكر الاشتراكى فانتقلت روسيا بالتبعية من نظام اقتصاديات السوق ،حيث تتحكم عوامل العرض و الطلب فى حركة السوق إلى نظام " التخطيط المركزى " ، و على هذا فقد أعلنت القيادة الجديدة عن ثورة ثقافية ، حيث يستطيع الحزب الشيوعى التحكم بفعالية ، فى الأنشطة الثقافية و التى تشمل وجهات النظر الفنية ، و عندها أصبحت السينما باعتبارها أحد أهم تلك الأنشطة ، فى مفترق طرق بين الفن و الاقتصاد ، و لهذا أعيد تنظيمها لتلائم التغير الثقافى و الاقتصادى الحادث فى المجتمع الروسى .
و لتطبيق سياسة التخطيط المركزى على السينما ،تم تكوين مؤسسة حكومية سميت " سيوزكينو " عام 1930 ،و تبعا لذلك فإن الإستوديوهات و شركات التوزيع التى كانت ما تزال تحتفظ باستقلالها عن الإدراة الحكومية ، باتت مضطرة الآن لتنسيق أنشطتها مع ذلك الكيان الجديد القائم على التخطيط المركزى .و لم يقتصر نفوذ " سيوزكينو " على روسيا فقط بل امتد إلى باقى جمهوريات الاتحاد السوفيتى، التى كانت تتمتع بقدر كبير من الاستقلالية خلال العشرينيات من القرن الماضى . و قد كانت منظمة سيوزكينو تتكون من شبكة حكومية من المخططين الاقتصاديين وواضعى السياسات، الذين عهد إليهم بوضع خطة الانتاج السنوى للإستوديوهات، و أيضا التحكم فى عملية العرض و التوزيع للأفلام المنتجة .
بعد أن أصبح التخطيط المركزى أكثر مركزية، صارت سلطة الدولة أكثر تحكما فى الإبداع و صارت عملية كتابة السيناريو ، مرحلة طويلة من المعاناة فى ظل النظام البيروقراطى للرقابة على السينما و لجانه المتعددة ، التى كانت تراجع السيناريو المبدئى للأفلام، و تطالب بالعديد من الحذف و إعادة كتابة المشاهد ، و فى الثلاثينيات صارت الرقابة أكثر تشددا سنة بعد الأخرى ،بصورة متوازية مع ازدياد القمع فى نظام حكم ستالين، و هناك مشروعات أفلام قد تم تأجيلها لسنوات أو إلغاؤها تماما .
أدت الرقابة الزائدة على صناعة السينما إلى قتل الإبداع ،و بالرغم من أن سياسة التخطيط المركزى كان يفترض بها زيادة الانتاج السينمائى، إلا أن حجم ذلك الانتاج انخفض بصورة مستمرة خلال الثلاثينيات ، و قد كانت الإستوديوهات فى ظل نظام السوق المفتوح تنتج أكثر من مائة فيلم سنويا ، انخفضت إلى سبعين فيلما فى العام 1932 ، ثم إلى خمسة و أربعين فيلما بحلول عام 1934 ، و لم تصل إلى رقم المائة فيلم أبدا بعد ذلك .و فى نهاية عصر ستالين عانى المخرجين الروس المحنكين من بيئة عمل متدنية بسبب الرقابة الحكومية المتطرفة، فمخرج مثل " سيرجى ايزنشتين " قام باخراج أربعة أفلام من عام 1924 – 1929 بمعدل فيلم تقريبا كل سنة ، إلا أنه فى خلال الثلاثينات لم يقم إلا بإخراج فيلم واحد فقط هو " الكسندر نفسكى " عام 1938 ، ففيلمه المقتبس عن رواية الكاتب الروسى ايفان تورجنيف باسم " مراعى بيزن " أوقف أثناء انتاجه عام 1937 ، إلى أن تم حظره رسميا بعد ذلك . و عدد كبير من الأفلام الواعدة كانت ضحية للرقابة الحكومية المشددة على السينما .
لم تتوقف معاناة السينما السوفيتية على الرقابة فقط، بل أنه بحلول الثلاثينيات كان الاتحاد السوغيتى يقطع علاقته السينمائية بالغرب، فقد توقف استقدام الأفلام من الخارج بحلول عام 1931، انطلاقا من أن أفلام الغرب كانت تعرض على الجمهور الفكر الرأسمالى ، و قد تحررت صناعة السينما الروسية فى ذلك الوقت من اعتمادها على التقنيات الغربية، من خلال جهودها فى التصنيع فى بداية الثلاثينيات ، فقد قامت الحكومة ببناء مجموعة من المصانع ،لامداد إستوديوهات السينما بما يلزمها من مواد تمت صناعتها محليا ، و للتخلص تماما من الاحتياج للتكنولوجيا الغربية ، فقد تم تكليف القائمين على صناعة السينما بتطوير تكنولوجيا الصوتيات الخاصة بهم ،بدلا من الحصول على حقوق انتاج التكنولوجيا الغربية ، و قد قام اثنان من العلماء السوفيت و هما الكسندر و بافل، بإجراء أبحاث فى نهاية العشرينيات على أنظمة صوتية متطورة، و التى صارت جاهزة للاستخدام بحلول الثلاثينات .
كانت عملية إعادة بناء منظومة السينما الروسية، و التى شملت تجديد دور العرض جد شاقة. و لم تكن السينما الروسية قد انتقلت بالكامل، إلى تقنية الصوت الخاصة بها حتى عام 1935، و مع ذلك فإن العديد من المخرجين قاموا بابتكارت عديدة فى استخدام تكنولوجيا الصوت السوفيتية الوليدة بمجرد حصولهم عليها، فمثلا المخرج " دزيجا فيرتوف " فى فيلمه الوثائقى عن عمال مناجم الفحم، و الذى سماه " الحماس " عام 1931 ، أسس فيه فيرتوف شريط الصوت المصاحب لمشاهد الفيلم على مجموعة من أصوات الاوركسترا، التى تحاكى الضوضاء الصناعية ، و فى فيلمه "المرتد "عام 1933 قام بودفكين باستخدام فن مزج الأصوات، و قام ايزنشتين فى فيلمه " الكسندر نفسكى " بالتعاون مع المؤلف " سيرجى بروكفيف " فى فيلمه الذى أخذت الموسيقى فيه الطابع الاوبرالى، و الذى ظهر فيه التألف الناجح بين شريط الصوت و الصورة .
بينما تحولت السينما السوفيتية إلى التخطيط المركزى ، كلف صناع السينما الروس بتحويل الفكر السينمائى الحر إلى مذهب سينمائى موحد، عرف فى ذلك الوقت باسم " الواقعية الاشتراكية " .و هو مذهب يسعى لإقرار فكرة البروليتاريا و تمجيد الطبقة العاملة . و فى عام 1932 أمرت القيادة السوفيتية المجتمع الأدبى الروسى بالتخلى عن نظرية " الفن الحديث "، التى بدأت فى نهاية عهد القياصرة. و هى تقوم على التخلى عن ثوابت الفن الكلاسيكى، فى مختلف أنواع الفن من الموسيقى و السينما و المسرح و الأدب و غيرها، و الاتجاه نحو التجريب و التعبير الحر الذى لا يقوم على منهج فنى ، و إتباع أوامر القيادة السوفيتية بالتخلى عن المذهب الحديث فى الفن إلى الأمر باعتناق مبدأ " الواقعية الاشتراكية " كقالب فكرى و فنى دائم .
بعد هذا التحول الثقافى الذى فرض على المجتمع الفنى و الأدبى الروسى، فإن باقى الفنون بالتبعية و من ضمنها السينما قد أمرت بتبنى نفس المنهج، و هذا يعنى أن عليها تكييف الفكر السينمائى و قولبه الأفلام، لتناسب تيار الواقعية الاشتراكية و كان هذا يعنى أن تتولى مؤسسة " سيوزكينو " المختصة بالنشاط السينمائى، و مديرها " بوريس شامياتسكى " تنفيذ هذا القرار. الأمر الذى جعله يفرض رقابة قاسية على الأفلام ،و تأييد شكل سينمائى سمى فى ذلك الوقت " سينما الملايين " و الذى يلزم فيه الفيلم باتباع خط روائى واضح ، و بينما كانت السينما الروسية تختنق تحت كل تلك القيود ، كانت السينما الأمريكية لا تزال تنفذ إلى المشاهد الروسى و كانت أفلام هوليوود متاحة لجمهور السينما الروس، بل كانت تحقق نسب مشاهدة عالية، فى الوقت الذى كانت الواقعية الاشتراكية، تمنهج السينما الروسية باسلوب روائى أضيفت إليه بعد ذلك خطوط رئيسية متنوعة، و لكنها أيضا فى إطار المنهج الأساسى .و منها مثلا رسم شخصيات أبطال الفيلم لتتصرف بصورة نمطية، تم إعدادها لشاهدها الجماهير، و هى تكرس لصورة المواطن الصالح الذى يتبنى و يؤيد السياسات التى و القرارات التى تصدر عن حكومته .
تلك السياسات المكبلة للإبداع ،و التى فرضها جهاز الرقابة الصارم سيوزكينو تسببت فى إنتاج عدد من الأفلام النمطية ،و التى على مايبدو قد نجحت فى تجسيد ما يسمى "بسينما الجماهير". و قد شهدت الثلاثينات نماذج لسينما الجماهير، منها الفيلم الذى يعد أكثر تلك الأفلام نجاحا ،و الذى حاز رضا السلطة الحاكمة و لاقى فى الوقت نفسه إعجابا جماهيريا طاغيا، و هو فيلم بروكفيف المسمى " شباييف " و الذى عرض عام 1934 ،و بنى على قصة حقيقة تروى حياة قائد الفرقة الخامسة و العشرين من الجيش الأحمر الشهيد " فاسيلى ايفانوفيتش شباييف " ،و الفيلم يدرس كأحد نماذج الواقعية الاشتراكية ،ففيه تظهر بطولة القائد شباييف و جنوده فى القتال من أجل نصرة الثورة الروسية ، كذلك يتميز الفيلم باضفاء لمسة إنسانية على البطل فقد أظهره الفيلم كشخصية عادية ، تميزت بروح الفكاهة و سحر الرجل الريفى القوى ،وكذلك أضاف لها نقاط ضعف إنسانية، و ذلك القالب الإنسانى الواقعى هو الذى حبب الشخصية إلى الجماهير الروسية ،حتى أن المحررين الفنيين الروس شاهدوا الفيلم عدة مرات خلال عرضه الأول عام 1934 ، و قد أعيد عرض " شباييف " بصورة دورية على مر الأعوام وشاهدته عدة أجيال من المتفرجين .
لم يكن شباييف وحده هو الذى حاز إعجاب الجماهير الروسية ،و لكن هناك نموذج سينمائى ظهر أيضا فى الثلاثينيات ،كان يوافق ذوق الجماهير هو الكوميديا الموسيقية ،و من أشهرها التى أخرجها " جورجى الكساندروف " و الذى قام بعمل شراكة فنية مع زوجته الممثلة الكوميدية اللامعة و المطربة " اورلوفا "، فقد اشتركا معا فى مجموعة من الأعمال الكوميدية الموسيقية ،التى أبهجت الجماهير بصبغتها الريفية و التى سميت " فولجا – فولجا " عام 1938 ،و التى حققت أعلى ايرادات بين الأفلام فى شباك التذاكر باستثناء" شباييف " ، و قد تميزت فولجا – فولجا " بالفنتازيا و النمط الموسيقى المرح ،و فى بعض الأحيان بتعدى حدود الواقعية الاشتراكية .
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة ظهرت الأفلام الملونة مثل " الزهرة الحجرية " عام 1946 ، " ملحمة سيبيريا " عام 1947 ، و " القوزاق الكوبيين " عام 1949 ، و مع هذا كانت صناعة السينما السوفيتية تعانى من خسائر الحرب الهائلة سواء المادية أو المالية ،و قد اضطر نظام ستالين إلى تضييق الخناق الرقابى على السينما لمواجهة الفكر الغربى، الذى بات معروضا على الجماهير و قد تميزت فترة ما بعد الحرب بنهاية كل نواحى الاستقلالية فى الاتحاد السوفيتى، و قد أدت الرقابة القوية الصارمة إلى القضاء على السينما كأحد أنواع الفنون .
إن أرشيف السينما السوفيتية قد سجل تدنى ملحوظ فى عدد الأفلام المنتجة فى الفترة ما بين عامى 1945- 1953 . ففى عام 1951 تم إنتاج 9 أفلام، و فى عام 1952 كان أقصى عدد للأفلام المنتجة 23 فيلما ، مع الأخذ فى الاعتبار أن العديد من هذه الأفلام ،كان بالكاد يمكن أن يسمى فيلما سينمائيا بمعايير السينما المتعارف عليها ، و أيضا كانت نسبة كبيرة من هذه الأفلام، هى نسخ من عروض مسرحية ، و كذلك تضمنت هذه الأفلام أفلام الأطفال و الأفلام التجريبية المجسمة ، و فى الحقيقة لم يصل للجمهور الروسى أكثر من أربعة أو خمسة أفلام فى بداية الخمسينيات بالمقارنة بأربعمائة إلى خمسمائة فيلم، كانت تنتجها هوليوود سنويا ، فقد كانت صناعة السينما الروسية عمليا ميتة فى هذه الفترة .