القاهرة 26 مارس 2015 الساعة 01:07 م
عندما كتب اميل زولا مقاله الاحتجاجي الشهير «إني اتهم» لمناسبة اندلاع قضية درايفوس في فرنسا، كان جمهورياً ويسارياً. كان تقدمياً في اختصار، ويومها حيّاه الكتّاب والمجتمع على ذلك الأساس. وهو دفع الثمن، كما نعرف، حيث نفي عاماً وأكثر بسبب تجرئه على السلطات وعلى حكم القضاء. وحين كتب اميل زولا الأجزاء المتتالية من روايته الضخمة المتحدثة عن تاريخ المجتمع الفرنسي وعنوانها «آل روغون - ماكار» كان دائماً يقف في صف التقدم ومع حركة المجتمع المندفعة الى الأمام، متشبثاً بأفكار الثورة الفرنسية ومبادئ العدالة والأخوة والمساواة.
> فلماذا تراه، في نهاية الأمر، حين كتب الجزء ما قبل الأخير من تلك الملحمة الروائية التي ندر ان كان لها مثيل في الآداب الغربية، أسفر عن وجه «جديد» لديه أقل ما قيل عنه في ذلك الحين أنه كان وجهاً رجعياً، بإجماع الباحثين والنقاد وحتى القراء العاديين الذين نعرف انهم كانوا كثراً وكان الواحد منهم يتلقف كل جديد ينشره زولا بلهفة وودّ كبيرين؟ ولماذا ترى كاتبنا الاجتماعي الكبير وقف في تلك الرواية، اذ تحدث عن كومونة باريس وما سبقها وما تلاها، الى جانب حكومة فرساي الرجعية الممالئة للألمان ضد اصحاب الكومونة من الثوار التقدميين الوطنيين؟ سؤالان من الصعب الاجابة عنهما طالما ان زولا نفسه اكتفى دائماً حيث كان السؤالان يطرحان عليه الى عزو الأمر الى العقلانية التي تقف ضد التهور، مؤكداً في طريقه وبأسلوبه السجالي الفخيم أن الامور لا تبدو واضحة إلا من خلال نتائجها، معطياً الإنطباع عبر مثل هذا التحليل بأنه بات متبنّياً لنوع متطرف من الفكر الذرائعي الذي لم يكن، على أية حال، ليتناسب مع ماضيه. فمتى في هذا الماضي كان كاتب مفعم بالحيوية من طينة زولا يرى ان المطلوب ليس ان نثور لكي نثور، بل إننا إذا ثرنا فإننا إنما نفعل هذا كي ننتصر. ومن هنا فإن اي تحرك، في رأي زولا العقلاني، كان يتوجب ألا يصدر عن عاطفة وتهور، بل عن دراسة في الاعماق تحسب حساب الارباح والخسائر مسبقاً وبميزان دقيق، متمعنة في التفاصيل والاهداف والوسائل المتبعة للوصول الى هذه الاهداف.
> الجزء الذي نتحدث عنه من سلسلة «روغون - ماكار» الروائية هو ذاك الذي يحمل عنوان «الهزيمة» ونشره اميل زولا في عام 1892، اي قبل رحيله بعقد من الزمن. وأحداث هذه الرواية (اي «الهزيمة») تدور ما بين احداث الجزء المسمى «المال» والجزء الآخر المسمى «دكتور باسكال» وبالتحديد ابان اندلاع الحرب الفرنسية - البروسية في عام 1870.
> ونعرف ان اميل زولا أراد من خلال تلك السلسلة الروائية، التي تشكل «الهزيمة» الجزء ما قبل الأخير منها كما أسلفنا، ان يرسم «التاريخ الطبيعي والاجتماعي» لعائلة فرنسية عاشت في عهد الامبراطورية الثانية، وذلك عبر استعانته ببعض قوانين الوراثة العلمية التي كانت وضعت حوالى عام 1850، وعبر تركيزه على تأثير تلك القوانين - التي عادت البحوث العلمية وتجاوزتها بعد ذلك - في خمسة اجيال من العائلة المذكورة عاشت حياتها تحت وقع داء اصاب جدة العائلة الكبرى الخالة ديدي، وهو داء ترك آثاره على كل فرد من افراد الاجيال المتلاحقة لتلك العائلة. ولئن كان زولا استخدم لرسم صورة العائلة قوانين علمية بادت في ما بعد، فإن الجانب الاجتماعي من عمله ظل حياً، حيث ان الرواية في مجموع اجزائها عرفت كيف ترسم صورة غنية ومتنوعة للمجتمع الفرنسي طوال عقود من السنين.
> والحال ان اميل زولا، حين وصل في تتبعه سيرة العائلة الى عقد السبعينات من القرن التاسع عشر، وجد نفسه مباشرة على جبه مع الكومونة، التي لعبت بمصير الأفراد دوراً أساسياً. وهكذا، خص سنوات الكومونة بذلك الجزء الذي جعل احداثه تدور حول شخصين وجدا نفسيهما مرغمين على التعايش، في الجزء الاول من الرواية على الأقل، هما الجندي موريس لافاسور، والعريف جان ماكار، سليل العائلة المذكورة. ومنذ البداية، يرينا زولا الفارق بين الشخصين، فموريس المثقف وابن الأسرة البورجوازية بالكاد يمكنه تحمل الحياة العسكرية وانتظاميتها. اما جان، المزارع، فإنه يبدو دائماً اميناً لواجباته يخوض حربه بإخلاص. أما الاحداث الرئيسية للرواية فتدور في منطقة سيدان الشمالية حيث تحيق الهزيمة العسكرية بالفرنسيين امام زحف الجنود الألمان. اذاً فالهزيمة التي اعارت الرواية اسمها، ما هي سوى هزيمة جيوش نابوليون الثالث امام الألمان.
> ولئن كان المناخ العام في اول الرواية صوّر حماسة الجنود الفرنسيين للقتال، في مقابل برود الألمان ونزعتهم العقلانية التي تحوّلهم مجرد آلات عسكرية صارمة، فإن ما يلي ذلك سيشهد غضب الجنود الفرنسيين امام الفوضى التي اوصلتهم الى الهزيمة، والذل الذي يعايشونه بعد وقوع قتلى وجرحى في صفوفهم واضطرارهم الى التراجع. ولقد عرف زولا كيف يصور بقوة هنا غضب السكان المدنيين وهم يشاهدون الجنود يتراجعون جائعين منهكين. ومن بين هؤلاء الجنود لدينا، بالطبع موريس المثقف، وجان المزارع، اللذان سرعان ما تختفي الهوة التي تفرق بينهما بفعل تآخيهما في العراك. غير ان الاثنين معاً، سرعان ما يجدان نفسيهما يجسدان المأساة التي راح الشعب الفرنسي يعيشها في ذلك الحين: ذلك ان المشاهد الاخيرة في الرواية تدور، بعد الهزيمة، في باريس، حيث يستبد الهوى الوطني الإجتماعي بموريس فإذا به ينضم الى ثوار الكومونة، فيما يبقى جان على ولائه للتراتبية العسكرية فينضم الى القوات النظامية في فرساي.
> وهكذا، من دون ان تكون لهما يد في الأمر يجد الاثنان نفسيهما، بعد الأخوة التي استحكمت بينهما اول الأمر، في خندقين متقابلين: موريس يبحث في باريس، وسط الاحداث، عن رابط بين نوازعه السياسية وتطلعاته الثقافية الثورية، وجان، لارتباطه الدائم بقوى الطبيعة والأرض لا يميل الى المغامرات بل مراده ان يبني بيته - ووطنه - حجراً حجراً. وتكون النهاية ان موريس يُقتل على المتراس، وتحديداً بيد جان الذي لا يكف عن النضال في سبيل استتباب النظام وسيادة القانون. ان الإخوة هنا يقتلون بعضهم بعضاً... ولكن في سبيل بناء مجتمع جديد يكون اكثر نقاء. اما جان فإنه على يقين - واللافت ان زولا لا يعارضه في هذا - من انه انما يعمل من اجل الخير العام.
> أتى اميل زولا في هذه الرواية ليؤكد نفسه كبورجوازي جمهوري النزعة، بحسب تعبير بعض دارسي عمله. فهو اذ وقف ضد الحكم الامبراطوري وندد بجنرالات الجيش، لم يوصله هذا الموقف الى ان يتماهى تماماً مع الثوار او مع الطبقة العاملة، وإن كان سبق له في روايتين على الأقل «المدمر» و «جرمينال» ان رصد وجودها ولم يقف ضدها. هنا في «الهزيمة» لا تعود الطبقة العاملة مركز الأساس في القاعدة الإجتماعية الفرنسية، بل يعطى هذا الدور للمزارعين الذين يمثلهم جان ماكار. أما المثل الأعلى، أي النزعة الاشتراكية، فعبثية. وأما الدلالة السياسية للكومونة فلا تعدو في نظر الكاتب حيّز الصراع بين الفرنسيين والبروسيين، او بين الجمهورية والامبراطورية.
> والحال ان كثراً من الباحثين رأوا دائماً ان اميل زولا الحقيقي يكمن هنا، في هذا الموقف، لا في المواقف «الثورية» المفتعلة التي عبّر عنها في اعمال اخرى له. كما ان باحثين كثراً ايضاً اعادوا قراءة اعمال زولا السابقة - التي حفلت دائماً بالتباس لافت - في ضوء موقفه «الواضح» في «الهزيمة». ونعرف، طبعاً، ان زولا المولود عام 1840 والراحل في حادث حريق في عام 1902، كان ابناً لمهاجرين ايطاليين. وهو بدأ حياته العملية صحافياً، وتتلمذ على كلود برنار والأخوين غونكور. ثم بدأ يحلق بجناحيه وينشر تلك الروايات الكثيرة التي جعلت منه أحد سادة هذا النوع في الأدب الفرنسي، كما راح ينشر الدراسات الكثيرة المنبئة بظهور أدب اجتماعي جديد. اما سلسلة «روغون - ماكار» المؤلفة من 20 رواية فقد كتبها بين 1871 و1893.