القاهرة 07 ابريل 2015 الساعة 01:42 م
كان يومي طويل وهموم العمل كثيرة فعزمت أن أذهب في رحلة قصيرة لبستاني الجميل أتأمل جمال الزهور ، وأصغي لأحاديثهن الشيقة، وظللت أطوف لمسافة كبيرة حتى استرعتني زهرة بجمالها الأخاذ ، فاقتربت كي أحكي معها ،وأنصت باهتمام شديد لسردها الشهي ،وما أحلى الحديث عندما يكون قصة كفاح لشاعر ت:622هـ.-1222م
وهب لسانه لساحة الحرب لم يترك ملكًا ولا وزيرًا ولا قائدًا حربيًا إلا وأقام علاقات ود معهم؛ لأنه صار شاعر دولة ذا مكانة ونفوذ يستحث كل من بيده أمر بلاده أن يحميها، ويصونها من بطش أي عدو ، حيث أصبح الحث على إعداد العدة لملاقاة العدو ، والفرح والبشر بالظفر عليه مهمة لازمة لكل شاعر فربَّ كلمةٍ أقوى من من أسلحة كثيرة ، وشاعرنا ابن حريق من هؤلاء الشعراء الذين وهبوا سلاح الكلمة مداافعين عن بلادهم وقد عاش في مدينة بلنسية ،وعبًر في أشعاره عن حبه لها وإخلاصه في الدفاع عنها .
فنجده يفصل أحداث معركة الأرك591هـ التي نال بها الأندلسيون الظفر العظيم بفضل الموحدين وبسالة إمامهم أبي يوسف، فقد أعد لهم جيشًا فاتحًا يملؤه الهمة والعزيمة لإحراز النصر، ونصرة الدين، وجهزه بكل وسائل القتال التي تفتك بالأعداء، فكان يومًا عظيمًا اجتمعت فيه كل أسباب النصر.
يقول مادحًا:
كُلَّمَا سَدّدَ رَامٍ سهمها
عاد في لبَّته مُنتكسا
ورماح خالطت أحشاءهم
عَانَقُوا مِنْهَا قُدُودًا مُيَّسا
فانْثَنَوْا بَعْدَ مِصاعٍ صَادِقٍ
كَسَّرَ الدَّرْعَ وَفَضَّ الْقَوْنَسَا
غَادَرُوا بِالأَرْكِ مِنْ قَتْلاَهُمُ
مَوْعِظاتٍ لِسِوَاهُمْ وَأُسَى
وَلَقَوْا في حِصْنِهَا مُمْتَنَعًا
رَيْثَمَا يَسْتَرْجِعْونَ النَّفَسَا
مَعْقلٌ قَالَ لَهُ النَّصْرُ أَلاَ
كُنْ عِقَالاً لَهُمُ أَوْ مَحْبِسَا
نلمح أن مدح ابن حريق للموحدين كان إعجابًا بشخصهم في الدفاع عن معاقل المسلمين وصدِّ العدو عنها، فلبست الأندلس ثوب الانتصار في الأرك، وخسر الأعداء نفوسًا كثيرة من الجنود، والآخرون انتابهم الهلع لا يجدون مفرًا من الهروب.
ويمدح ابن حريق أيضا الملك الموحدي أبا يحيى الموحدي الذي حمى الثغور من فتك أعدائه بقوله:
لِتَتِهْ بَلَنْسِيَةٌ بِسَيِّدِهَا الذي
حَاطَ الثُّغُورَ دِفَاعُهُ وَغَنَاؤُهُ
يَرْقى فَيَشْفِى الثَّغْرَ منْ لَمَمِ الْعِدا
إِلْمَامُهُ فَجِوارُهُ وَنِداؤُهُ
وعندما تتأهب المدن الأندلسية لصد العدوان عليها يتجلى واجب القائد الماهر المتقن لأساليب القتال، يمدح ابن حريق القائد أبا الربيع بن سليمان بقوله:
"وَأُذْهلَتِ الْمَرَاضِعُ عَنْ بَنِيهَا "
وَأُنْسِىَ أَمَّهُ الضَّرْعَ التَّبِيعُ
رَعَى أَمْرَ الثُّغورِ فَلاَ قُلُوبٌ
تُخالِفُهُ وَلاَ مَالٌ يَضِيعُ
وَلَكن مِنّة لِلّهِ عَمَّتْ
وَأَعْلَنَ شكْرَهَا الْمَلأُ الْجَمِيعُ
وَمَنْ يَجْحَدْ فَمَا حُرِمَ اصْطِنَاعًا
وَلَكِنْ رُبَّمَا خَابَ الصَّنِيعُ
إِذ اسْتشرى سَطَا ليثٌ هَصورٌ
ج وَإنْ أَعْطَى هَمَى غَيْثٌ هَمُوعُ
تَسَرْبَلَ مِنْ مَهَابِتهِ دِلاَصًا
يُفَلّ بِهَا السُّرَيْجِىُّ الصَّنيعُ
فالقائد الشجاع يخرج كالأسد من عرينه يحمي ويدافع عن الثغور،وقد أضحى للقواد مكانة عظيمة كالملوك فهم حماة البلاد في ظل تكالب أيدي كثيرة تسعى لسقوط الأندلس مدينة تلو أخرى.
ويبدع الشاعر في فنون الشعر المختلفة كالغزل فنجده يشكو من صدود محبوبه، وقوة تمكنه وصلابته على الرغم من حرقة الاشتياق لدى الشاعر بقوله:
يا قريب النِّفار غير قريب
وبعيد الوصال غير بعيد
ما رأينا من قبل جسمك جِسما
من لُجينٍ وقلبه من حديد
أتَّقِى أن يذوب من جانبيه
حين يمشى تثاقلا بالبرود
أتُرى إن قضيت فيك اشتياقا
أتُصلِّى على غريب شهيد
ويذكر ابن حريق "بارق" وما يعتلج قلبه لها من ذكريات وقد كان الشعراء الأندلسيون يحنون للبقاع الحجازية كالشعراء المشارقة.
فيقول:
وعلى الفؤاد لواعجٌ مُذ غبتُمُ
تقِدُ الضُّلوعَ توقُّدا ووجيبا
فلها خفوق هل بصرت ببارق
ولها حنينٌ هل سمعت النّيبا؟
وقد ينفعل الشاعر على بلاده كأنها تسمع حاجته وأنينه عندما يضيق به العيش في بعض الأوقات، فنجده مناجيًا مدينته الحبيبة إلى قلبه" بلنسية" مستحثًا لها على عنايتها به بقوله:
وما كنت لولا أنت إلا مُزمما
ركابي مُثيرا بَلَنْسِية رحْلي
جج
ومُستبدلا أهلا سواها ومنزلا
وإن كان فيها منزلي وبها أهلي
فالشاعر إنسان يضحك ويبكي،يسعد ويحزن، يهدأ ويثور ولكنه لا يفرط في حب بلاده مهما عركته الحياة بمصاعبها.
وما أروع تشبيهات ابن حريق عندما يقول:
أصبحت تدمير مِصرًا شبها
وأبو يوسف فيها يوسفا
شبه الشاعر تدمير – وهي مرسية – في نهرها وخيرها بمصر في نِيلها، ونَيلها وشبه الأمير أبا يوسف في جماله بسيدنا يوسف المضروب به المثل.
ويبدع في المحسنات البديعية ومنها الترصيع وهو كما عرفه ابن الأثير"
أن تكون كل لفظة من ألفاظ الفصل الأول مساوية لكل لفظة من ألفاظ الفصل الثاني في الوزن، والقافية".فيرصع بقوله:
تَوَجَّعُ نَوْحًا أَوْ تَصُكُّ مَحَاجرًا
فَأَوْجُهُهَا حُمْرٌ وَأَصْوَاتُهَا بُحُّ
فالترصيع بين: تَوَجَّعُ نَوْحًا، تَصُكُّ مَحَاجرًا، فَأَوْجُهُهَا حُمْرٌ، وَأَصْوَاتُهَا بُحُّ.
وقد عزف ابن حريق من خلال الجرس النغمي للألفاظ أعذب الألحان على وتر الكلمات فكسبها حسنًا وبيانًا.
وبعد هذه الرحلة الممتعة في بستاني الجميل أجدني تنشقت من رحيقه مزيدًا من النشاط والقوة كي أعاود نشاطي اليومي من جديد فما أحلى التنزه في بستان الأندلس.