القاهرة 14 مايو 2015 الساعة 02:01 م
وبعد مضي وقت طويل وقد اشتقت فيه لبستاني الجميل وأنا أتنزه بين الأزهار الجميلة أعيش معهم أفراحهم وأحزانهم ، واليوم وقد قررت أن أذهب إليه مبكرًا ، وبالفعل قد انطلقت تتسابق خطاي حتى وصلت وقد أذهلني ما وجدته فالأزهار يحدقون في بابتسامة ثغرهن المضيئة ،وأنا أتجول هنا وهناك حتى لمحت زهرة يانعة فائقة الجمال، فبدأت حديثي إليها وسألتها لماذا أنت مميزة عن باقي الأزهار وصاحبة نفوذ بينهن ؟فأجابتني باسمة هل تعرفي الشاعر الوزير الذي كان من أشهر أعلام عصره في شاطبة؟
قلت لها: لا ،احكي قصته،فبدأت تسرد لي حكيا ممتعا عن شاعر من مدينة شاطبة إحدى مدن الأندلس وهو ابن مغاور الشاطبي (ت:587هـ-1187م).
وقد نال شهرة واسعة في مدينة شاطبة وكان عالما روى عنه كثيرون كما ترك لنا رسائل وأشعار وترك لنا تراثا شعريا ينم عن موهبته الرائقة .
يمدح ابن مغاور الشاطبي الخليفة الموحدي يوسف بن عبد المؤمن ويلقبه بأمين الله؛ لأنه يحفظ الرعية من كل من يتربص لها من الأعداء، ولذلك يلهج لسان الشاعر دائمًا بالثناء عليه والشكر لصنيعه. فيقول:
أَمِينَ اللهِ حُبُّكَ فِي فُؤَادي
وَيَمْنَعُنِي الحَيَاءُ مِنَ الْبَيَانِ
وَلِى قَلَمٌ إِذَا اسْتَفْهَمْتَ عَنْهُ
أَشَادَ بِهِ وَأَنْشَدَ عَنْ بَنَانِي:
بياني في بَناني مستقلٌّ
فَلاَ تَطْلُبْ فُدِيتَ بِهِ لِسَانِي
و في فن الرثاء نجده يرثي الأمير أبا حفص عمر بن عيسى يقول:
يَا سَلِيلَ الْخَالِ صَبْرًا بَعْدَهُ
أَنْتَ أَعْلَى أَنْ تُسَلّى وَأَجَلّ
بِهُدَاكُمْ إِنْ ضَلِلْنَا نَهْتَدِي
وَبِكُمْ يُضْرَبُ في الصّبْرِ المَثَلْ
قَدْ طَوَيْتَ الْبِيدَ شَدًّا نَحْوَهُ
وَوَجَدْتَ الصّابَ في طَعْمِ الْعَسَلْ
عَجِلَ الْقَوْمُ فَوَارَوْا شَخْصَهُ
قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ لاَ كَانَ الْعَجَلْ
فَلْتَهٌ كَانَتْ وَلَكِنْ فَضْلُكُمْ
يَرْفَعُ الْحِشْمَةَ فِيهَا وَالْخَجَلْ
فَاحْتَسِبْ مِنْ مَاتَ ذُخْرًا صَالِحًا
إِنَّ في الأَجْرِ لَكُمْ خَيْرَ نَفَلْ
حَسْبُنَا اللهُ كَفِيلاً بَعْدَه
وَلَهُ الْحَمْدُ فَمَا شَاءَ فَعَلْ
ج
فالشاعر ذاق مرارة الموت بفقد هذا العزيز الذي استعجل قومه بدفنه ويستنكر منهم ذلك، ولكنَّ قضاءَ الله محتومٌ ولا بد من احتساب فقده عند الله، فكفى به كفيلا فله الحمد وما شاء فعل.
وفي التشوق والحنين نراه حنَّ إلى شاطبة بقوله:
نِعم مُلْقى الرَّحل شاطِبة لفتى طال به الرِّحل
بلدة أوقاتها سحر
وصَبًا في ذيله بللُ
ونسيم عرْفُه أرِجٌ
ورياض غُنّها ثَمِلُ
ووجوه كلها غُررٌ
وكلام كله مثل
فبلدته الجميلة شاطبة التي نعم فيها بأحلى الذكريات، هي ملتقاه بعد سفر طويل، فكل ما فيها من نسيم ورياض وأحبة وكلام جعلها جنة جميلة يطيب العيش فيها.
ويشكو ابن مغاور الشيب الذي ألجأه أن يركن إلى العصا ويمسك بها، وقد سئم من هذا الحال، يقول:
قال لي يهزأ من لم
يتوقع من ملامهْ
إذا رأى كفِّى دأْبا
بعصاها مستهامهْ
أنت والله صحيح
سوف تبقى للقيامهْ
قلت دعني من مُحال
قد شكا الشيخ السَّآمهْ
كيف يُرجى لي بقاء
وجداري بدعامهْ
وله باع في فن الهجاء نجده يهجو القاضي ابن بيبش وينعته بالرشوة يقول:
لا تَظُنّوا اِبنَ بَيّبِشٍ
في قَضاياهُ يُرتَشي
إِنَّما الشَّيخُ هَلهَلٌ
فَهْوَ يَصحُو وَيَنتَشي
فَتَرَى الحُكمَ غُدوَةً
وَتَرَى النَّقضَ بِالعَشي
ومن المحسنات البديعية الطباق في البيت الأخير بين "غدوة-بالعشي"يؤكد المعنى ويوضحه.
ويهجوه أيضا بالعربدة والسُكر يقول:
أَيُّها الناسُ حَسبُكُم
إِرهَبوا اللَّهَ وَاِتَّقوا
لا تَلومُوا اِبنَ بَيّبِشٍ
فَهْوَ قاضٍ مُوَفَّقُ
عَن قَريبٍ تَرَونَهُ
بِظُنونٍ تُصَدَّقُ
يَكسِرُ الدَّنَّ عنوَةً
وَتَرَى الزِّقَّ يُفتَقُ
وهجاء ابن مغاور للقاضي يتميز بالحرص على المنفعة العامة ومحاربة الفساد من بعض القضاة الذين يتصورون أنهم معصومون .
وبعد سماعي هذه الحكاية الشيقة لسيرة شاعر عظيم أفنى حياته وقد بلغ من العمر ستة وثمانين عاما ، وقد حنكته الحياة بتجاربها ، وعاش دروبها بين نعيمها وشقائها ،أجدني أغادر بستان الأندلس آملة أن أعود قريبا.