القاهرة 16 ابريل 2015 الساعة 02:27 م
ترى أعيننا الجمال وتنعم به في كل ركن من أركان الطبيعة الساحرة ،ووقفت أتأمل وأنا في بستاني الجميل كيف يكون حال من يفقد نعمة عينيه ويصير أعمى؟ أيبصر مثلنا الأشياء؟ أم يكون ذا بصيرة خاصة به؟ وفي تأملاتي وحيرتي أبصرت زهرة تناديني وتقول لي لا داعي لحيرتك فالأعمى بصيرته سر من أسرار الإله ،يودعها الله في مخلوقه الأعمى وشاعرنا كان أعمى ولكن رزقه الله البصيرة بأسرار المعاني وغوامضها، فما أروع لطفك يا الله ! تبتلي وتودع سر حكمتك في الابتلاء.
الأعمى التطيلي (ت:525هـ-1125م) ينسب إلى تطيلة وهي مدينة أندلسية تقع شرق مدينة سرقسطة عاش فيها فترة من حياته ثم انتقل إلى مدينة إشبيلية ثم قرطبة في ظل حكم المرابطين ،نظم الشعر والموشح وتجاوزهما إلى النثر أيضا بعديد من الرسائل الإخوانية التي أرسلها إلى أقرانه.
قضى معظم أيام حياته في إشبيلية، وكان يلازمه في روحاته وغدواته شاعر معاصر له، كانوا يلقبونه بعصا الأعمى، هو أبو القاسم بن أبي طالب الحضرمي المَنيشي (نسبة إلى مَنيش من قرى إشبيلية).
وعبَّر شعره عن أغراض الشعر المختلفة وكان شعره كالمرآة له يبصر بها.
يمدح فيقول:
مهلاً فقد نِلْتَ في أمنٍ وفي دَعَةٍ ما نال غيرُك في خَوْفٍ وتغرير
لك البسيطةُ تطويها وتنشرُهَا عن مُقْتضَى كلِّ مطويٍّ وَمَنْشُور
تَسْمو بهمّكَ والأهوال ساميةٌ وللردى ثَمَّ سهمٌ غير مغمور
واهاً لهم بين جَنْبَيْها وأنفسُهُمْ تَجِيشُ بين التراقي والحناجير
كأنَّهمْ بين مَثْنَاها وَمَلْعَبها ظنونُ حيرانَ أو أنْفَاسُ مَبْهُور
عامتْ وطارتْ وقالتْ للرِّياحِ ألاَ عُوْجي على أثَري إن شئْتِ أو طيري
حتى تَرَقَّتْ مِنَ اللأْوَا إلى مَلِكٍ مُؤَيَّدٍ منكَ في اللأَوْاءِ منصور
يمدح الشاعر ممدوحه بأبلغ الصفات فقد قدمت إليه الأرض ولاء الطاعة، واستطاع بشجاعته وعزيمته القوية أن ينال كل عز وسؤدد.
يتغزل بقوله:
هو الهوى وقديما كنت أحذره السقم مورده والموت مصدره
يا لوعةً هي أحلى منْ مُنى أملٍ الآنَ أعْرفُ شيئاً كُنتُ أنكِرُه
جدٌّ منَ الشَّوق كان الهزلُ أوَّلَه أقلُّ شيءٍ إذا فكّرْتَ أكْثره
ولي حَبِيبٌ وإن شطَّ المَزَارُ به وقدْ أقُولُ نأَى لولا تَذكُّرُه
ما أروع الهوى وما أضناه! على العاشق وخاصة عندما تغوص في شرايينه دفقات من الحب تزيده لوعة ولهفة لا يقدر بها على الهجر والفراق.
وهو يشتكي لوعه حبه ومشاعره المتقدة يتغزل ويقول:
لما التقينا وقد قيل المساء دنا وغابت الشمس أو لاذت ولم تغِب
وأضلعي بين منقد ومنقصف وأدمعي بين منهل ومنسكب
تأملتني أم المجد قائلة بمن أراك أسير الوجد والطرب
فقلت قلبي مسبّي وأنك لو كتمت سري لم أكتمك كيف سبي
وأعرضت ثم قالت قد أسأت بنا ظنّاً أيجمل هذا من ذوي الأدب
فقُلت إنّي امرؤ لما لقيتكم والمرء وقف على الأرزاء والنوب
سبتُ فؤادي ذات الخال قادرة ولا نصيب لهُ منها سِوى النصب
اشقى بها وهي تلهو في بلهنيّة شتان واللَه بينَ الجد واللَعبِ
أصابت القلب لما إن رمتهُ ولو رمتهُ أخرى إذن لاشكَّ لم تصب
فقالت أشك إليها ما لقيت ولا ترهب فلن تبلغ الآمال بالرهب
عسى هواك سيعديها فيعطفها فقد يكون الهوى أعدى من الجرب
فقلت أعظمها بل ما أكلمها إلا أشار إليّ الموت من كثب
قالت أنا أتولى ذاك في لطف فقد أؤلف بين المساء واللهب
فقلت مثلك من يرجى لمعضلةٍ لازلت في غبطة ممتدة الطنب
قالت لها يا لذيذ الحسن صاحبنا صبا إليك فأضحى جدّ مكتئب
صليه أو فاقتليه فالحمام له خير من الهجر في جهد وفي تعبِ
العاشق أسير عند معشوقه ولكنه لا يريد فكّ أسره أبدا مهما شقى من محبوبه عسى يوما يرحم فؤاده ويعطف على قلبه .
ومن موشحاته في العشق يقول:
ضاحكٌ عن جُمانْ سافرٌ عن بَدر
ضَاقَ عنهُ الزمانْ وَحَواءُ صَدْري
آهْ ممَّا أجِدْ شَفَّني ما أجِدُ
هل إليكَ سبيلْ أوْ إلى أنْ أيْأَسا
ذبتُ إلا قليلْ عَبْرةً أو نَفَسَا
ما عسى أن أقولْ ساءَ ظني بعسى
وانقضى كلُّ شانْ وأنا أسْتَشْرِي
وفي الرثاء بقوله:
وَأصْفِيكَ الودادَ وَغيْرُ وُدِّي إذا حالتْ صروفُ الدَّهرِ حالا
إليك هوايَ تكرمةً وَبِرّاً إذا كانَ الهوَى قِيْلاً وَقَالا
ومعذرةً بسيرِ بناتِ صَدْري إليكَ بها اخْتِصَاراً واحتفالا
ومن شعر الحكمة قوله:
لا تركننَّ إلى الزمانِ وَصَرْفِهِ فَتَكَ الزمانُ بآمنٍ وَمَرُوع
وَدَعِ الأحبَّةَ والدنوَّ أو النوى ما أشْبَهَ التسليمَ بالتوديع
يا وانياً يَأسَى على ما فاتَهُ إن الوَنَى طَرَفٌ من التّضْيِيع
ومداجياً تَخِذَ الخديعةَ جُنّةً ألاّ أنِفتَ لرأيِكَ المخدوع
دافعْ بعزمِكَ أو بجهدك إنها عَزَمَاتُ حُكْمٍ ليس بالمدفوع
وانظرْ بعينِكَ أو بقلبك هل تَرَى إلا صريعاً أو مآلَ صريع
ومن استعاراته الجميلة يقول:
أتتك قوافي الشعر وفدًا عن الهوى وبعض قوافي الشعر أحظى من الوفد
فقد شخّص الشاعر قوافيه حينما خلع عليها صفات الإنسان محاولة منه في بث الحركة فيها لتؤدي غاية في نفسه،وهي وصول قصائده إلى الممدوح ؛لتكون أحظى بكرمه وعطائه.
وشاعرنا- بالرغم من عماه –فإننا لا نعدم وجود آثار الصورة المرئية في شعره،فهي وسيلة لديه لتحفيز المشاعر،واستثارة الحواس ،وتنشيط مملكة التخيل عند المتلقي.
ونجده يرسم صورة بصرية للحمَّام بقوله:
ليس على لهونا مزيد ولا لحمَّامِنا ضريب
ماء وفيه لهيب نار كالشمس في ديمة تصوب
وأبيض من تحته رخام كالثلج حين ابتدا يذوب
أبانت المقطوعة عن صورة بصرية لما نشاهده في الحمَّام وكأنها صورة مرئية عندما أشار في البيت الأخير إلى ما يعتري الثلج من تصدع وتفكك في جزئياته،وظهور ما يشبه الخطوط التي يتوفر وجودها عادة في الرخام من هنا صدرت الصورة من شاعر ليس أعمي وإنما مبصر مدقق كالتُّطيلي.
فما أجمل الطبيعة الأندلسية الجميلة التي تغذي الحواس والمشاعر وما أروع تنزهي في بستان الأندلس!