القاهرة 11 مارس 2015 الساعة 02:32 م
كتب توفيق الحكيم (فى مجال المسرح) أكثر من مسرحية اجتماعية، وأكثر من مسرحية استمد مادتها من التاريخ ، وكانت له تجربة فى كتابة ال (مسرواية) فى (بنك القلق) كما كانت له محاولات عديدة فى كتابة مسرح اللا معقول ، مثل مسرحية (مصير صرصار) ومسرحية (الطعام لكل فم) ومسرحية (يا طالع الشجرة) التى استلهم عنوانها من موتيفة شعبية مصرية، حيث كان الفلاحون يُغنون : يا طالع الشجره.. هات لى معاك بقره.. إلخ.
فى تلك المسرحية سيدة تغزل ثوبــًا لابنتها.. فهل لدى تلك السيدة ابنة ؟ وهل هى حامل وتنتظر لحظة الولادة ؟ أم أنها خلقتْ عالمًا وهميًا وصدّقته ؟ فى الصفحات الأولى لا يُفصح الأديب عن مكنون وجوهر تلك السيدة ، ولكن عندما تخرج من البيت ولا تعود ، وبعد أنْ غابتْ لمدة ثلاثة أيام ، فإنّ الحكيم كتب المشهد التالى بين المُحقق والخادمة. قالت الخادمة أنّ سيدتها خرجتْ من البيت لشراء الخيوط لتنسج ثوبًا لبنتها بهية ، فسألها المحقق :
المٌحقق : بنتها ؟
الخادمة : نعم بنتها بهيه.
المحقق : وأين هى بنتها بهيه ؟
الخادمة : لم تولد .
المحقق : لم تولد ؟ ومتى ستولد ؟
الخادمة : لن تولد .
المحقق : وكيف تعرفين أنها لن تولد ؟
الخادمة : كانت ستولد من أربعين سنة. ولكنها لم تولد .
المحقق : ما دامتْ قطعتْ الخلف ولم تلد ولم تولد.. فلماذا تنسج ثوبًا لبنتها التى لم تولد ولن
تولد ؟
الخادمة : إنها تراها وُلدتْ كل يوم .. وتولد كل يوم .
000
فى هذا المشهد ترجم الحكيم – إبداعيًا – حالة الإنسان الذى يخلق لنفسه عالمًا من الأوهام . ورغم أنّ تلك الأوهام تبدو- فى بداية نشأتها – على أنها عابرة وسوف تزول ، فإنّ مكمن الخطورة عندما تــُسيطر تلك الأوهام على الإنسان يومًا بعد يوم ، فيكون أسيرًا لها ، وبعد حالة الأسر، يكون من الطبيعى أنْ يُصدق نفسه ، أى يُصدق أوهامه ، لدرجة أنّ تلك السيدة – فى المسرحية - كما قالت الخادمة - أنها ترى ابنتها كل يوم.. وتراها تولد كل يوم.. رغم أنّ البداية تعود إلى أربعين سنة مضتْ. وبما أنّ الولادة الحقيقة لم تحدث ، فإنّ الخيال – خيال هذه السيدة- أناب عن الواقع . فمن هى تلك الابنة (الرمزية) ؟ ولماذا اختار لها اسم (بهية) ؟ وهو اسم يستخدمه الشعراء كناية عن مصر؟ وما مغزى أنها لم تولد ولن تولد ، ثم التأكيد على أنها ((تولد كل يوم)) ؟ ألا تؤكد كل تلك الإيحاءات أنّ الحكيم كان يستشعر الخطر، إبان الحكم الناصرى ، خاصة وأنه كتب تلك المسرحية عام 1962؟ فترة الحكم الشمولى ، الذى تسبّب فى قتل جنودنا فى اليمن ، بعد تجربة الوحدة المصرية/ السورية الفاشلة ؟ ولكنه كان يرى أنه رغم كل شىء فإنّ مصر ستولد من جديد ، وهذا هو مغزى قول الخادمة (الذى يبدو مُــتناقضـًا من الناحية المنطقية) أنّ (بهية) لم تولد ولن تولد ، ومع ذلك فإنها ((تولد كل يوم))
مشهد حوار بين مفتش القطار والدرويش :
فى هذا المشهد يستلهم توفيق الحكيم مفردات الواقع المصرى ، ويغزل عليه رؤاه من خلال ما يُسمى ( اللا معقول )
وبينما مفتش القطار سأل الدرويش : هل تعرف ماذا أطلب من حياتى ، فإنّ الدرويش يرد عليه بالأغنية التى كان الفلاحون يُردّدونها ( أيام أنْ كان شعبنا يُنتج ثقافته القومية قبل غزو الراديو والتليفزيون لقرى الفلاحين) قال الدرويش لمفتش القطار :
يا طالع الشجره هات لى معاك بقره
تحلب وتسقينى بالمعلقه الصينــــــى
فما علاقة الأغنية بالسؤال ؟ وهل فوق الشجر بقر؟ إنه الخيال الشعبى ، الذى يُكمل ما عجز عنه الواقع ، أو هو بديل الواقع . وهذا الحل (الشعبى / الفانتازى) يراه علماء الاجتماع أنه درجة من درجات مقاومة بؤس الحياة ، بغرض الاستمرار فى الحياة. لذلك كان الحكيم موفقــًا عندما جاء رد مفتش القطار – بعد أنْ سمع الأغنية : ((يظهر إنك عرفتْ)) والحكيم فى هذا الرد المُـختصر، ترك مساحة للقارىء ليُكمل باقى الجملة : أى أنك أيها الدرويش عرفتَ طلبى . بعد ذلك يستمر الحوار بينهما على هذا النحو البديع الذى مزج فيه الحكيم الواقع بالفانتازيا :
الدرويش : العارف لا يُعرّف .
المفتــش : إذن لا حاجة بى إلى الشرح .
الدرويش : هناك فى ضاحية الزيتون .
المفتــش : ضاحية الزيتون ؟
الدرويش : هناك سوف تجد ...
المفتــش : أجد ماذا ؟
الدرويش : الشجره.. فى الشتاء تطرح البرتقال.. وفى الربيع المشمش.. وفى الصيف التين..
وفى الخريف الرمان .
المفتــش : شجره واحده ؟!
الدرويش : واحده.. كل شىء واحد.. هناك الشجره والبقره والشيخه خضره .
المفتــش : الشيخه خضره ؟!
الدرويش : كل شىء أخضر.. كل شىء أخضر..
المفتــش : كل شىء أخضر؟ّ! هذا كلام مُـطمئِن..
الدرويش : إلى حين .
المفتــش : أترى شيئــًا مًــكــدّرًا ؟
الدرويش : لا تــُلق علىّ أسئله.
فى هذا المشهد – شديد الكثافة- فإنّ توفيق الحكيم – بسلاسة إبداعية- نقل القارىء من الشجرة التى تتربّـع فوقها بقرة ، كما أراد خيال الفلاح المصرى ، إلى شجرة عجيبة هى الأخرى ، تطرح فاكهة الشتاء والربيع والصيف والخريف ، أى أنها شجرة كل فصول السنة. ولكن السؤال هو: هل توجد شجرة (واقعية) لها تلك القدرة الخارقة على انتاج فاكهة كل الفصول ، أم هى شجرة رمزية لشىء أبعد وأعمق ؟ الاجابة – من خلال الحوار- أنها شجرة رمزية ، رمزية لأى شىء ؟ رمزية لما قاله الدرويش وهو يتحدّث عن الشجرة حيث قال : هناك الشجره والبقره والشيخه خضره. فإذا كانت (الشجرة) رمز الخضرة والجمال والعطاء ، والبقرة رمز للإلهة حتحور التى قدّسّها جدودنا المصريون القدماء ، وكانت ترمز للجمال ، وتــُرضع الآلهة والبشر، كما جاء فى البرديات وعلى الجداريات العديدة ، فإنّ ذلك الثنائى (الشجرة والبقرة) هو التمهيد لما قصده الحكيم عندما وضع بعدهما مباشرة (الشيخة خضرة) فما مغزى هذا الاسم (والأدق هذا الرمز) ؟ لا أغالى إذا قلتُ أنّ الحكيبم كان يقصد (طبيعة الأرض المصرية) العفية القادرة على العطاء ، وقد بنيتُ اعتقادى هذا من الحوار الذى دار بين الدروبش والمفتس الذى سأل مُـندهشـًا : الشيخة خضرة ؟ فردّ الدرويش عليه : كل شىء أخضر. ثمّ كانت المفاجأة – الإبداعية - عندما وضع الحكيم على لسان المفتش تلك الجملة الدالة : كل شىء أخضر؟ هذا كلام مُـطمئِن . ولكن الدرويش – وبالأدق هذا رأى توفيق الحكيم – قال : ولكن إلى حين . وهنا براعة الحكيم – فى هذا الحوار المُـكثف – أى أنّ الخضرة والنماء وبالتالى الاعتماد على الزراعة - أى الاعتماد على كل ما هو أخضر، قد يدوم أو لا يدوم ، لأنّ المسألة تحتاج إلى وعى وطنى بأهمية الزراعة. وتأكــّد ذلك عندما سأل المفتش : أترى شيئــًا مُـكــدّرًا ؟ ولأنّ توفيق الحكيم يرفض أنْ يكون للإبداع أى دور فى تقديم الإجابات الجاهزة ، جعل الدرويش يرد على السؤال قائلا : لا تــُـلق علىّ أسئلة. وهكذا ترك الحكيم الإجابة للقارىء. بمعنى التفكير فى مصير الزراعة المصرية : هل هناك أشياء تقف ضد النمو الزراعى ؟ وما العمل ؟
000
أعتقد أنّ توفيق الحكيم فى هذه التجربة من تجارب مسرج اللا معقول ، استطاع أنْ يمزج الواقع (المصرى) بمفرداته (من الطبيعة المصرية ومن الفلوكلور المصرى) بالفانتازيا ، لأنه استلهمَ واستوعبَ التيمات الشعبية التى أنتجها الأميون المصريون.