القاهرة 22 مارس 2015 الساعة 02:06 م
يسود اعتقاد فى الثقافة السائدة ، سواء فى مصر أو لدى العرب ، أنّ الحركة الصهيونية التى تزعّمتْ وخطــّطتْ لتجميع يهود العالم (فى مكان ما) يكون لهم بمثابة الوطن ( سيناء أو أوغندا أو فلسطين ) بدأتْ على يد هرتسل ( 1860 – 1904 ) وبصفة خاصة عند محطة المؤتمر الصهيونى الأول عام 1897 ، فى حين أنّ التفكير فى الاستيلاء على أرض الشعب الفلسطينى بدأ قبل ذلك بأكثر من خمسمائة عام ، إذْ عندما زار الفيلسوف اليهودى موسى بن ميمون القدس عام 1327 وجد بها يهودييْن إثنيْن فقط . فقرّر الدعوة للاستيطان اليهودى فى فلسطين. ومن بين الصهيونيين الذين كانوا يأملون فى إعادة بناء طائفة يهودية فى فلسطين ، الحاخام يعقيبا يوسف من مدينة براسبورج الذى هاجر إلى فلسطين عام 1870 من أجل أنْ يقيم طائفة يهودية داخل فلسطين .
وعن تأثير المرجعية التوراتية ، فإنّ حزب ( مفدال ) عارض فى برنامجه الانتخابى أى مشروع يتضمّن تنازلا عن ( أرض إسرائيل التاريخية بوصفها أرض الأجداد ) وشجب هذا الحزب الحكم الذاتى الفلسطينى ، لأنه يمكن أنْ يؤدى إلى نشوء دولة فلسطينية. ولذلك فهو يعارض بشدة حزب العمل ، لأنه انحرف يسارًا فى مجال الدين والدولة .
ومن بين الأصوليين اليهود الحاخام صموئيل حاييم لاندوا الذى كتب العديد من المقالات ، هاجم فيها موقف اليهود الأرثوذكس السلبى من الصهيونية. وأكد على أهمية الاستيطان فى ( أرض إسرائيل ) لأنّ الإقامة فى الأرض المقدسة ، هى أحد الأوامر الدينية . وأنّ (( القبس الإلهى لا يؤثر فى الشعب اليهودى إلاّ وهو فى أرضه. وعليه لا يمكن اعتبار إسرائيل أمة حية وهى تعيش فى المنفى )) ورفع شعار ( التوراة والعمل ) وقال إنه لايمكن أنْ يولد العمل كقوة مبدعة فى بناء الأمة دون التوراة التى هى جوهر الانبعاث . أما الحاخام مائير بر إيلان ، فيرى أنّ التوراة والتقاليد الدينية ليست من صنع الإنسان ، بل هى قوانين إلهية . ويرى أيضًا أنّ الدين اليهودى كما يهتم بشئون العبادة ، فإنه ينظم شئون الدولة ، فليس هناك (( فى اليهودية فصل بين الدين والدولة . وأنّ اليهودية تحتوى على كل الشرائع المطلوبة لتسيير شئون الدولة ))
وكما زعم الأصوليون الإسلاميون أنّ الكوارث الطبيعية التى تدمر البيئة وتقتل البشر ، غضب من الله ، كذلك يروّج الأصوليون اليهود ، حيث قال حاخام إسرائيلى أنّ إعصار كاترينا بالولايات المتحدة الأمريكية غضب من الرب ضد الرئيس الأمريكى بوش بسبب موقفه المؤيد لانسحاب إسرائيل من غزة ( شريط الأخبار فى قناة الجزيرة يوم 7 / 9 / 2005 )
روّجت الأصولية اليهودية لخرافة ( الشعب المختار ) وخرافة ( أرض الميعاد ) لدرجة أنّ الحاخام موشيه بن نحمان ( 1194 – 1270 ) فى تفسيره للتوراة أضفى القداسة على أرض فلسطين ، واعتبر أنها ( مركز العالم ) وأنّ أورشليم هى مركز ( أرض إسرائيل ) وأنّ هذه الأرض هى المكان المناسب والوحيد لتأدية الوصايا الدينية المنصوص عليها فى التوراة. وأنّ الاستيطان فى ( أرض إسرائيل ) واجب دينى . وأنّ هذا الاستيطان يوازى (( كل فرائض التوراة ))
ووصل تأثير رجال الدين على عقول اليهود فى أوروبا إلى درجة أنْ (( أصبح رفض أحد الزوجيْن الذهاب إلى ( أرض إسرائيل ) والعيش فيها مبررًا كافيًا ، حسب الشريعة ، للزوج لطلب الطلاق . وأنّ مثل هذه الاجتهادات كانت من الأسباب التى دفعت بعض اليهود للهجرة إلـــــــــــى فلسطين ))
ولأنّ هرتسل وآخرين من دعاة الصهيونية السياسية نادوا بأنّ الوطن المنشود لليهود لابد أنْ يقام على أسس علمانية ، فإنّ الأصوليين لم يغفروا له أنه عندما (( زار القدس انتهك العديد من الشعائر الدينية اليهودية ، ليؤكد تمييز نظرته اللادينية عن العقيدة الدينية . ولذلك يقول هرتسل فى كتابه (الدولة اليهودية ) الذى صدر عام 1896 (( لن نسمح بظهور أية نزعات ثيوقراطية ( = دولة دينية ) لدى سلطاتنا الروحية. وسوف نعمل على إبقاء هذه السلطات داخل الكنيس والمعبد . فالمتسلطون الدينيون إذا حاولوا التدخل فى شئون الدولة سوف يلقون مقاومة عنيدة وشديدة من جانبنا )) أما الكاتب ماكس نورداو ( 1849 – 1923 ) الزعيم الصهيونى وصديق هرتسل المقرب فكان مؤمنًا بأنّ التوراة (( تعتبر كعمل أدبى أقل من أعمال هوميروس والكلاسيكيات الأوروبية . وبأنها طفولية كفلسفة ومقززة كنظام أخلاقى ))
وقد يتساءل البعض عن هذا التناقض ، بين دعاة الصهيونية السياسية ودعاة الصهونية الدينية وعن تفسير هذا التناقض ، كتب د. رشاد الشامى المتخصص فى الدراسات العبرية (( تكثر فى خطب دعاة الصهيونية السياسية الاقتباسات التلمودية ، مما يوحى ببعض التناقض مع ما يتبين من علمانية هؤلاء القوم ، فإذا علمنا أنّ هذه الاقتباسات كانت من أساليب دعاة الصهيونية التى تطـلــّــعتْ إلى الاستثمار الأقصى للدين ، واستغلال القيمة الدعائية ، والرصيد العاطفى الذى تمتلكه العقائد الدينية عادة ، فى سبيل أهداف الصهيونية ، زال اللبس واختفى التناقض )) * وأضاف د. رشاد ((ومعنى هذا أنّ الصهيونية العلمانية نظرتْ إلى اليهودية باعتبارها فولكلور الشعب اليهودى المقدس . ففكرة العهد بين الله والشعب الذى منح الخالق بمقتضاه الشعب ( أرض فلسطين المقدسة ) كانت بمثابة الأسطورة الشعبية ل ( بن جوريون ) ولكنه مع هذا استخلص منها برنامجًا سياسيًا . وقرّر حدود دولته مسترشدًا بمفاهيم العهد القديم التى لا يؤمن هو نفسه بها ، ولكنه كان يتقـبّـلها (( كأساطير شعبية يهودية )) وأنّ بن جوريون لم يكن يهمه إنْ كانت واقعة ( الوعد الإلهى ) حقيقة أم لا ، بل المهم أنْ تكون هذه الأسطورة مغروسة فى الوجدان اليهودى ، ولذلك يجب أنْ تكون سارية المفعول ، حتى بعد أنْ ثبت أنّ الوعد الإلهى المقطوع هو مجرد أسطورة شعبية ، ليس لها أى مصدر إلهى ، وليست هناك ضرورة لإثارة ما إذا كانت التوراة من أصل سماوى أو أرضى . وعندما سئل بن جوريون عما إذا كان يؤمن بالله أجاب (( السؤال هو من الله ؟ إنّ معظم اليهود يتصورونه رجلا عجوزًا . بيد أننى أومن بوجود قوى مادية فحسب فى العالم )) وعلّق د. رشاد قائلا (( بالرغم من هذه النظرة السلبية إلى الدين ، فقد كان بن جوريون يدرك أهمية استغلال الدين فى سبيل تدعيم الفكرة الصهيونية. واجتذاب المهاجرين إلى فلسطين . فأعلن ذات مرة أنّ (( خلود إسرائيل يتميّز بإثنتين : دولة إسرائيل والتوراة )) وفى مناسبة أخرى قال (( على دولة إسرائيل أنْ تعتمد على نفسها وعلى إلهنا الذى فى السموات )) ولذلك فإنّ بن جوريون أخذ فى الحسبان الاعتبارات السياسية والحزبية ومسئولية الدولة ، ونحّى آراءه الشخصية جانبًا عندما بدأ فى وضع أسس التعايش بين المتدينين والعلمانيين . لقد كان بن جوريون يتطـلــّع إلى بناء دولة عصرية ، حتى لو خالف ذلك كل ما ورد فى التوراة . وكان يؤمن بأنّ العمل الصهيونى هو الكفيل ببناء الدولة والمحافظة عليها وليست الغيبيات ، لأنه كان يعتقد أنّ الغيبيات انتهى دورها فى حياة اليهود منذ قيام الدولة . وكتب بن جوريون (( على اليهودى من الآن فصاعدًا ، ألاّ ينتظر التدخل الإلهى لتحديد مصيره . بل عليه أنْ يلجأ إلى الوسائل الطبيعية العادية مثل الفانتوم والنابالم . وأنّ الجيش الإسرائيلى هو خير مفسر للتوراة )) وكان يرى أنّ للدين وظيفة عليه القيام بها وكفى ، وهو ما عبّر عنه عندما قــال (( إنّ الدين هو وسيلة مواصلات فقط . ولذلك يجب أنْ نبقى فيها بعض الوقت لا كل الوقت )) ولم يكن يرتاح للمتدينين والحاخامات لذلك قال (( إنّ حياة اليهود لو تـُركت للحاخامات لظلوا حتى الآن كلابًا ضالة فى كل مكان ، يضربهم الناس بالأقدام . ويحتمى اليهود من أقدام الأغلبية الساحقة لهم فى كل مكان بأحلام العودة إلى أرض الميعاد والأجداد وانتظار المسيح ، الذى سيهبط عليهم من السماء لينقذهم ويقوم لهم بكل العمل ، بينما هم يصلون الفجر والعشاء ويبكون ليلا ونهارًا ))
000
فى مقابل التيارت الدينية التى تؤيد الاستيطان الإسرائيلى ، وترفض أى حق للشعب الفلسطينى فى أرضه ، هناك تيارات دينية أخرى تخالف الأولى وترفض الصهيونية السياسية ، إلى درجة الهجوم العنيف على مؤسس الصهيونية السياسية هرتسل وأنصاره . من أمثلة ذلك الأحزاب الدينية المسيحانية المعارضة لدولة إسرائيل . وهم يؤمنون بأنّ الخلاص المسيحانى لايمكن أنْ يتم بوسائل بشرية ، سواء كانت هذه الوسائل المال أو السلاح ، وأنّ الذين يسمون أنفسهم بالصهيونية ومساعيهم الرامية إلى تأسيس دولة قومية يهودية فى فلسطين ، تتنافى مع العقائد المتعلقة بانتظار مجيىء المسيح فى اليهودية ، وأنّ بناء مملكة إسرائيل لابد أنْ يتم على يد المسيح المنتظر. وأنّ هرتسل قادم من (( الجانب الملوث )) وأعلن المجلس الأمريكى لليهودية – وهو تنظيم مناوىء للصهيونية – (( إننا نعترض على إقامة دولة يهودية فى فلسطين أو فى أى مكان آخر، فتلك فلسفة انتهازية )) ويرى هذا التيار الرافض للصهيونية السياسية أنّ تحقيق (( هدف العودة سيكون على يد ( يهوه القدير ) نفسه الذى سيُرسل المسيح المخلص للقيام بهذا العمل . وليس ذلك من عمل شعب الله المختار )) ورفضتْ حركــــــة ( نطورى كارتا ) الاعتراف بالصهيونية وبدولة إسرائيل ، وذلك لأنّ هذه الدولة قامت على يد نفر من الكفرة الذين حرّفوا مشيئة الله بعملهم وتطاولوا على الرب )) ولذلك فإنّ غالبية هذا التيار لا يخدمون فى الجيش الإسرائـيلى . ولديهم شبكة تعليم خاصة بهم . ويُقيمون فى أحياء منفصلة عن الجمهور العلمانى . بل إنّ أحداث النازية وفقــًا لهذا المنظور بمثابة عقاب من الرب وقصاص من أولئك الذين انتهكوا وصايا التوراة وأوامرها وسعوا للتشبه بالأمم والانصهار بها أولا ثم بالتصميم على إنشاء دولة يهودية على غرار الدول الأخرى ثانياً .
وبعد حرب يونيو 67 طرأ تحول على مواقف معظم الأحزاب الدينية ، حيث أعتبرتْ هذه الحرب معجزة وإشارة ربانية لبداية الخلاص المسيحانى ورغم ذلك انطلق صوت أحد الحاخامات ليؤكد أنّ (( دولة إسرائيل ككيان صهيونى هى تعبير عن الكفر والتمرد على إرادة الله. وبينما تدعو إحدى الحركات الصهيونية إلى عدم التنازل عن الأراضى التى إحتـلتها إسرائيل من منطلق أحكام الشريعة الدينية ، فإنّ جماعة أصولية أخرى عارضتْ هذا التفسير. وتساءل الحاخام الأكبر لهذه الجماعة (( كيف يقف الرب بجوار دولة كافرة وملحدة لتنتصر فى الحرب ؟ ))
يُعادى أتباع حركة ( نطورى كارتا ) الصهيونية ، وينادون بالانعزال عن دولة إسرائيل ، لأنها قامت على يد نفر من الكفرة الذين تحدوا مشيئة الله وإرادته بإعلانهم دولة إسرائيل ، بدلا من انتظار المسيح . ومن الأمور التى يتوقف أمامها الباحث ، أنّ هذه الحركة أدانت غزو إسرائيل للبنان عام 1982 . كما أنه بعد أنْ صدرتْ قرارات المجلس الوطنى الفلسطينى عام 1988 والتى أعلنتْ قيادة فلسطينية فى الضفة والقطاع والاعتراف بإسرائيل عمليًا ، فإنّ جماعة ( نطورى كارتا ) أيّدتْ الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية. وفى نفس الوقت احتجّتْ على اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل . وإذا كانت الغالبية العظمى من الأحزاب الإسرائيلية تعتبر الكفاح الفلسطينى المسلح إرهابًا ، فإنّ ( نطورى كارتا ) ترى أنّ هذا الكفاح مشروع . وقال الحاخام موشيه هيرش (( نحن ضد سفك الدماء . وأيضًا منظمة التحرير الفلسطينية ضد سفك الدماء . ونحن نؤيد حق الفلسطينيين فى استرجاع ما أخذ منهم بواسطة القوة )) وقال أيضًا (( إذا كان هناك إهتمام وحرص من جانب الصهيونية تجاه اليهود ، فعليها إصلاح الظلم الذى سبّبته للشعوب الأخرى )) وانتقد بقوة الحركات التى تحاول إجبار أتباعه على الخدمة فى الجيش الإسرائيلى . وقال (( إنهم يريدون إنضمامنا إلى آلة الحرب ضد العدو الذى أوجدوه خدمةً لمصالحهم ، ولتوسيع سيطرتهم على مناطق تابعة لشعوب أخرى ))
ومن بين الأحزاب الدينية الأقل تطرفــًا حزب ( ديجل هتوراه ) فذهب رئيسه بعد انتخابات عام 1988 إلى حد الموافقة ، ليس على الانسحاب من المناطق المحتلة فحسب ، بل على قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح . وأعرب عن استعداده لتأدية التحية لعلم هذه الدولة.
000
مخاطر الأصولية الدينية على المجتمع الإسرائيلى :
هذه التناقضات داخل التيارات الدينية الإسرائيلية ، يواكبها تناقضات أخرى بين الأصوليين اليهود وبين العلمانيين . ويتمثل الصراع بين الطرفيْن فى الموقف من طبيعة الدولة التى ينشدها كل فريق . فبينما يرى العلمانيون أنّ المواطنين متساوون فى الحقوق والواجبات ، يرى الأصوليون العكس . ويحرصون على التميز الذى يهدد أى مجتمع . ومن أمثلة ذلك الموقف من المرأة ، حيث لا يجوز زيارة النساء لحائط المبكى ، ورفض السماح لهن باستخدام حمامات السباحة المشتركة. ويحظر على النساء لبس الملابس القصيرة أو الشفافة أو الخروج دون جوارب تغطى الساقيْن . وعلى المرأة حلق رأسها . وعدم خروج صوت غناء النساء خارج البيت . وعندما تكون الزوجة فى فترة الطمث ، فلا يجوز أنْ ينام زوجها معها فى سرير واحد . وإذا ناما فى سريريْن منفصليْن ولمس أحدهما الآخر ، فهذا محرم .
وأخذ التطرف الدينى مداه إلى درجة الضغط على الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لإستصدار تشريع يُحرم تربية الخنازير. وقانون آخر ينص على قداسة يوم السبت ، حيث لا يجوز تشغيل المواصلات العامة. وكذلك إغلاق المحلات العامة ( عدا المطاعم والملاهى ) وعدم القيام بأى عمل مهما كان فى مشروعات حيوية كثيرة ، مثل الموانى وغيرها . والمحافظة على الطعام الدينى ( الكاشير ) وعدم تشريح جثث الموتى ، وعدم زواج أى كاهن من أية مطلقة. ووصل الأمر إلى درجة أنْ تشكل داخل حزب ( المفدال ) الدينى تشكيل خاص بالمرأة أطلقوا عليـــــــه ( كتلة المرأة المتدينة ) وعلى الرغم من أنّ كافة الإسرائيليين ملزمون بأداء الخدمة العسكرية لمدة ثلاث سنوات ، فإنّ أعضاء المدارس الدينية التابعة لمجلس كبار علماء التوراة معفون من أداء هذه الخدمة. وأيضًا الوقوف بكل حزم ضد تجنيد النساء فى الجيش . وفسّر كثيرون الإصرار على الاعفاء من الخدمة العسكرية على أنه هروب من خدمة الوطن ، بحجة دراسة الديـن ، وهو الأمر الذى جعل بن جوريون يردد دائمًا (( إننا نريد أمة من الجنود ، لا أمة من الكهنة ))
ويتصاعد التطرف والتعصب إلى درجة أنّ أتباع الطائفة ( الحريدية ) واثقون من أنهم يملكون الحقيقة لفهمهم للكتب المقدسة. وأنّ طريقهم هو الطريق الصائب الوحيد . كما أنهم يستخدمون وسائل ( الإكراه الدينى ) والتدخل فى حياة الآخرين . وكل الوسائل بالنسبة لهم مشروعة ، بما فى ذلك استخدام سلاح الاعتداء والمتفجرات ضد اليهود الآخرين الضالين . ويشنون حربًا على الثقافة العلمانية للمجتمع الإسرائيلى . ويهاجمون دور السينما وحمامات السباحة المشتركة والصحف العلمانية. ويعتقدون أنهم يشنون هذه الحرب ( المقدسة ) باسم الرب . ويقاطعون مدارس ومعاهد تعليم اللغات الأجنبية. ويُصدرون تعليماتهم إلى أتباعهم بعدم الاشتراك فى انتخابات الكنيست أو الانتخابات المحلية. وعدم تناول أى طعام أو شراب غير مصرّح به من قبلِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ محكمة الطائفة. والإيمان القاطع بأنّ إقامة الدولة الصهيونية قبل قدوم المسيح المنتظر ، إنما هو عقاب خطير من الله . وأنّ الكنيست ( البرلمان الإسرائيلى ) تدنيس لأوامر الله وإهانة للتوراة ، لأنّ قوانينه تتناقض مع شريعة موسى .
000
مقاومة الأصولية الدينية :
فى مقابل التطرف الأصولى ، فإنّ المجتمع الإسرائيلى يشهد أشكالا من المقاومة لتحجيم دور هذه التيارات التى تسعى إلى إقامة دولة دينية فى إسرائيل ، معادية للسلام وللعلم ولحقوق الإنسان . من أمثلة تلك المقاومة ، محاولة العلمانيين إفراغ الشريعة من مضمونها ، مثل عقد الزواج المختلط فى جزيرة قبرص . وعقد الزواج دون اشتراك أى حاخام فى حالة المنع الدينى . أو فى حالة رفض عقد طقوس الزواج الدينية. وتقوم المحاكم المدنية بدور مهم فى هذا الصراع ، حيث تتعرّض أحكام الشريعة اليهودية ( الهالاخاه ) للانتقاد . ويتم التساهل مع كل محاولات الإلتفاف حولها وتجنبها . والمثال الواضح على ذلك أنّ محكمة العدل العامة ( الإسرائيلية ) أقرّت بمبدأ تسجيل من تزوّجوا زواجًا مدنيًا أو مختلطــًا أو فى احتفال مدنى فى سجلات الزواج . كما حدّد المشرع فى القوانين المتصلة بالأحوال الشخصية ، أنّ أحكامه ملزمة لكل من المحاكم المدنية والمحاكم الدينية ، مثلما حدث بالنسبة لقانون ( المساواة فى الحقوق السياسية للمرأة ) الذى صدر عام 1951 حيث لم يلتفت إلى حكم المحكمة الربانية التى أقرّت بعدم توافق هذا القانون مع أحكام الشريعة اليهودية . كما أنّ هناك قطاعًا من الجمهور الدينى نفسه لايعترف بالصلاة الشرعية لهذه المؤسسة الدينية بصورة نسبية. كما أنّ محكمة العدل العليا ( الإسرائيلية ) تتدخل كثيرًا فى أحكام ( الحاخامية الرسمية ) وتتدخل فى انتخابات الحاخام الأكبر، وتـُخضع أعمال الحاخامية لإشرافها . وبالنسبة للقوانين التى تتصل بأحكام (منع) وفقــًا للشريعة اليهودية ، مثل أحكام يوم السبت وتربية الخنازير، توجد قوانين تسمح بتجاوزها . كما أنّ الدوائر الطبية اعترضتْ على الأصوليين الذين يرفضون تشريح جثث الموتى ، واعتبرتْ أنّ هذه المطالب فيها مساس بمستوى البحث العلمى والخدمة الطبية. كما أنّ المغالاة الأصولية أدّتْ إلى ارتفاع الأصوات التى تطالب بأنْ يكون الزواج مدنيًا . وضرورة فصل الدين عن الدولة. وهذا المطلب يريد مؤيدوه ، ليس الفصل الرمزى بين دولة إسرائيل كدولة يهودية وبين التقاليد الدينية اليهودية ، بل يُطالبون أساسًا بالفصل على المستوى الرسمى والقضائى . وقد ترتّب على إزدياد التوتر الدينى ، وإزدياد تدخل الأصوليين فى شئون الأفراد فى حياتهم اليومية ، ترتّب على ذلك تكوين رابطة لمنع ( الإكراه الدينى ) تأسّست عام 1950 وأقامت هذه الرابطة فروعًا لها فى المدن الثلاث الكبرى . وفى عام 1960 جدّدتْ الرابطة نشاطها بعد سلسلة من الأزمات الدينية. وعلى الأخص بعد طرح مشكلة : من هو اليهودى ؟ وكثّفت الرابطة عملها فى خريف 1963 حيث نظــّمتْ مظاهرة فى القدس ضد العنف المتزايد من المتدينين . وسارت فى هذه المظاهرات جماعات كثيرة من الشباب ( العلمانى ) وهم مسلحون بالعصى إلى حدود الأحياء الدينية. وإذا كان نشاط هذه الرابطة قد تعرّض لإهتزازات كثيرة ، إلاّ أنّ تأثيرها كان كبيرًا . وكانت رمزًا ، إلى حد ما للإتجاه المتزايد من أجل خلق ثغرات عميقة بين المعسكريْن الدينى واللادينى فى إسرائيل . كما أنّ إعفاء طلبة المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية ، مثار اعتراض ومقاومة دائمة من الأحزاب العلمانية.
وكتب الأديب الإسرائيلى ( عاموس عوز ) عن الشباب المتدين ووصفهم بأنهم (( حمقى ومجانين تحرقهم أنوار النبوءة . أولئك الذين كانوا يعتقدون أنهم خـُلقوا ليصلحوا العالم . وكل واحد منهم يعتقد أنه هو نفسه المسيح المنتظر الذى سيُخلص اليهود من آلامهم . وفى سبيل هذا الاعتقاد فهو على استعداد دائم لصلب معارضيه ، ليُصلب هو نفسه فى النهاية )) إنّ الأسى فى كلمات هذا الأديب من تغلغل الأصولية الدينية ، يستدعى إلى الذاكرة كما قال د. رشاد الشامى النظرة التى سادتْ الدولة الإسرائيلية فى سنواتها الأولى ، التى كانت ترى أنّ الدين أمر متخلف ولابد من محاربته . ولعلّ هذا ما دفع الصحفى الإسرائيلى شالوم كوهين أنْ يناقش خطورة الأصولية الدينية التى تـُهدد المجتمع الإسرائيلى فى كتابه ( الرب برميل بارود – إسرائيل ومتطرفوها ) وهو الكتاب الذى قام بعرضه المفكر المصرى إسماعيل صبرى فى صحيفة الأهرام عدد 15 / 4 / 1990 ص5.
بل إنّ شخصية إسرائيلية كبيرة مثل جولدا مائير ، هاجمتْ النبى موسى لأنه قاد اليهود فى التيه سنوات طويلة وعسيرة ، ثم استقر بهم فترة من الزمن القديم والغابر فى أرض لم يكتشفوا فيها البترول )) ( نقلا عن محمد عيسى الشرقاوى – أهرام 11 / 6 / 2001 ص 6 )
وبفضل هذا الإيمان بالفكر العلمانى ، يمتلك أساتذة الجامعة الإسرائيليون شجاعة الاعتراض على الحكومة ، إذْ (( وقّع 37 أستاذًا من جامعة بن جوريون فى بئر سبع مذكرة إحتجاج على منح رئيس الوزراء إريل شارون شهادة دكتوراه فخرية من الجامعة . وجاء فى المذكرة التى نشرتها الصحف الإسرائيلية : إننا نحتج على هذا القرار لأننا نعتقد أنّ مثل هذا التكريم يجب ألاّ يتناول شخصًا تعتبر خياراته الأساسية موضـــــــع جدال )) ( أهرام 22 / 11 / 2001 ص 8 )
وبفضل الإيمان بالفكر العلمانى يخرج الشباب الإسرائيلى فى مظاهرات لتأييد الرافضين للخدمة العسكرية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة ( أهرام 11 يناير 2004 ص 4 ) وبفضل الفكر العلمانى نظم إسرائيليون وصل عددهم إلى أكثر من 400 ألف مظاهرات ضخمة عام 1982 عقب غزو إسرائيل لأراضى الشعب اللبنانى .
هذا الصراع بين التيارات الدينية والتيارات العلمانية ، غائب تمامًا عن خريطة الإعلام المصرى ( والعربى ) حيث يحذر كثيرون من الكتاب الإسرائيليين من أنّ (( إسرائيل قد تتطور إلى دولة تفرض فيها المؤسسات الدينية والدوائر الدينية طابعها بشكل عام فى مجالات الحياة )) وكتب الباحثان ( موشيه ليسك ) و ( دان هو رو فيتس ) أنّ (( أخطر صدع يهدد الهوية الثقافية للمجتمع الإسرائيلى هو الصدع الدينى / العلمانى . وهو من شأنه أنْ يزداد حدة فى المرحلة المقبلة أكثر من أية مرة فى الماضى . إنّ القطاع ( الحريدى ) وصل إلى قوة ديموجرافية واقتصادية ، جعلته قطاعًا مستقلا ذاتيًا . وهو يوجد بصورة استبدادية ويتلقى أموالا من الحكومة. وأنّ هذا القطاع أصبح دولة داخل الدولة. وبالتالى فإنه يوجد فى إسرائيل شعبان لايمكن أنْ يعيشا معًا . والخطر الذى ينطوى عليه هذا الأمر هو إدخال الدين فى السياسة )) وهذا الإيمان بالفكر العلمانى جعل ( ألوميت شالونى) عندما كانت وزيرة التعليم ترفض تخصيص أية مبالغ من ميزانية الوزارة للمدارس أو المعاهد الدينية. بل ورغم أنها وزيرة صرّحتْ بأنّ الجولان أرض سورية.
وكان هرتسل وهو يُشجع اليهود على الهجرة إلى فلسطين يقول لهـــــــم (( لدى خروجنا من مصر مرة أخرى ، لن ننسى خلفنا قدر اللحم )) وهو هنا يذكــّر اليهود بموقف جدودهم الذين ندموا لأنهم استجابوا لكلام موسى وهارون وخرجوا من مصر وتذمّروا وعاتبوهما قائلين (( ليتنا متنا بيد الرب فى أرض مصر، إذْ كنا جالسين عند قدور اللحم ونأكل خبزًا حتى الشبع . فإنكما أخرجتمونا إلى هذا القفر لكى تميتا كل هذا الجمهـــــــــور بالجوع )) ( خروج 16 : 2 ) والمعنى عند هرتسل كان مزدوجًا . فهو يقول لليهود إنكم لن تجوعوا فى فلسطين كما جاع جدودكم بعد خروجهم من مصر. وكذلك فإنكم بعد استيطانكم أرض فلسطين ، سوف تظلون أوروبيين. وهو ما عبّر عنه عندما قال (( إنّ دولة اليهود سوف تصبح بمثابة سويسرا صغيرة فى قلب الشرق الأوسط )) ولكن ها هو الواقع يُكذب الصورة التى حلم بها وتمناها . إذْ تحوّلتْ إسرائيل بفضل الأصوليين اليهود الذين يسعون إلى المزيد من التوسع ورفض إقامة الدولة الفلسطينية ، ومعاداة أنصار السلام ، وتهديد كل شعوب المنطقة بعدم الاستقرار، تحوّلت سويسرا الصغيرة فى قلب الشرق الأوسط ، فى حلم هرتسل اليوتوبى إلى بؤرة توتر. وإلى حروب دموية ، يدفع ثمنها الشعب الفلسطينى واللبنانى والإسرائيلى . وإذا كان المجتمع الإسرائيلى يتمتع بوجود علمانيين يقاومون التعصب الأصولى اليهودى ، فإنّ مصـــــــر (والمجتمعات العربية) تحتشد لمهاجمة أى صوت علمانى ، لدرجة التكفير والاغتيال . والنتيجة أنه بينما يرفض الأصوليون ( فى كل دين ) نداء السلام ، لا يعلو صوت فوق نعيق الغربان .
000
*هامش : لمزيد من التفاصيل أنظركتاب ( القوى الدينية فى إسرائيل بين تكفير الدولة ولعبة السياسة ) تأليف الراحل الجليل د. رشاد عبدالله الشامى – عالم المعرفة الكويتية – يونيو 1994 .