القاهرة 14 ابريل 2015 الساعة 02:53 م
كتب : حسام إبراهيم
تحول المهرجان الثقافي "الهند على ضفاف النيل" الى حوار حميم بين ثقافتين من أعرق
ثقافات العالم, فيما تقدم الهند تقدم نموذجا لافتا للتنمية والنمو والديمقراطية والتوظيف
الايجابي للتنوع الثقافي على نحو أثار اهتمام العديد من المثقفين المصريين.
وباديء ذي بدء ; لعل ثمة حاجة على مستوى وزارة الثقافة المصرية وخاصة قطاع العلاقات
الثقافية الخارجية لدراسة أسباب النجاح الكبير لهذا المهرجان الثقافي الهندي الذي
يقترب موعد اختتام دورته الثالثة متوجا باقبال شعبي مصري واضح على فعالياته المتنوعة
ما بين أفلام واستعراضات غنائية ومعارض انتشرت على رقعة كبيرة في مصر وخرجت
من القاهرة إلى الإسكندرية وبور سعيد والإسماعيلية.
وفي هذا المهرجان الذي يختتم يوم السابع عشر من شهر أبريل الجاري حظى الفنان الهندي
الكبير اميتاب باتشان والبالغ من العمر 72 عاما باهتمام مستحق سواء على مستوى رجل
الشارع المصري أو الكتاب والنخب الثقافية والصحافة ووسائل الإعلام التي راحت تتحدث
عنه وعن أفلامه مثل "مارد" و"الشعلة" و"الجبابرة" و"كولي".
وكان من الدال أن يقول سفير الهند في القاهرة نافديب سوري إن اميتاب باتشان اختير
لافتتاح هذا المهرجان "لمعرفتنا بمدى ارتباط المصريين بهذا النجم العالمي من خلال
أفلامه المميزة" , بينما حظى المهرجان في دورته الحالية باقبال شعبي مصري مع إقامة
فعاليات في أماكن مثل "حديقة الأزهر" التي شهدت عروضا لليوجا الهندية, وهي رياضة
روحية تأملية لها عشاقها في مصر.
وفيما منحته أكاديمية الفنون في مصر الدكتوراه الفخرية تقديرا لمسيرته الحافلة في
الفن السابع, بات النجم الهندي اميتاب باتشان يشكل "ظاهرة في الذائقة الثقافية والفنية
للمصريين" منذ زيارته الشهيرة لمصر في مطلع تسعينيات القرن الماضي والتي حظى
فيها باستقبال أسطوري من جموع محبيه وعشاق فنه , فإن الطروحات توالت في الصحافة
المصرية مع زيارته الجديدة وسط اجتهادات تسعى لاستخلاص جوهر تجربته ومغزى حب المصريين
لهذا الفنان الذي احترم فنه حتى تحول الى "أسطورة بوليوود".
وغالبا ما يستعيد عشاق باتشان في مصر أفلامه الحافلة بالأغاني والرقصات والأزياء المبهرة
والمناظر الطبيعية الخلابة وبعضهم يقبل بحماس على شراء واقتناء صور وبوسترات
هذا الممثل الأسطوري الذي عرضت دار الأوبرا المصرية سبعة من أفلامه في سياق مهرجان
"الهند على ضفاف النيل".
ومن نافلة القول إن "ظاهرة اميتاب باتشان المصرية" حافلة بالدلالات الثقافية والمعبرة
عن اهمية الدور الثقافي للسينما بقدر ما هي دالة على انفتاح الشخصية المصرية
على كل الثقافات وقابليتها لاستيعاب كل الوان الطيف الثقافي - الفني العالمي بقدر
ما بدا باتشان عبر مقابلاته الإعلامية مدركا لأهمية البعد الثقافي في العلاقات بين
بلاده ومصر.
وفي وقت كثر فيه الحديث عن استلهام نماذج من هنا أو هناك للتطبيق في مصر يتوجب القول
أن مصر لا تعاني من فراغ ثقافي حتى تستورد نماذج خارجية لتطبيقها بالكامل , وانما
المطلوب التفاعل مع كل النماذج في ندية وتكافؤ وعبر التأثير المتبادل مع امكانية
الاستفادة من عناصر القوة في اي تجارب ثقافية - سياسية مثل التجربة الهندية التي
نجحت في تحويل التعدد والتنوع إلى قوة.
وكما لاحظ البعض ومن بينهم السفير الهندي في القاهرة نافديب سوري فثمة تشابه كبير
بين الشعبين المصري والهندي مع تقارب في مستويات المعيشة وتماثل في الضغوط اليومية
, إلى جانب مخزون ثقافي هائل وركام ضخم من التقاليد الموروثة والقيم العتيقة.
وقال سوري إن التشابه كبير بين الشعبين الهندي والمصري سواء في الشوارع والبيئة والحياة
الاجتماعية والتمسك بالروابط الأسرية والعادات والتقاليد, معيدا للأذهان انه
شغل منصب سفير الهند في القاهرة منذ عام 2012 بعد مضي 25 عاما على الفترة التي
قضاها في مصر لأول مرة.
ولعل التجربة الهندية التي باتت علامة دالة على التنمية والنمو لها أهميتها في سياق
استلهام الدروس المفيدة لمصر في وقت يحتدم فيه الجدل حول قضايا مثل اهمية وجود
مشروع وطني ودعم مصادر قوة الدولة الصلبة والناعمة والتوظيف الإيجابي لطاقات الشباب
والاستفادة من العقول المصرية في الخارج.
وهذه التجربة تثبت إمكانية قيام نظام ديمقراطي وتحقيق النمو السياسي على أساس التعدد
الحزبي رغم وجود إشكاليات هائلة وتحديات كبيرة في الواقع الهندي وكذلك سبل تحقيق
التوافق الوطني حول أهداف الأمة وغاياتها والتلاحم المجتمعي في مواجهة المخاطر
التي تهدد الحاضر والمستقبل.
كما أن الهند التي يصل عدد سكانها الى مليار ومائتي مليون نسمة تشهد تجربتها على أهمية
دور اجهزة الخدمة المدنية في بناء الدولة الحديثة وتنظيم تفاعلات العلاقات داخل
المجتمع المتعدد الأعراق والأديان بما يحفظ التكامل الوطني وإعلاء ثقافة الجدارة
بدلا من تصفية العناصر الموهوبة والاستبعاد الممنهج للكفاءات الذي ينطوي على
خطر تجريف عقل الدولة وغياب الرؤى المبدعة والسياسات الرشيدة والفعالة وشيوع ظاهرة
الاغتراب.
والهند التي تصل مساحتها الى ثلاثة ملايين و250 الف كيلو متر مربع وتعد سابع دولة
في العالم من حيث المساحة تتوزع على 29 ولاية ويتجاوز عدد اللغات المحلية المتداولة
بها ال15 لغة فضلا عن الانجليزية.. ورغم تنوعها الهائل وتحديات الفقر والأمية
فقد نجحت في الحفاظ على وحدتها كدولة عملاقة فضلا عن تماسكها المجتمعي مع الاحتفاظ
بنموذج مضيء للديمقراطية منذ تدشينها كدولة مستقلة عام 1947.
ولعل كل هذه الملامح بحاجة للتأمل العميق والاستفادة من دروسها الإيجابية في سياق
التفاعل بين الثقافتين المصرية والهندية, سواء داخل الأطر الرسمية أو خارجها, فيما
باتت المشاركة وتداول السلطة سمة محورية للثقافة الديمقراطية في بلد يتجاوز عدد
الناخبين فيه ال800 مليون ناخب.
وفي سياق الدورة الثالثة لاحتفاليات "مهرجان الهند على ضفاف النيل" التي بدأت يوم
الثلاثين من شهر مارس المنصرم, كان المجلس الأعلى للثقافة مقرا لحوار جرى بعنوان
"كلمات على الماء" شارك فيه السفير الهندي نافديب سوري وأداره الأمين العام للمجلس
الدكتور محمد عفيفي الذي نوه بالروابط الحضارية بين مصر والهند, مشيرا الى تعاون
مستقبلي بين البلدين في مجال الحفاظ على التراث.
ومن الوجوه الثقافية المصرية التي تبدي اهتماما بالتجربة الهندية الدالة على إمكانية
نجاح الديمقراطية في دولة نامية, الكاتب سمير مرقس الذي يلفت الى مبدأ ورد في
الدستور الهندي ينص على ضرورة ان يشارك كل مواطن في تنمية الفكر العلمي, فيما لا
يخفي تقديره واعجابه "بأمة من الكادحين قررت ان تواجه واقعها الشديد التعقيد بالعلم",
وجعلت "الابتكار حقا وواجبا".
وأوضح سمير مرقس أن النهضة الهندية قامت على أربعة مقومات أساسية: "جعل العلم قيمة
أساسية في منظومة القيم الثقافية الهندية", و"جعل الإنجاز في مجال العلوم احد معايير
النجاح السياسي وهدفا من أهداف التنمية الوطنية", و"الالتزام بالمعدلات العالمية
الخاصة بالنسب المطلوبة للاستثمار في مجال البحث العلمي", و"ضرورة ربط التقدم
العلمي بالواقع الاجتماعي ومحاولة مواجهة مشاكله وتطويره وفق العلم".
ويرصد سمير مرقس ضمن ما يصفه "بالمشهد السوسيولوجي" سلوكيات مجموعة من الشباب الهندي
كان قد رآهم منذ نحو عقد بمطار روما, مشيرا الى انهم يجلسون في هدوء حيث انكب
كل واحد منهم على "تشغيل اللاب توب" الخاص به حتى موعد قيام الطائرة وعندما حان موعد
إقلاعها توجهوا اليها في نظام مثير, على النقيض من حالة التسارع والصخب والتزاحم
على المخرج المؤدي للطائرة المتجهة لمصر!
وفي تفسير لهذا المشهد, يقول سمير مرقس إنه بعد عشر سنوات وجد الإجابة في كتاب عنوانه
"أمة من العباقرة: كيف تفرض العلوم الهندية هيمنتها على العالم" لأنجيلا سايني.
والإجابة عن السلوك المثير للإعجاب للشباب الهندي كما يقدمها مرقس في ضوء هذا الكتاب
تتمثل في "الألعاب الذهنية", أي الألعاب التي تجمع بين العين واليد والذهن مثل
البلياردو والشطرنج الى جانب الاهتمام بالمسابقات الذهنية في مجالات الفيزياء الكيمياء
والأحياء والرياضيات والفلك, مشيرا الى أن "قاعات الألعاب الذهنية مليئة بالمئات
من الشباب الذين يلعبون في صمت".
ويسجل الكتاب ان هذه البطولات في العلوم تحظى بإقبال جماهيري فيما لا يقف هدفها عند
معرفة الجواب الصحيح وانما الإبداع في صياغة إجابات بطريقة غير نمطية وربما نقد
ماهو متعارف عليه, "ضمن منظومة تعليمية تفرز الملايين من خيرة طلاب العلم على مستوى
العالم كل عام".
وكما يقول سمير مرقس, فإن هذه التجربة تدل على منظومة تتكون من عناصر عدة متشابكة:
المساواة في إتاحة فرصة التعليم للجميع وإعادة النظر في مناهج التعليم لتكون مواكبة
لجديد العصر واعتبار التعليم عملية تكوين ذهني بالأساس تسلح بأساسيات التفكير
المنطقي المركب وفتح المراكز الأولمبية التعليمية لممارسة "الألعاب الذهنية" على
نطاق واسع في ظل تنافسية ابتكارية بديعة.
ومع ذلك; فالمثير للتأمل في المشهد الهندي أثناء الانتخابات العامة أن هناك اعترافا
بوجود فساد واهتماما بضرورة مكافحة الفساد بما يعني عدم إنكار الواقع او الاستسلام
لمقولات براقة وحتى حقائق إيجابية مثل صعود هذه الدولة لمرتبة القوة الاقتصادية
الثالثة في آسيا وتحولها لواحدة من أهم القوى الاقتصادية الصاعدة في العالم.
فالثقافة السياسية الهندية حافلة بدروس مفيدة بالفعل على صعيد التواصل بين الأجيال
واستيعاب الظواهر السياسية - الاجتماعية الجديدة وتطوير فكر الدولة وتقاليدها وتجديد
خلاياها في ظل تطورات العولمة المتسارعة فضلا عن القدرة المشهودة في مواجهة
المشكلات الانقسامية الخطيرة والمهددة للاندماج الوطني والهوية العامة والجامعة لكل
المواطنين.
والديمقراطية كما نجحت الهند في تطبيقها كانت كفيلة بانقاذ هذا البلد العملاق من الوقوع
في هوة "الركود التاريخي" وإعادة إنتاج الماضي وإفراز الجمود والملل في ظل
شخصيات تمسك بزمام الحكم لعقود متوالية وانماط تفكير لاتتغير وليس بمقدورها الاستجابة
لاستحقاقات الحداثة او العيش في الزمن الفعلي للحداثة بما يعنيه هذا الزمن من
حيوية وايقاع سريع وقابلية للتغيير المستمر نحو الأفضل مع عدم التفريط في الأصالة
الثقافية.
وكان سفير الهند بالقاهرة نافديب سوري قد ذكر أن الهدف من إقامة هذا المهرجان هو إعطاء
صورة كاملة للشعب المصري عن بلاده , ليس فقط من خلال أفلام البانوراما أو مشاهير
النجوم الحاضرين, بل استكشاف الثقافة الهندية من موسيقى وفلكلور وشعر وكاريكاتير
وأدب وأزياء ومأكولات, منوها بأن الأعمال الثقافية تقرب المسافات بين البلدين.
فثمة حاجة إلى تأمل الجوانب العميقة في الثقافة الهندية التي تتبدى تجلياتها في مهرجان
"الهند على ضفاف النيل", جنبا الى جنب مع المتعة التي تتيحها فعاليات المهرجان
والتفاعل الواضح من جانب الجمهور مع العروض والأعمال الابداعية الفنية.
ومنذ سنوات طويلة جذبت الهند بالفعل مثقفين مصريين من أصحاب القامات العالية مثل محمد
عودة وكامل زهيري الذي قال إن أول منظر بهره حين زار الهند هو سماء هذا البلد,
موضحا ان سماء الهند تختلف عن كل السموات التي شاهدها سواء في مصر والعالم العربي
او في اوروبا.
فالسماء الهندية, على حد قول الكاتب الصحفي الراحل كامل زهيري, "ارتفاعها شاهق بشكل
ملحوظ وقبتها اوسع واعرض واعلى من كل القباب وأفقها أبعد من كل الآفاق".
ولعل سر هذه السماء المتميزة في الهند - كما يضيف كامل زهيري - أن الحرارة شديدة دائما
, وتتحول أحيانا الى لون باهق البياض يبهر النظر ال حد الألم , ويرتفع السحاب
ارتفاعا شاهقا عن الأرض الى حد يذوب فيه السحاب في جوف السماء ومع هذا الاتساع
والارتفاع يحس اي انسان برعشة من الضآلة وانه صغير القامة مهما كان طويلا مديد القوام!
وتساءل كامل زهيري الذي كان من أعلام الصحافة الثقافية المصرية :"لست ادري هل سر هذا
الميل الى الفناء وسر ذلك الزهد المستحب عند اهل الهند هو ذلك الاحساس بالضآلة
امام سماء الهند?!", مشيرا الى انه عندما زار هذا البلد الفسيح كان غاندي قد مات
وتولى من بعده جواهر لال نهرو قيادة حزب المؤتمر والحكومة فيما وجد في كلمة "الزهد"
اول خيط لتفسير شخصية نهرو وأجواء الهند.
فجواهر لال نهرو كان يحمل لقب "بانديت", وهو من طائفة "البراهما"; أرقى الطوائف الهندوسية,
غير أن شيئا ما حدث في حياة هذا الشاب الرقيق الملامح بدل حياته تماما..
فقد ذهب الى انجلترا ودرس في جامعة كمبريدج وتعرف على كتابات برنارد شو ونيتشه
وكان يمكن أن يعود للهند "انجليزيا اكثر منه هنديا", لكنه عندما عاد لبلاده بعد الحرب
العالمية الأولى شاهد ما غير حياته.
تيقظت عين نهرو الحساسة على عشرات الفلاحين الذين يشكون آلامهم, فيما وصف تلك اللحظات
التي تنبه فيها لواقع الهند وحياة فلاحيها الفقراء بقوله: "نظرت اليهم والى بؤسهم
والى عرفانهم الشديد فأحسست بالخجل من حياتي السهلة المريحة ومن هذه السفسطة
السياسية وامتلأت الما على هذا الحرمان والبؤس وانتهاك الكرامة".
وفي سياق رصد الكاتب المصري الراحل كامل زهيري للتحولات في حياة نهرو يؤكد على وجود
خلافات فكرية متعددة بينه وبين غاندي الذي كان تفكيره يقف عند حدود المعركة الوطنية
وكان يمثل المرحلة التي سماها نهرو "مرحلة بناء الجسور" بين الطوائف والديانات
والاقاليم المختلفة المتنازعة على الدوام.
لكن نهرو الذي تشرب الأفكار الاشتراكية من خلال احتكاكه بالثقافة الأوروبية كان يختلف
في النظرة البعيدة عن غاندي واعتبر أن الاستقلال السياسي ليس هدفا نهائيا للكفاح
الوطني كما ان القومية ليست نهاية في حد ذاتها .
وقد أدرك غاندي ذاته هذا الاختلاف بينهما فقال إن "نهرو يسبق عصره وهذا ما أخشاه عليه
ولكنني احس في نفس الوقت انه عاقل يستطيع أن يوازن بين الأمور" فيما كان نهرو
على مستوى آمال المهاتما غاندي في مواجهة صعوبات شديدة من جهاز الدولة الذي ورثه
من الاستعمار فضلا عن الخلافات الطائفية والقبلية.
ومن هنا حاول نهرو في سنوات حكمه أن يكون فوق حزب المؤتمر الذي ينتمي له وتشبث بالنظام
الديمقراطي الليبرالي رغم انه اشتراكي وانتهج أسلوب التحول البطيء الذي يتطلب
كثيرا من الصبر مستعينا بموهبته المتوازنة ليكون صاحب الفضل في بناء دعائم الديمقراطية
الحقة في بلاده.
وواقع الحال أن نهرو لم يخاصم الثقافة الغربية المتقدمة بل سعى للاستفادة من الإنجازات
البريطانية مثلا في الصناعة والعلوم والجامعات حتى أضحت بعض الجامعات الهندية
تنافس جامعات بريطانيا.
كما اقتدت الصحافة الهندية بصحافة فليت ستريت ولاتزال هذه الصحافة تتطور مثل باقي
الصحافة الكبرى في العالم مع انها نشأت في فقر وعوز ومحيط شديد البؤس كما لاحظ الكاتب
اللبناني سمير عطاالله فيما ينوه بالنظام الديمقراطي في الهند التي كانت ذات
يوم "مجمع الفقر العالمي" وذلك في سياق تناول هذا الكاتب العربي "لإشكالية الديمقراطية
والخبز".
فالهند تشكل اكبر ديمقراطية في العالم وهي تقدم نموذجا إيجابيا ومضادا للتسلط الاستبدادي
بقدر ما تعبر عن نجاح في استيعاب ثقافة ومعنى ومنطق الدولة الحديثة بتعقيداتها
وعلاقاتها المتشابكة وسيادة القانون ولا يقل أهمية عن ذلك كله انها تقدم إجابات
لإشكاليات التنمية في واقع مجتمعي حافل بالمشاكل والتحديات .
وأمضى جواهر لال نهرو اكثر من تسعة أعوام في السجون المختلفة واكثر من 17 عاما في
الحكم وكان من اسبق الزعماء الوطنيين للتفتح على الحل الاشتراكي لكنه صمم على ان
يكون هذا الحل ديمقراطيا اقرب الى أفكار الفابية البريطانية من الماركسية كما هو
اقرب الى البرلمانية السلمية من الثورة المفاجئة فكان "اشتراكيا يلبس ثياب الهند
القطنية البيضاء" على حد تعبير نقيب نقباء الصحفيين المصريين الراحل كامل زهيري.
وعلى الرغم من علل وإشكاليات متعددة في الواقع الهندي فان هذه الدولة التي تجاوز عدد
سكانها المليار نسمة تمكنت من ارتياد الفضاء ناهيك عن صنع السلاح النووي وأضحت
ضمن الدول الصناعية العشر الكبرى في العالم بينما يصل مستوى الادخار الوطني فيها
الى نحو 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي . ولعل النجاح الهندي في مجال برامج
الكمبيوتر والحوسبة جدير بنظرة ثقافية مصرية متعمقة في زمن ثورة الاتصالات والاقتصاد
المعرفي وتأثير هذه المتغيرات على القيم في بلد تركت فيه الهندوسية بصمات
عميقة في الثقافة والممارسات اليومية للحياة والإنتاج الفني وعادات تناول الطعام.
لكن الهندوسية كعقيدة غالبة في الهند وحاضرة في الثقافة الهندية تتباين تفسيراتها
الآن في هذا المجتمع ما بين نظرة تركز على التسامح مع أصحاب العقائد المغايرة واحترام
النساء ونظرة متشددة تنمو في المدن الصغيرة والريف وتنزع نحو الغلظة مع أصحاب
العقائد الأخرى كما تتشدد في معاملة النساء, واكتسبت هذه النظرة المتشددة خطورتها
مع زحف المنتمين لها على المدن الكبرى وسعيهم لفرض رؤيتهم بالقوة.
ورغم الطفرة الاقتصادية الهائلة في الهند خلال العقدين الأخيرين, فإن بعض الباحثين
عن الشهرة والمصالح الشخصية من كوادر الأحزاب الهندوسية المتطرفة نصبوا انفسهم زعماء
وأضفوا على أنفسهم قداسة مزعومة وتلاعبوا بعواطف المتعصبين من أتباعهم, وهي
قضية تثير قلق الكثير من المثقفين الهنود ووسائط التعبير الثقافي في هذا البلد الكبير.
إن الحاجة ماسة لاحترام الجانب الإنساني الخاص بحق المواطن في العمل والأمل.. والتجربة
الهندية تبرهن على ان الديمقراطية هي الفضاء الطبيعي لخارطة الأمل والعمل والسعادة..
وهاهم المثقفون المصريون يستبشرون خيرا بالحدث الثقافي الهندي الكبير وها
هي الثقافة المصرية تدخل في حوار حميم مع الثقافة الهندية.
واذا كان السفير الهندي نافديب سوري قد أشار إلى أن هذا المهرجان الثقافي لبلاده في
أرض الكنانة يوجه رسالة للعالم بأن "مصر آمنة", فإن أرض الكنانة ترحب بكل ضيوفها,
فيما تشب من أضلاعها نسائم سنديان ومحبة.. على ضفاف النيل مازال الكروان يسجد
خلف مآذن الصفصاف.. يغرد باسم مصر ويغني للغد الآتي.