القاهرة 12 ابريل 2015 الساعة 11:57 ص
كتب: حسام إبراهيم
إذ يحتفل المسيحيون في مصر اليوم بعيد القيامة المجيد, فيما يحتفل كل المصريين
غدا بعيد شم النسيم, فإن الاحتفالين معا حافلان بالرموز والدلالات
الثقافية النبيلة والمؤكدة على تفرد مصر التي باركها السيد المسيح, فيما أكد سيدنا
ونبينا محمد على أنها "كنانة الله في أرضه من أرادها بسوء قصمه الله".
ويقول المفكر الاستراتيجي الراحل جمال حمدان "إن الأقباط أقرب المسيحيين في العالم
إلى الإسلام بمعنى أو آخر.. وفي هذا تفرد يضاف إلى تفرد مصر بعامة, فكما أن مصر
فلتة جغرافية فإن الأقباط فلتة طائفية".
وأضاف جمال حمدان "قد لا توجد بل قطعا لا توجد أقلية دينية في العالم كالأقباط في
مصر, فليس في العالم أقلية دينية عاشت في أعمق أعماق أحضان الإسلام وعايشته حتى النخاع
في حنايا وظلال مجتمع إسلامي وحضارة إسلامية بالكامل كالأقباط, أقلية مشبعة
تماما بالجو والبيئة".
ويضيف الراحل العظيم وعاشق مصر, الذي استطاع بمهارة فائقة أن يحول علم الجغرافيا بتضاريسه
وجباله ووديانه إلى سيمفونية موسيقية رائعة, "ليكن أقباطنا همزة الوصل وأداة
الربط ورابطة الصداقة بين المسيحية والإسلام كما بين مصر والغرب, وليكن هذا أيضا
دور المسيحية العربية على وجه العموم".
وفي اليوم التالي لاحتفال المسيحيين بعيد القيامة المجيد يحتفل كل المصريين بيوم شم
النسيم كعيد قومي مصري له دلالات ثقافية تاريخية متصلة بالهوية المصرية الضاربة
في عمق التاريخ, فيما يتوقع الدكتور احمد عبد العال رئيس الهيئة العامة للأرصاد
الجوية أن يكون الاحتفال بشم النسيم غدا في أجواء ربيعية لطيفة تستمر
طوال النهار على معظم أنحاء البلاد.
وفي كتاب صدر بعنوان (صفحات من أوراقه الخاصة), أكد الدكتور جمال حمدان أن مصر ببساطة
أقدم وأعرق دولة في الجغرافيا السياسية للعالم, وهي غير قابلة للقسمة على اثنين
أو أكثر مهما كانت قوة الضغط والحرارة".
واعتبر أن مصر هي قدس أقداس السياسة العالمية والجغرافيا السياسية.. ومن المتصور تماما
وإن بدرجات متفاوتة أن تنكمش أو تنقسم كل دول العالم إلا مصر, لأن مصر السياسية
هي ببساطة من خلق الجغرافيا ونبت طبيعي بحت, ولعل منطقة كشبرا تجسد كل هذه المعاني
والدلالات المصرية النبيلة.
وإذا كانت الثقافة ممارسة وفعل يومي يمارس على نطاق واسع بطرق وأشكال لا نهائية فلعل
هذا الحي العريق الواقع شمال القاهرة هو التجسيد الحي على الأرض لثقافة التسامح
ومعنى الإخاء وتلاوين المحبة بين الجميع دون تفرقة ممجوجة بين مسلمين ومسيحيين.
فهنا في "شبرا مصر" الفضاء الأبرز للتسامح الطبيعي والحياة الطبيعية بعيدا عن الشعارات
والتنظيرات.. وهنا في هذا الحي الذي تقطنه أغلبية من الشريحتين الدنيا والمتوسطة
للطبقة الوسطى المصرية, والذي يحلو للبعض تشبيهه بالحي اللاتيني في باريس مازالت
الروح تنبض بالحب والاحتفال بالحياة.
مسجد "الخازندار" قريب قريب من كنيسة "سانت تريزا", التي يؤمها مسلمون إلى جانب المسيحيين
للتبرك, بل كان يأتي لها نجوم في الحياة العامة مثل عندليب الغناء الراحل
عبد الحليم حافظ.
لا تبدو شبرا مثل بعض الأحياء الجديدة أو مناطق الضواحي "ذلك الكائن العملاق المخيف",
الذي يتوه فيه القادم من خارج المنطقة فهي رحبة ومرحبة بالجميع وليست "مدينة
بلا قلب", فيما تشكل علاقة أبناء الحي بهذه المنطقة قصة مصرية حميمة للغاية.
ولا يكاد بمقدور من عاش خارجها أن يشعر بمدى عمقها وتركيبها, خاصة لهؤلاء الذين كتب
عليهم "الخروج من شبرا" والإقامة في أحياء ومناطق أخرى أو السفر الطويل للخارج.
وفيما أفرزت الساحة الثقافية المصرية أدباء شبان يكتبون عن عالم الأقباط, مثل هدرا
جرجس المولع بالكتابة عن المطارنة والمتدينين من المسيحيين, ويغزل الحكايات الشعبية
في سرده ضمن مشروع حكي "لابن اسوان" يستلهم من الجنوب حكايات مختلفة ومغايرة,
فإن عالم شبرا لا يعرف أي نوع من "الجيتو" فهو منفتح على الجميع وللجميع.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في سياق كهذا "من يكتب شبرا ويكتب عن شبرا"?!..
صحيح أن أعمالا درامية ظهرت في التلفزيون والسينما عن حي شبرا لكنها لم ترق لمستوى
عبقرية المكان والتاريخ والزمان, ومن هنا فإن الناقد والكاتب الكبير فاروق عبد
القادر, وهو ابن شبرا, تمنى غير مرة أن يكتب عن هذه المنطقة الفريدة التي عاش فيها
لكنه قضي قبل أن يحقق أمنيته الإبداعية.
لا أحد بمقدوره في الغالب أن يفلت من تأثير المكان, وهذا مايتجلى بوضوح في إبداعات
هرم الرواية المصرية والعربية أديب نوبل نجيب محفوظ, الذي ولد في حي الحسين وعاش
في هذا الحي القاهري طفولته وصباه وشبابه الأول.
وحي الحسين أشبه "بجامعة كبرى" لا يمكن أن يفلت من تأثيرها من عاش فيها وأحبها وانتمى
إليها خلال فترة أساسية من العمر, كما حدث مع نجيب محفوظ, وهكذا كان من الطبيعي
أن يؤثر هذا الحي القاهري في أدب نجيب محفوظ.. وذلك التأثير واضح كل الوضوح في
"المرحلة المحفوظية", التي يسميها النقاد باسم "المرحلة الواقعية" فكثير من أسماء
رواياته مستمد من بيئة الحسين مثل "خان الخليلي" و"زقاق المدق" و"بين القصرين"
و"قصر الشوق" و"السكرية", وكلها أسماء شوارع وأزقة في حي الحسين انتقلت إلى عالم
نجيب محفوظ الروائي الذي رفع راية الحسين فأصبحنا نشم رائحة هذا الحي ونكاد نرى خريطته
الجغرافية والإنسانية معا كما قال الناقد الراحل رجاء النقاش.
والظاهرة حاضرة أيضا في إبداعات توفيق الحكيم حيث اتخذت روايته الشهيرة "عودة الروح"
من حي السيدة زينب القاهري مسرحا لها وكذلك فعل يحي حقي في روايته "قنديل أم هاشم",
حيث اتخذ من هذا الحي الشعبي العريق بيئة للرواية.
فمتى تجد "شبرا مصر" من يكتبها على مستوى يليق بعبقريتها الجغرافية والإنسانية ويستخدمها
بيئة لعمل إبداعي كبير ويستخدم قاموسها الإنساني كما استخدم الحاضر الغائب
نجيب محفوظ "قاموس حي الحسين الشعبي" في كثير من الأحيان للتعبير عن أفكاره وتجاربه
ناهيك عن استخدامه لرمزية "الحارة التي تعادل العالم أو الدنيا" و"الفتوات" الذين
يمثلون "القوة" ويملؤون أدبه بالحيوية, فضلا عن "العنصر الصوفي" بما يولده من
نشوة كبرى في النفوس.
وإذا كان نجيب محفوظ قد تفوق في لعبة كرة القدم في ساحات وشوارع حي الحسين وكذلك في
حي "العباسية", حتى أنه قال مازحا "لقد أضعت مستقبلي الكروي في سبيل الأدب" ففي
شبرا وملاعب مدرسة التوفيقية كان المفكر الراحل جمال حمدان في شبابه الأول نجما
من نجوم الساحرة المستديرة ولطالما أبدع كرويا حتى أنه كان يمكن أن يكون لاعبا نجما
بمقاييس أيامنا الحاضرة.
وفي شبرا عاش الموسيقار بليع حمدي أيام الصبا والشباب, كما عاش الفنان الكبير حسين
رياض والنجمة العالمية داليدا, والفنانة الكبيرة ماري منيب, وكثير من الأسماء التي
توهجت في دنيا الفن وعالم الكتابة.
ومازال كبار السن في منطقة "مسرة" بحي شبرا العريق يتحدثون عن أيام الشباب الأول "لبابا
مصر والعرب الراحل شنودة", الذي تظهر صوره في تلك المنطقة وغيرها من ربوع شبرا
مصر الزاخرة بالكنائس جنبا إلى جنب مع المساجد.
ولعل الكثير من أبناء شبرا يستعيدون بشجن مقولة للبابا الراحل شنودة "إن مصر وطن يعيش
فينا" تماما كما يسترجع بعض كبار السن في تلك المنطقة, التي جسدت ومازالت معاني
الوطنية المصرية الجامعة إن "البابا شنودة كان حبيب الملايين من المسيحيين والمسلمين
معا".
وفي هاتيك الأيام من أربعينيات القرن الـ20 كان البابا شنودة أو "نظير جيد روفائيل"
شابا كثير القراءة, كما عرف في منطقة مسرة, حيث كان يؤسس لخلفيته الثقافية الرفيعة
قبل أن ينتمي لذلك الجيل الأول من الرهبان الجامعيين من أصحاب التخصصات العلمية
المختلفة ليقود الكنيسة الوطنية المصرية على مدى 41 عاما.
وتحول البابا شنودة دارس التاريخ وضابط الاحتياط لسنوات بالجيش الوطني المصري إلى
مدرسة للوطنية المصرية الخالصة والرافضة بقوة وحسم لأي تدخل أجنبي في الشأن المصري
الجامع للمصريين مسيحيين ومسلمين, وهو الذي تولت سيدات مسلمات في قريته "السلام"
بمحافظة أسيوط رضاعته بعد أن توفيت والدته لتتركه رضيعا يتيما ليكون بعد ذلك الأب
الحنون لكل المصريين.
والبابا شنودة, الذي قضي يوم 17 مارس عام 2012 وعاش فترة من حياته في "شبرا مصر",
تكاد حياته المديدة تعبر عن حقيقة تتجلى بوهج في حي شبرا, وهي أن الأقباط المسيحيين
مكون أساسي من مكونات البنية المجتمعية المصرية, ولا يمكن تصور مصر دونهم, وأنه
إذا كان التاريخ حاشد بالمكائد والمخططات الخارجية فإنه حافل أيضا بالقامات الوطنية
المصرية الشامخة.
وبقدر ما تؤكد الحقائق التاريحية على أن "المسيحية العربية" قدمت للأمة كوكبة مضيئة
من المناضلين على مستوى الفكر القومي وحركة المقاومة ضد المشاريع الاستعمارية التقسيمية
بقدر ما تشهد على أن البابا شنودة كان مناهضا للاستقواء بالخارج والمحاولات
الآثمة لضرب مفاهيم الهوية الوطنية بالغلو الطائفي.
كلها مفاهيم تنبض بالحياة على الأرض في "شبرا مصر" ودون تنظيرات أو فلسفات ونظرة
على الإنترنت أو "الشبكة العنكبوتية" تكشف عن كثير من الكتابات التي تنبض بالحب والحنين
"لشبرا", وخاصة لهؤلاء الذين كتب عليهم أن يخرجوا منها ليعيشوا في مناطق أخرى
"دون أن تخرج شبرا منهم أبدا".
وعلى سبيل المثال ها هي مدونة "شبراوية من شبرا" تتحدث فيها سيدة شبراوية مجهولة عن
المكان والزمان و"شارع خلوصي ودوران شبرا وكورنيش روض الفرج وفسحة العصاري في شارع
الترعة وسينما الأمير ومولد النبي ومولد ماري جرجس وآذان الفجر وأجراس الكنائس
وجمال شهر رمضان وجورج شقيقها في الرضاعة وهي المسلمة وزفة الحجاج".
تقول هذه "المدونة الشبرواية" على شبكة الإنترنت "جميلة يا حبيبتي يا شبرا" مستعيدة
أجواء التسامح والآمان, فيما تتساءل بقلق عما حدث من متغيرات في الحياة المصرية
تتعارض مع "ثقافة شبرا", فيما تبدو كتاباتها مثل مدونين آخرين إيماءة لما يصفه البعض
"بأدب الإنترنت".
لا يمكن في الأدب مثل بقية العلوم النظرية استخدام التعميم كوسيلة لطرح الاستنباطات
أاو نتائج عملية تحليل تطور الفنون لكن يظل بالإمكان ملاحظة مجموعة من "التيمات"
والأفكار التي تظهر بقوة في كتابات مرحلة ما ويمكن القول إن قضية العلاقة بين المسلمين
والمسيحيين باتت ظاهرة في عدة أعمال إبداعية سواء في أعمال ورقية أو إلكترونية..
لكن الثابت أن "ثقافة شبرا مصر" مطلوبة في مواجهة كثير من التحديات الطارئة.
نعيش لحظة صعبة تتهاوى فيها الحدود بين الحقيقي والمزيف.. بين الجيد والرديء.. من
هنا يستبد الحنين لثقافة شبرا بالكثيرين ولو لم تكن موجودة لاخترعناها اختراعا, لكنها
من حسن الحظ موجودة بل ومتجذرة في الوجود المصري.
بأي كلمات نتحدث عن "شبرا مصر" عاشقة الحياة المحبة للجميع.. ترافقنا على لعب وافترعنا
أوجها للحلم, وكان الحلم مصريا مصريا.. وهذه روعة "شبرا مصر" مهما ارتدت الأيام
شيئا من الوجع وغبار الخماسين.