القاهرة 16 ابريل 2015 الساعة 12:52 م
منذ شهور وتحديدا في منتصف شهر ديسمبر من العام الماضي. سارع الأزهر الشريف إلي إصدار بيان. نفي فيه ما تناقلته وسائل إعلامية من عبارات نسبت إلي مفتي نيجيريا. جاءت في كلمة ألقاها في مؤتمر لمواجهة العنف والتطرف.. إذ نسب إليه انه افتي "بتكفير حركة داعش" وكان المؤتمر قد أقيم في رحاب أزهرنا الشريف.. ومن ثم جاء دوره في الرد والتوضيح بلسان فصيح. لم يكتف فيه بنفي ما نسب إلي الشيخ إبراهيم صالح الحسيني مفتي نيجيريا بل أكد أن هذه الكلمات لم ترد صراحة ولا تلميحا في عبارة المفتي الذي أدان "المبتدعة الذين قاموا بأفعال التطرف.. وقد قتلوا المسلمين. فقد حكموا علي أنفسهم بالكفر بأفعالهم" ومن الواضح ان كلمات فضيلة مفتي نيجيريا تمت صياغتها بدقة ومع ذلك حرص بيان الأزهر الشريف علي ايضاح ان مفتي نيجيريا لم يفت بتكفير داعش أو غيرها.. ولم يقف البيان الأزهري عند هذا الحد بل أبي إلا المزيد من الوضوح والتوضيح مؤكدا: ان كل من في المؤتمر يعلمون يقينا أنهم لا يستطيعون أن يحكموا علي مؤمن بالكفر مهما بلغت سيئاته بل من المقرر في أصول العقيدة الإسلامية أنه لا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحد ما أدخله فيه. وهو الشهادة بالوحدانية وبنبوة سيدنا محمد - صلي الله عليه وسلم - وأن الذنوب مهما بلغت لا يخرج ارتكابها العبد من الإيمان.
وموقف الأزهر الشريف هذا ليس بجديد أو طارئ بل هو موقف ثابت وأصيل وسطية معتدلة. ترفض وتقاوم "فتنة التكفير" إلا من بينة حددها البيان المذكور.. وقد أثلج هذا البيان صدور كثيرين. وأثار تساؤل آخرين.. ولكل أسبابه. في حدود إلمامه العلمي.. هذا الموقف الصحيح القويم من جانب الأزهر الشريف عاد إلي الذاكرة بمناسبة الضجة حول "أقوال" أو "اجتهادات" الأستاذ إسلام بحيري عبر شاشة احدي الفضائيات خاصة وقد سارع الأزهر الشريف - احدي جهاته التي لا أذكرها تحديدا - بإبلاغ النيابة. في أمر قد لا يجوز هذا فيه. أو علي الأقل علي النحو الذي جري به. وبالشكل الذي صيغ فيه وإلي ساعة تقديم هذا البلاغ وما تلاه. وما ترتب عليه. بل وإلي الآن. فإن العبد لله لم يشاهد ولو حلقة واحدة من حلقات الأستاذ بحيري. كما لم يشاهد له حوارا أو يقرأ له كلمة مكتوبة.. وذلك لسببين: الأول: أن لي رأيي الخاص في القضايا التي يقال ان الأستاذ بحيري يخوض فيها ويتلخص رأيي في التحرز الشديد في طرح مثل هذه الأمور للنقاش العام.. والثاني: ان أوضاعنا الإعلامية - بما فيها الصحافة التي أكتب فيها وأعتز بالانتماء إليها - ليست في أفضل حالاتها كي تتطرق إلي مثل هذه الأمور فقد أصبحت للأسي والأسف ساحة مباحة لكل من هب ودب.. ولعل مقالات الأستاذ فاروق جويدة الكاتب والشاعر الكبير خير شهادة علي صحة ما أقول سواء في ذلك مقاله الأسبوعي أو عموده اليومي في "الأهرام" وقد أصبح الأمر يتطلب وقفة ووقفة جادة تعيد إلي الإعلام المصري جودته وجديته وأهميته ورسالته. التي أخشي أن تزداد تدهورا في المرحلة المقبلة. إذا ظلت الأمور علي حالها وإذا ظلت الأيادي تواصل تلاعبها غير الحميد.
بحيري وأبوبكر والمهاجر
والقضية هنا ليس اسمها أو فصلها إسلام بحيري أو غيره ولكنها تفتح باب التساؤلات مجددا حول دور الأزهر الشريف. الجامع والجامعة والمؤسسة العلمية. حول الموقف مما يمكن أن نسميه "فقه داعش" التي رفض الأزهر الشريف من حق "تكفيرها".. لكن هذا الموقف القديم يثير التساؤل حول رأي الأزهر في الكتب والرسائل و"الاجتهادات" التي تصدر باسم "داعش".. سواء قبل أن تصبح "خلافة" أو بعد أن أصبحت خلافة!.. وقد ظل هذا السؤال يلح علي المرء منذ بيان الأزهر الذي سلفت الإشارة إليه. خاصة وأني قرأت لأول مرة واعترف بذلك في تلك الفترة تقريبا مقالا عميقا في العدد 101 من دورية رصينة هي "مجلة الدراسات الفلسطينية" وعنوانه هو "السلفية الجهادية: داعش والنصرة من إدارة التوحش إلي فقه الدماء" كتبه الأستاذ محمد أبو رمان الذي تبين ان له أعمالا أخري في الموضوع نفسه وقد فتحت لي المراجع التي أشار إليها الباب واسعا للبحث عبر الإنترنت عن كتابات أخري تتناول أعمال "منظري" أو مفكري داعش. خاصة الكتابين اللذين ذكرهما في العنوان. واللذين سأتحدث عنهما هنا بقدر من التفصيل.. ومنذ أسبوع فقط. أهداني الصديق المهندس أحمد بهاء شعبان رئيس الحزب الاشتراكي نسخة مصورة من كتاب "إدارة التوحش أخطر مرحلة تمر بها الأمة" وبينما المرء عاكف علي قراءته كانت الضجة حول الأستاذ إسلام بحيري لاتزال مثارة وتشارك فيها أقلام صحفية كثيرة وكبيرة من أمثال الأساتذة مكرم محمد أحمد وأحمد عبدالمعطي حجازي وصلاح عيسي وهؤلاء لدي كل منهم ما يستطيع أن يسهم به وبجدية وعمق في الموضوع المثار.. وإلي جانب ما سبق توافرت لدي المرء مقالات ودراسات عن الكتاب الآخر الذي أشار إليه الأستاذ أبو رمان في مقاله الذي سلفت الاشارة إليه وهو الكتاب المعروف باسم "فقه الدماء".. ومن أسف ان أغلب ما قرأت إلي الآن منشور في الصحف العربية التي تصدر خارج مصر. أما صحفنا المصرية فلم تنشر عن الكتابين إلا القليل علما بأن كتاب "إدارة التوحش" يرجع تقريبا إلي 2004 وانه وقع بين يدي رجال الأمن في المملكة العربية السعودية منذ 2008 ومنذئذ وهو منتشر علي عشرات بل مئات المواقع الالكترونية ثم هل هي مصادفة أن مؤلفي الكتابين مصريان فمؤلف "إدارة التوحش" هو "أبوبكر ناجي" وإن كان أبو رمان يعتبره من "الجهاديين الافتراضيين" ولا يعرف من هو في العالم الواقعي. في حين يؤكد أن جنسية المؤلف الثاني وهو عبدالرحمن العلي مصرية ويصفه بأنه يتمتع باحترام وتقدير من جميع الجهاديين في العالم وأن كتابه "فقه الدماء" يقع في حوالي 600 صفحة. يعرف باسمين آخرين هما "مسائل من فقه الجهاد" و"أعلام السنة المنشورة في معالم الطائفة المنصورة" ويعرف عبدالرحمن العلي باسم آخر هو "أبو عبدالله المهاجر" ويقول عنه أبو رمان إنه كان معتقلا في السجون الإيرانية "وقد افرج عنه وعاد إلي مصر بعد أشهر من قيام الثورة".
دور الأزهر وعلمائه
وفي ضوء قراءتي لكتاب "إدارة التوحش" أستطيع القول إننا أمام كتاب جاد وخطير وبصير بنقاش علمي وفقهي وربما لا يقل أهمية عن كتاب سيد قطب " معالم في الطريق" و"الفريضة الغائبة" من إعداد محمد عبدالسلام فرج أو علي الأقل هو يصب في نفس المجري.. وربما يكون كاتبه أعمق وأكثر ثقافة من سابقيه.. وما تيسر لي من مقتطفات من كتاب "فقه الدماء" لا يتيح لي الحكم عليه. سوي أن أخلص إلي أن أصحاب هذه الكتابات ليسوا أشخاص "مخها طاقق" بل إن "مخها صاحي" حتي لو كان به انحراف أو تطرف وغلو.. وكل هذا لا يمكن أن يترك دون ردود علمية رصينة وعميقة. أعتقد انه لا يقوم بها إلا الأزهر وعلماؤه الكبار. فلماذا لم يفعلوا؟.. هل لم تصل هذه الكتابات إلي أيديهم أو إلي علمهم؟ أو أنهم منشغلون بشخص "مجتهد" - أيا كان ما يقوله ما لم يخرجه عن الإيمان بتعبير بيان الأزهر السابق - سواء كان يصيب أو يخطئ فهل هو بأقواله وكتاباته. إن كانت له كتابات - أخطر علي الإسلام والمسلمين من "داعش" أو دولة الخلافة. أو كتابيها المعتمدين اللذين أشرنا إليهما. بالاضافة إلي كتابات أخري تستحق البحث وتوجب الرد والنقد وإعلان الرأي الشرعي والعلمي فيها.. وأكرر القول إن هذا هو دور الأزهر. وأكاد أقول إنه دور الأزهر وحده. أو أولاً علي الأقل ولا يكفي هنا اقامة ندوة أو مؤتمر سواء من جانب مشيخة الأزهر أو جامعته أو احدي كلياتها تنعقد الندوة وتنفض دون أن يسمع بها أحد. ولا يصدر عنها سوي بيان لا يشفي غليلا. ولا يعبر عن مكانة الأزهر.. ولا ينقل كلمة التي ينتظرها المسلمون في جميع أفكارهم ومن لا يصدق مثل هذا القول عما يصدر من الأزهر الشريف في هذا الشأن ما عليه سوي أن يعود إلي صحف يوم السبت الماضي - 11 أبريل - ليطالع ردا من "مرصد الفتاوي التكفيرية والمتطرفة" في دار الإفتاء المصرية - وهي طبعا غير الأزهر ولكنها ليست منعزلة عنه - علي كتيب لتنظيم "داعش" الإرهابي قام بتوزيعه علي المواطنين في الموصل "يعلن فيه جميع الدول العربية عدا العراق وسوريا دولا غير إسلامية ويعلن فيه وجوب هجرة جميع المسلمين والانضمام إلي أرض الخلافة باعتبارها مركزا للهجرة والجهاد" لن أسمح لنفسي بالحديث عن مستوي الرد وهل هو يليق بدار الافتاء وبصاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية الذي يشيد بفضله وعلمه الكثيرون ولكن سأقول ما رأيكم دام فضلكم ان الكلام الذي تردون عليه أو الكتيب الذي تشيرون إليه لا يتجاوز فقرة من عدة سطور في كتاب "إدارة التوحش" فأيهما أولي بالرد والتعليق والفضح الفرع أو الأصل؟ ثم هل لديكم الأصل؟ هل سمعتم عنه؟ هل قرأتموه؟.. إن لم تكونوا فهذا بيان لكم ولأزهرنا الشريف وشيخه العلامة الجليل الذي له من اسمه نصيب كبير أدعوهم فيه إلي أن يضعوا الأمور في نصابها الصحيح. وألا ينشغلوا ولا يشغلوا عباد الله معهم بإسلام بحيري وبأقواله أو اجتهاداته وان ينصرفوا إلي ما هو أهم وأخطر: فكر داعش وما أدراكم ما داعش؟ انها تدق علينا الأبواب من أكثر من ناحية من داخلنا ومن سيناء ومن حدودنا الغربية.. ألا يكفي هذا كي ننتبه إلي حاجتنا لأن نتصدي ل"داعش" وإرهابييها باللسان والقلب والقلم إلي جانب السلاح؟
ولم يبق لي سوي أن أدعو الله أن يوفق الأزهر الجامع والجامعة والمشيخة والشيخ الطيب وأن يوفقنا جميعا إلي أن نري الأخطار التي تحيط بنا وأن نستعد خير الاستعداد للدفاع عن عقيدتنا ووطننا وأن نضع الأمور في نصابها الصحيح فلا نعتبر إسلام بحيري أخطر من إسلام داعش.. واسلمي يا مصر.