القاهرة 26 مارس 2015 الساعة 01:12 م
يجد المرء في هذه المناسبة خيرا من قصيدة الشاعر المناضل الفلسطيني الكبير توفيق زياد "1929 1994" التي وجهها إلي الصامدين علي أرض فلسطين المغتصبة في 1948 والتي جعلها عنوانا لديوانه الأول "أشد علي أياديكم" في 1966 الذي صدر في وقت كانت الشكوك العربية لا تزال تحيط بهؤلاء الصامدين وكانت المعلومات عنهم لا تزال شحيحة عندئذ كتب زياد :
أناديكم
أشد علي أياديكم
أبوس الأرض تحت نعالكم
وأقول: أفديكم
وأهديكم ضيا عيني
ودفء القلب أعطيكم
فمأساتي التي أحيا
نصيبي من مآسيكم
أناديكم
أشد علي أياديكم
أنا ما هنت في وطني ولا صغرت أكتافي
وقفت بوجه ظلامي
يتيما. عاريا. حافي
حملت دمي علي كفي
وأمسكت اعلامي
وضعت العشب الأخضر فوق قبور أسلافي
أناديكم .. أشد علي أياديكم!!
أما مناسبة البدء بهذه القصيدة فهي نتائج الانتخابات النيابية الاسرائيلية التي جرت في يوم الثلاثاء من الاسبوع الماضي 17 مارس الحالي وأسفرت عن احتلال "القائمة المشتركة" للأحزاب العربية الأربعة المركز الثالث من حيث عدد المقاعد حيث أحرزت 14 مقعدا وحمل البرنامج الانتخابي للقائمة عنوانا محددا "إرادة شعب : صوت واحد ضد العنصرية" تثير نتائج هذه الانتخابات ككل عددا من الأسئلة مثل لماذا استمر صمود اليمين وإلي متي؟ كيف فاز حزب نتنياهو رئيس الوزراء بالمركز الأول بينما كانت أغلب الاستطلاعات مرشحة للتراجع؟ وما معني هذا؟ وهل من السهل أن يستطيع تكوين حكومة منسجمة وبسرعة؟ وهل يمكن أن تستمر هذه الحكومة أكثر من سنتين لتفتح الباب لانتخابات مبكرة أخري.. الأسئلة الأهم تتعلق بالقائمة المشتركة وماذا تعني؟ وماذا ينتظر منها؟ وهل يمكن أن تستمر لتنتقل من ائتلاف انتخابي إلي ائتلاف سياسي؟ ومتي وكيف يمكن أن تضم الأحزاب العربية التي لم تنضم إليها في هذه الجولة؟ والأهم من ذلك ماذا سيفعل نواب القائمة في البرلمان؟ وماذا يمكن أن يحققوا من مطالب حياتية معروفة للجماهير الفلسطينية في أراضي 1948 بحيث تكفل لهم حقوقهم وتحميهم من أشكال التفرقة والاضطهاد التي تتعرض لها في التعليم والصحة والعمل والأجر.
رقم صعب سياسياً
بداية يمكن القول باختصار وتركيز ان فلسطينيي 1948 أثبتوا بهذه الخطوة انهم أصبحوا رقما صعبا في الحياة الحزبية والبرلمانية والسياسية الاسرائيلية وقد حققوا خطوة طال انتظارها وسعت لتحقيقها منذ سنوات جهات متعددة من داخل فلسطين ككل ومن خارجها وقد لعبت منظمات اليسار الفلسطيني في أراضي اللجوء والشتات دورا معروفا في هذا المجال في حين سعت شخصيات أخري بل ودول عربية إلي مساندة فريق ضد آخر من أحزاب فلسطيني ..48 ولعل هذا كان أوضح ما يكون بالنسبة لقوي التيار الاسلامي بشكل خاص الذي لم ينضم أحد أجنحته إلي القائمة المشتركة التي ضمت أربعة أحزاب فقط هي الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة تضم في داخلها الحزب الشيوعي والتجمع الوطني الديمقراطي والحركة الاسلامية الجناح الجنوبي والحركة العربية للتغيير وبعض القوي التي بقيت خارج القائمة المشتركة لم تكتف بهذا بل قادت حركة نشطة تدعو إلي مقاطعة الانتخابات وزعمت ان نسبة المصوتين بين العرب لن تزيد علي 50% وكان علي رأس الداعين إلي ذلك حركتا أبناء البلد وكفاح والحركة الاسلامية "الجناح الشمالي" ومعهم مثقفون وجامعيون وطلبة ممن رأوا في التصويت اعترافا بشرعية الاحتلال الصهيوني تأسيساً علي ان البرلمان "الاسرائيلي" مصمم علي مقاس يهودية الدولة وفي تاريخ نضال الشعوب فإن مثل هذه الدعوة تكون غالبا "كلمة حق يراد بها باطل" ولن نستبين هذا الباطل ومداه إلا من خلال الممارسة السياسية العملية للقائمة المشتركة وأعضائها في البرلمان الاسرائيلي علماً بأن أحد هؤلاء الأعضاء يهودي.
إن التقويم الموضوعي لخطوة "القائمة المشتركة" وأحزابها العربية الأربعة وبرنامجها الانتخابي يجب أن يبدأ بالعودة إلي الظروف التي سادت فلسطينيي 1948 الذين تمسكوا بأرضهم وديارهم ووطنهم ولم يغادروا أو يهاجروا بل صبروا وصمدوا في مواجهة أقسي الظروف والمعاملات السيئة التي فرضتها عليهم عدوهم المنتصر والذي ظل يهددهم ليل نهار بالطرد والتهجير والقتل الجماعي إلي جانب قطع صلاتهم واتصالاتهم مع أبناء شعبهم في الشتات ومع بقية البلاد العربية الأخري مع نزع أملاكهم وطردهم منها وحرمانهم من أبسط حقوقهم السياسية والمعيشية.. وقد جري كل هذا في حين افتقدت هذه الجماهير الفقيرة والمفقرة وجود قيادة سياسية بعد أن هربت القيادة التقليدية وولت الأدبار وعبر سنوات وسنوات من الإذلال والاضطهاد والقسر والمعاناة التي ربما لم يعرفها أي شعب آخر وقع تحت وطأة احتلال أجنبي ظل فلسطينيو 1948 متمسكين بهويتهم الوطنية محافظين علي ثقافتهم. مقاومين بكل ما تبقي لديهم من قوة وإصرار انساني لكافة محاولات التشريد والاستئصال ولم يكن استمرار عدوهم في أساليبه البربرية ضدهم يزيدهم إلا إصرارا ودفاعا عن حياتهم وحقوقهم وما تبقي لهم من أرض أو عمل وهنا تكسرت أساليب الصهاينة ومحاولاتهم لكسر إرادة فلسطينيي 1948 علي الرغم من تعدد المخططات والبرامج التي وضعوها في ظل حكم عسكري بغيض اعتمد أساسا علي أسوأ القوانين التي وضعتها سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين إلي جانب الحرب النفسية المخططة والمعدة اعتمادا علي التراث الاستعماري في كسر إرادة الشعوب.
ومرت سنوات مريرة وثقيلة تحملها فلسطينيو 1948 بجسارة عربية وبصمود لا يلين لم يلبث أن تلقي ما يشد أزره ويقوي عزيمته من خلال مؤتمرات عربية كان لها تأثير قوي في صفوف هذه الجماهير منذ أواسط خمسينيات القرن الماضي وصعود الزعامة العربية الناصرية التي أحيت آمالا فلسطينية في التحرر والعودة منذ ارتبطت جماهير فلسطينيي 1948 بالحركات والتطورات العربية كما لم ترتبط من قبل وحتي هزيمة 1967 المرة بل والمريرة فتحت أمام فلسطينيي 1948 بابا للأمل لم يلحظه العدو في البداية وهو التلاقي بين فلسطينيي 1948 وفلسطينيي 1967 في القدس والضفة وغزة وحين برزت المقاومة لتكون من أنبل ظواهر ما بعد الهزيمة لم يكن شباب ومثقفو فلسطين 1948 بعيدين منها فانخرطوا أفرادا وجماعات في صفوف فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وغيرها وقام بعضهم بأدوار بطولية لم تسجل بعد سواء في ميادين العمليات العسكرية أو في مجالات سياسية وثقافية وغيرها وبرز من بينهم مستشارون قريبون من القيادة الفلسطينية واكتسبت الثورة الفلسطينية مكانة عربية ودولية مرموقة خلال سنوات قصيرة وكان لها بإيجابياتها وسلبياتها انعكاساتها علي جماهير 1948 ولما جاءت حرب 1973 ونصرها المجيد شهد أكثر من مسئول إسرائيلي بأن هذه الحرب نفخت الروح في الوطنية الفلسطينية في داخل أراضي 1948 واعترف بذلك "شموئيل توليدانو" مستشار رئيس حكومة اسرائيل في الشئون العربية بقوله في 28 يناير 1977: لا يوجد حل للمسألة القومية للعرب في اسرائيل وتمثلهم للأهداف القومية الاسرائيلية مستحيل ولما جاءت بعد ذلك مرحلة التسوية العربية الاسرائيلية وامتدت الساداتية إلي القيادة الفلسطينية نفسها وقادتها إلي أوسلو في 1993 كان المجتمع العربي لفلسطينيي 1948 قد اكتسب قوة ذاتية ساعدته في أن يتخطي إلي الآن سلبيات هذه التسويات وأن يصد ويقاوم الرياح النتنة التي خرجت من جعبة مجددي الدعوة بصيغ مختلفة إلي طرد أو ترحيل أو استيعاب فلسطيني 1948 وذلك منذ أن برز واضحا وملموسا نمو الروح الوطنية الفلسطينية في يوم الأرض في 30 مارس 1976 أثبت هذا اليوم ولا تزال ذكراه تؤكد في كل عام ان الأقلية القومية الفلسطينية في داخل أرضها ووطنها منذ 1948 عصية علي الاستيعاب والإدماج فضلا عن التذويب والإقلاع.
"إسرائيل في خطر" ونتنيانو "كارثة"
وتأتي نتائج انتخابات الكنيست العشرين واحتلال "القائمة المشتركة" المركز الثالث لتفتح الباب أمام إمكانية الاعتراف بجماهير 1948 كأقلية قومية في مقابل انزواء وطي صفحة المشروع الذي عرف يوما ب "الأسرلة" أي إلغاء الهوية العربية كاملا من فلسطينيي 48 وأغلب الظن ان هذه الخطوة إلي الأمام ستعيد في وقت قريب إحياء كلمة "التحرير" وترد الاعتبار إلي كل من آمن ولا يزال يؤمن بالحقوق الفلسطينية الكاملة والثابتة والأصيلة وعلي رأسها حق العودة. إننا أمام خطوة تاريخية ومؤثرة في ميزان الصراع الفلسطيني الاسرائيلي والعربي الصهيوني وهي تحمل في ثناياها جنين عملية تاريخية كاملة ستستغرق عقودا من السنين إن هذا لا يعبر عن تفكير راغب أو تفاؤل ساذج يضخم الأمور أكثر من حجمها الحقيقي في أرض الواقع. اتجاه اليهود في الكيان الصهيوني في الانتخابات الأخيرة إلي اليمين والتطرف والعنصرية يصب في الاتجاه نفسه ويزيد سرعة وتيرته ومن لديه ذرة من شك في هذا عليه أن يعود إلي شهرين مضيا حينما ذهب "ابراهام بودج" بكل ما كان له من دور صهيوني رئيساً أسبق للكنيست ورئيساً أسبق لكل من الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية ذهب إلي مدينة الناصرة العربية لحضور مؤتمر "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" وإعلان طلب عضويته فيها وهذا عمل أثار ثائرة اليمين واليسار الصهيونيين معا وجدد غضبهما عليه الذي انفجر منذ أصدر كتابه "الانتصار علي هتلر" وموقف بودج هنا لا يخلو من دلالة بانضمامه إلي الحزب الأكبر في القائمة المشتركة وقبل الانتخابات الأخيرة بأقل من اسبوع وتحديدا في 12 مارس الحالي نشر الروائي الاسرائيلي المعروف "عاموس عوز" مقالا في صحيفة "هاآرتس" بعنوان "إذا لم ننفصل عن الفلسطينيين حالا فسنعيش في دولة عربية" ومنذ فوز نتنياهو المفاجئ تسابق صحفيون اسرائيليون كبار في اتهامه بأنه يعرض اسرائيل للخطر وقال أحدهم ان إعادة انتخابه "كارثة".
وهنا فإن واجب الساعة فلسطينيا وعربيا يفرض رصد ومتابعة أحوال الرأي العام الاسرائيلي ورصد التحولات في التفكير السياسي الاسرائيلي وفي أوساط اليهود في خارج اسرائيل وبالأخص في أمريكا ثم نضع خطة للتعامل مع كل هذا بما يخدم مصالحنا العربية ويحقق أهدافنا والنقطة الأهم هي كيف يجري التعامل فلسطينيا وعربيا مع فلسطينيي 48 بحيث لا نراهم إما ملائكة أطهارا أو شياطين متصهينين والمعول عليه هنا هو الموقف الفلسطيني الذي يجب أن يري فيما حققه فلسطينيو 1948 نقطة ضوء في النفق المظلم.. والحديث ذو شجون.. واسلمي يا مصر.