القاهرة 12 ابريل 2015 الساعة 12:36 م
مرّت مأساة الشعب الفلسطينى بعدة مراحل : الأولى التأسيس الدينى وفق آيات العهد القديم حيث نص ((وكان فى الأرض جوع. فذهب إسحق إلى أبيمالك ملك الفلسطينيين. وظهرله الرب وقال ((لأنى لك ولنسلك أعطى جميع هذه البلاد وأفى بالقسم الذى أقسمت لإبراهيم أبيك)) (تكوين 26 : 1- 4) واستدعى الرب يشوع وقال له ((موسى عبدى قد مات. فالآن قم أعبرالأردن كل موضع قدم تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيه كما كلمت موسى. من البرية ولبنان هذا إلى النهرالكبيرنهر الفرات)) (يشوع 1- 9) وأيضًا (فى ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقًا قائلا لنسلك أعطى هذه الأرض. من نهرمصرإلى النهرالكبيرنهرالفرات) (تكوين 15- 18) و((إنى أنا الرب ساكن فى وسط بنى إسرائيل)) (عدد35) و((الرب إله إسرائيل حارب عن إسرائيل)) (يشوع 10) و((فقال الرب لداود إصعد لأنى دفعًا أدفع الفلسطينيين ليدك)) (صموئيل 2/5) و((رنّموا للرب الساكن فى صهيون)) (مزمور9 لداود).
والعنف تبنّته الصهيونية من العهد القديم. ففى سفر التثنية يقول موسى لليهود إنه عند دخول مدينة لمحاربتها وقبلتْ الصلح ، فإنّ أبناء الشعب المغزو يتحوّلون إلى عبيد لبنى إسرائيل. أما فى حالة رفض الصلح ، يقول موسى ((وإنْ لم تُسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فإضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما فى المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك)) (تثنية 20 ) وأيضًا ((قتل كل بكرفى أرض مصرمن بكرالناس إلى بكرالبهائم)) (خروج 13 ومزمور78) بعد هذه الأمثلة من العهد القديم المتخم بآيات عديدة تُحرّض اليهود على الاستيطان فى أراضٍ ليست لهم ، فإنّ الباحث قد يلتمس العذرللشعب الفلسطينى الذى استقرفى أرضه أكثرمن ألفىْ عام ولم يُحذره مثقفوه من خطورة مرجعية بنى إسرائيل الدينية التى ظلت تحت الرماد حتى اشتعلت عام 1897 .
المرحلة الثانية : المخطط الصهيونى
فى منتصف القرن 19 ب. م أصدرالكاتب الألمانى موزيسى هيسى كتاب (تاريخ البشرية) قال فيه ((إنّ شعب الله المختار ينبغى أنْ يختفى إلى الأبد ليفسح الطريق لحياة جديدة أكثرنقاءً وطهرًا)) ولكنه تراجع عن أفكاره وقرّراعتناق الصهيونية فأصدرعام 1862 كتابه (روما والقدس) دعا فيه إلى تجميع اليهود من شتاتهم وإحتلال فلسطين. وفى عام 1896 أصدرهرتسل كتابه (الدولة اليهودية) وفى العام التالى عقد المؤتمرالصهيونى الأول. ثم ظهر كاتب ألمانى (آرثر روبين) الذى شدّ أنظارالصهاينة بكتابه (اليهود فى الزمن الراهن) فطلبوا منه التوجه إلى فلسطين لإعداد تقريرعن أوضاع المستوطنات الصهيونية هناك. وعيّنته الحركة الصهيونية رئيسًا لمكتب المنظمة الصهيونية فى فلسطين. والسؤال المسكوت عنه هو: إذا كان الصهاينة نجحوا فى (زرع) مكتب لهم فى فلسطين عام 1907 فكيف تم ذلك وبهذه البساطة ؟ وإذا كان العرب فى ذاك الوقت مجرد قبائل متصارعة ولم يستقروا فى (أوطان) وفق التعريف العلمى لمفهوم الوطن أو مفهوم الدولة State فلماذا لم ينتبه الفلسطينيون للخطر المحدق بهم بعد أنْ صار الصهاينة فى عقر دارهم ؟ ما الأسباب التى منعتْ الخيال الشعبى الفلسطينى من بدء الكفاح المسلح ؟
المرحلة الثالثة : وعد بلفور1917
فى هذا التاريخ المشئوم شهد العالم انحيازأكبردولة استعمارية للحركة الصهيونية بمؤازرة اليهود وتشجيعهم فى إقامة وطن لهم فى فلسطين. وإذا كانت هذه المرحلة تنتهى فى 14 مايو 1948 تاريخ إعلان الدولة الإسرائيلية ، وشهدت انتفاضات عديدة للشعب الفلسطينى فلماذا لم يحدث التراكم الكيفى بعد كل تضحيات الفلسطينيين قبل قرار التقسيم 181 عام 47 ؟ لماذا انتصرت الصهيونية على أصحاب الحق التاريخى ؟ لماذا لم يكن التراكم لصالح أصحاب الحق ؟ وهل السبب أنّ تضحيات الفلسطينيين كانت بعيدة عن التعريف العلمى لحرب التحرير الشعبية ؟ أعتقد أن محاولة الإجابة الجادة ستساعد فى فصل الأوهام عن الحقائق والأساطيرعن الواقع. ومن أمثلة الأوهام / الأساطيرالدورالذى لعبه الخطاب الإعلامى / الثقافى العروبى الذى ركزعلى أنّ الدول العربية وشعوبها مسئولة عن تحريرفلسطين قبل الفلسطينيين. وهكذا تسبّب الخطاب العروبى فى تعميق المأساة ، لأنّ خبرة الشعوب التى ناضلت من أجل تحريرأوطانها ، تؤكد أنّ الاعتماد على الذات هوالأساس فى الانتصارعلى المحتل. تلقى الشعب الفيتنامى المساعدات ، ولكن كان هو المسئول الأول الذى قاد حرب التحريرالشعبية حتى تحقق له النصر. وكانت المقاومة متحدة ومنظمة. وذكر كل الذين كتبوا عن المناضل والمفكر(هوشى منه) أنه كان يُفضل العمل على الخطابة. كما أنّ أدبه منعه من سب الأنظمة التى وقفتْ تتفرج على جرائم الأمريكان ولم تمد يد المساعدة إلى الشعب الفيتنامى. ولم تخرج طائرة فيتنامية لتقتل لاعبى كرة أمريكان خارج فيتنام. لذلك كسب الشعب الفيتنامى تأييد واحترام كل شعوب العالم وفى المقدمة الشعب الأمريكى الذى أدى دورًا مهما فى الانسحاب من فيتنام . وبينما اعتمد الخطاب العروبى على أنّ الفلسطينيين أصحاب حق ، تغاضى عن عوامل القوة التى تُدعّم هذا الحق. ومنذ مايو48 فإنه كلما تصاعد الخطاب العروبى الإنشائى كلما تفاقمتْ مأساة الفلسطينيين. بينما تتراكم انتصارات إسرائيل التى توّجتها فى يونيو67 بهزيمة أكثرمن دولة ، فى حرب يصعب على أجيال الألفية الرابعة تصديق نتائجها. وقد يحسبون روايتها من باب الأساطيرأوالغيبيات أوالخرافات.
تعمّد الخطاب العروبى تزييف الوعى. فإنّ معرفة (إسرائيل من الداخل) عمالة للصهيونية. وكان هذا يُسعد إسرائيل التى أصبحت سادس دولة نووية بعد 22 عامًا من قيامها. وتعتمد فى دخلها القومى على تصديرالبرمجيات. والمقارنة بينها وبين الدول العربية فيما تنفقه من الدخل القومى على البحث العلمى تأتى لصالحها. كما تتفوق فى مجال التعليم. وأنّ المستوى المعيشى للمواطن الإسرائيلى أكبربنسبة 17% من المستوى المعيشى لبعض الدول العربية المنتجة والمصدرة للبترول. ورغم ذلك يُصرالخطاب العروبى على وصفها ب ((الدولة المزعومة)) ومن الأوهام القول بإنها الولاية رقم 51 لأمريكا. وهو وهم شبيه بوهم إلقائها فى البحر. ويكفى أنها تتجسس على أمريكا. فى حين أنّ القواعد الأمريكية رابضة فى أكثرمن بلد عربى .
كعب أخيل فى دولة إسرائيل
يعانى المجتمع الإسرائيلى من صراع يقسمه نصفين : بين جبهة الحاخامات الذين يرون أنّ النص الدينى يسمح لهم بإبادة الفلسطينيين ، وجبهة العلمانيين الرافضين للمرجعية الدينية. ويرفضون التوسع على حساب أراضى الغير. وفى حالة صعوبة تحقيق دولة علمانية واحدة فلا مفرمن إقامة الدولة الفلسطينية. هذا الصراع برزفى أكثرمن مشهد. فمنذ عدة سنوات رفضت (ألوميت شالومى) التى كانت وزيرة التعليم الإنفاق على المدارس الدينية. وامتلكت شجاعة الإعلان بأنّ الجولان أرض سورية. شنّ الأصوليون عليها حملة شرسة. بعدها جاء (يوسى ساريد) ليُكمل مسيرتها فتعرّض أيضًا للهجوم من الأصوليين الذين هاجموا (هرتسل) لأنه ((عندما زارالقدس انتهك العديد من الشعائرالدينية اليهودية)) إنصبّ الهجوم على هرتسل وأمثاله لأنهم نادوا بأنّ الوطن المنشود لابد أنْ يقوم على أسس علمانية. وهاجموا الكاتب الألمانى (ماكس نورداو) وهوصهيونى وصديق هرتسل لأنه قال إنّ التوراة ((تُعتبركعمل أدبى أقل من أعمال هوميروس والكلاسيكيات الأوروبية. ومقززة كنظام أخلاقى)) (نقلا عن د. رشاد الشامى- القوى الدينية فى إسرائيل- عالم المعرفة الكويتى- يونيو94 ص20) .
كما أنّ فكرة العهد بين الله والشعب بمنحه أرض فلسطين المقدسه كانت الأسطورة الشعبية ل (بن جوريون) الذى اعتمد على العهد القديم الذى لايؤمن به. ولم يكن يهمه إنْ كان الوعد الإلهى حقيقة أم لا. والمهم هو استمرارالأسطورة. وعندما سُئل هل يؤمن بالله أجاب ((السؤال هو : من الله؟! إنّ معظم اليهود يتصوّرونه رجلا عجوزًا. ويعتقدون أنه تحدّث إلى موسى. بيْد أننى أومن بقوى مادية فحسب فى العالم)) فكتب د. رشاد ((بالرغم من هذه النظرة السلبية للدين ، كان بن جوريون يُدرك أهمية استغلال الدين فى سبيل تدعيم الصهيونية. وأنه قال ((على دولة إسرائيل أنْ تعتمد على نفسها وعلى إلهنا الذى فى السماء)) ويرى د. رشاد أنّ بن جوريون كان يتطلع إلى بناء دولة عصرية حتى لو خالفت كل ما ورد فى التوراة. ويرى أنّ العمل هوالكفيل ببناء الدولة وليست الغيبيات. ولذلك كتب بعد قيام الدولة ((على اليهودى من الآن ألاّ ينتظرالتدخل الإلهى لتحديد مصيره. بل عليه أنْ يلجأ إلى الفانتوم والنابالم. إنّ الدين هو وسيلة مواصلات . ولذلك يجب أنْ نبقى فيها بعض الوقت لا كل الوقت)) ولم يكن يرتاح للمتدينيين فكتب ((إنّ حياة اليهود لو تُركت للحاخامات لظلوا حتى الآن كلابًا ضالة ينتظرون المسيح الذى يهبط عليهم من السماء))
ويتفق أتباع حركة (نطورى كارتا) على معاداة الصهيونية والانعزال عن إسرائيل لأنها قامت على يد نفرمن الكفارالذين تحدوا مشيئة الله بإعلانهم دولة إسرائيل بدلا من انتظارالمسيح المخوّل وحده بإقامة مملكة إسرائيل. وأدانتْ غزوإسرائيل للبنان عام 1982 وبعد أنْ صدرت قرارات المجلس الوطنى الفلسطينى عام 88 والتى أعلنت قيادة فلسطينية فى الضفة والقطاع والاعتراف بإسرائيل ، أيّدت الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية. وترى أنّ الكفاح الفلسطينى المسلح مشروع. ومع حق الفلسطينيين فى استرجاع أراضيهم. وانتقد الحاخام (موشيه هيرش) محاولة إجبارأتباعه على الخدمة العسكرية. وقال ((إنهم يريدون إنضمامنا إلى آلة الحرب ضد العدوالذى أوجدوه لخدمة مصالحهم ولتوسيع سيطرتهم على مناطق تابعة لشعوب أخرى)) (من 313- 338) .
ومن مظاهرالصراع أنّ العلمانيين يرون أنّ المواطنين متساوون فى الحقوق والواجبات. بينما يرى الأصوليون العكس ويحرصون على التمييزالذى يُهدد أى مجتمع وخصوصًا الموقف من المرأة وأصناف الطعام المحرمة وتقديس يوم السبت وعدم تشريح الجثث ومهاجمة دورالسينما وحمامات السباحة المشتركة واستخدام السلاح ضد اليهود الضالين وضد الصحف العلمانية إلخ وأنهم يشنون حربًا مقدسة باسم الرب. واعتدوا على العلمانيين الرافضين للمرجعية اليهودية. ووصف الأديب عاموس عوز المتدينين بأنهم ((حمقى ومجانين تحرقهم أنوارالنبوة)) وفى كتاب آخر (الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية) عالم المعرفة الكويتى- يونيو86 ذكرد. رشاد أنّ عالمة نفس إسرائيلية كتبت ((إنّ الحرب فى إسرائيل جزء من الماضى والحاضروالمستقبل. ويسأل الإسرائيلى نفسه : هل يُسعدنى الحظ فى الحرب القادمة وأنجوكما نجوت فى الحروب السابقة ؟)) وكتب الشاعريعقوب باسار((الحرب المقبلة نُنشئها.. نُربيها.. ما بين حجرات النوم وحجرات الأولاد)) أما الأغنية التى شاعت بعد حرب 67 فهى ((حين نتنزه نكون ثلاثة : أنا وأنت والحرب القادمة.. وحين ننام نكون ثلاثة : أنا وأنت والحرب القادمة)) (242- 246) .
اليهود فى التراث الإنسانى
ظللتُ لعدة سنوات أفرّق بين اليهودية باعتبارها دين والصهيونية باعتبارها مذهب سياسى عنصرى للاستيلاء على أرضى الغير. ثم شغلنى سؤال: لماذا كرهتْ الشعوب الأوروبية اليهود ؟ لماذا كانت الصورة المزرية لليهود فى كتابات المبدعين مثل شكسبيرفى مسرحية (تاجرالبندقية) أوجيمس جويس فى رائعته (عوليس) أوكتابات المؤرخين حول معاملة الأوروبيين لليهود بقسوة وصلت لدرجة الإبادة مثلما فعل الرومان فى مذبحة تيتوس الشهيرة. ومذبحة هارديان. ومثلما أحرق الصليبيون اليهود فى معبدهم عندما استولوا على القدس عام 1099. فلماذا هذا الموقف من اليهود ؟ ذكرأينشتاين (وهوموسوى الديانة) فى كتابه (حول الصهيونية : خطابات ورسائل) الصادرعام 1931 ((إننا ندين إلى اللاسامية بالمحافظة على وجودنا واستمرارنا)) أى أنّ السامية التى ينتمى إليها اليهود ضد الوجود الإنسانى ، ولذلك رفض عرض (بن جوريون) عام 52 أنْ يكون رئيسًا لإسرائيل. أما سارترفكتب فى كتابه (اليهودى واللاسامية : بحث فى علم أسباب الحقد) الصادرعام 48 ((إنّ العامل الوحيد الجامع بين اليهود هوعداء المجتمعات المحيطة بهم وكراهيتها لهم)) وكتب ماركس (موسوى الديانة) فى كتابه (المسألة اليهودية) أنّ أسباب كراهية الشعوب لليهود هوأنهم رفضوا أنْ يعيشوا فى مجتمعاتهم كمواطنين. وأنّ تمسك اليهود باليهودية تغلب على ((الجوهرالإنسانى الذى كان ينبغى أنْ يربطهم بسائرالناس)) وانتهى إلى أنّ خلاص البشرية من اليهود ، بل والتحرراليهودى ((يقوم بتحريرالإنسانية من اليهودية))
وكتب فولتيرأنّ الشعب اليهودى ((حامل لأبشع المعتقدات الخرافية وأدنى أشكال العهروالبغاء وأكثرضروب السلوك البشرى وحشية ودموية)) وكتب توينبى أنّ ((اليهودية هى أقبح أمثلة عبادة الذات)) وبعد مذبحة ديرياسين وجّه نقدًا شديدًا ضد بنى إسرائيل وقال ((إنّ الدرس الذى استخلصه اليهود من مواجهتهم مع النازى قادهم- لا إلى تجنب الجرائم التى ارتكبها النازيون ضدهم- بل إلى تقليدها)) أما فرويد (موسوى الديانة) فقد وصف إدعاء اليهود بأنهم شعب الله المختاربأنه خرافة. وأنهم أخذوا عن المصريين تحريم لحم الخنزيرونسبوه لأنفسهم. وكتب فى كتابه (موسى والتوحيد) ((ليس بوسع أى مؤرخ أنْ ينظرإلى القصة التى ترويها التوراة عن موسى والخروج بأكثرمن أنها أسطورة دينية)) وفى رسائله المنشورة مؤخرًا تبين أنه رفض المساهمة فى الدعاية الصهيونية لمعارضته إنشاء وطن لليهود على أرض شعب آخر.
الصهيونية أعلى مراحل اليهودية
أود أنْ أوضح أننى لستُ ضد اليهود كبشر، وأنّ كثيرين من مفكرين ومبدعين ونشطاء سياسيين ، ينتمون إلى الديانة الموسوية (نسبة إلى موسى) بواقعة الميلاد ، ومع ذلك وقفوا بصلابة ضد إنشاء دولة لبنى إسرائيل ، وضد التوسع ، ومع إقامة الدولة الغلسطينية. وبناءً عليه أنا ضد أى يهودى يتمسك بتطبيق ما جاء فى العهد القديم من الاستيلاء على أراضى الغير. وبالتالى فإننى أرى- على نسق الصيغة الماركسية- أنّ الصهيونية أعلى مراحل اليهودية. والتاريخ يؤكد أنّ اليهود رفضوا الاندماج فى أوطانهم الأصلية كسائرالبشر. وفضلوا العيش داخل جيتوهات مغلقة إلى أنْ نجحوا فى تكوين أكبرجيتوبعد استيلائهم على أرض الشعب الفلسطينى. أى أنّ اليهودية تحوّلت من عقيدة دينية إلى مذهب سياسى ثم امتزجا فصارا كوجهىْ العملة. وكان اسم هذه العملة (الصهيونية) وبالتالى لاخلاص للبشرية (ولليهود كبشر) من هذه النزعة الصهيونية إلاّ عبرتحريرالإنسانية من اليهودية ، كما تنبّأ ماركس وهو ما يؤمن به التيارالعلمانى داخل إسرائيل وخارجها .
كما أننى أختلف مع من يُروّجون لمقولة أنّ يهود القرن العشرين ب. م غيريهود القرن العشرين ق. م على أساس العامل الأنثروبولوجى (د. جمال حمدان ود. عبدالوهاب المسيرى نموذجًا فى كتاب " اليهود أنثروبولوجيًا " دارالهلال – فبراير96) لأنّ العبرة بمدى التمسك بالعهد القديم وليست بالصفات التشريحية. ودليلى على ذلك ما ذكرته الصحف الفرنسية من وجود إنشقاق حاد بين اليهود فى فرنسا حول القضايا الرئيسية التى تمس وجودهم ومنها تعريف اليهودى : من هو؟ وأنّ حاخامات فرنسا وكهنتها يُطالبون اليهود بأنْ يكون ولاؤهم الأول لدينهم وبالتالى لإسرائيل قبل أنْ يكون لوطنهم (فرنسا) الذى يعيشون فيه (نقلا عن أ. أحمد يوسف أهرام 12/12/2000).
أعتقد أنّ خلاص الشعب الفلسطينى والدول المجاورة لإسرائيل من الفكرالصهيونى المؤمن بالتوسع والعدوان الوحشى ، لن يكون إلاّ بدعم التيارات العلمانية. وبالتفوق على إسرائيل فى مجالات البحث العلمى والتعليم والإنتاج والتصديرورفع المستوى المعيشى وعدالة توزيع الناتج القومى وعلمنة مؤسسات الدولة وإطلاق الحريات بالفعل وليس بالقول وصناعة السلاح ذاتيًا. ورفع الوصاية من على الشعب الفلسطينى. ودعمه ليخوض حرب السلام بعد أنْ فات وقت الحرب الشعبية على الطريقة الفيتنامية. إنّ دعم التيارات العلمانية فى إسرائيل وفى الدول المحيطة بها هوالسبيل الوحيد لهدم المشروع الصهيونى. فهل تقبل الدول التى لها مصلحة فى التخلص من الصهيونية التحدى من أجل مستقبل أفضل للأجيال القادمة ؟ أم تظل على سياستها الحالية المتمثلة فى العداء لقيم العلمانية والعداء لمعنى الانتماء الوطنى لصالح الانتماء الدينى ، الأمرالذى يؤدى إلى تدعيم الأصولية فى بلدانها وفى إسرائيل ؟ ومع ملاحظة أنّ التصدى للأصولية اليهودية لابد أنْ يتزامن ويرتبط بالتصدى للأصولية فى البلاد المحيطة بإسرائيل التى تساند وتُدعّم هذه الأصوليات. ويكمن الخطر فى أنّ الأصوليين فى إسرائيل وفى البلاد المجاورة لها يتشابهون فى الكثيرمن المعتقدات ، لعلّ أخطرها أنْ يكون الولاء للدين وليس للوطن .