القاهرة 15 يناير 2015 الساعة 02:26 م
يُعتبر إسماعيل مظهر أحد المفكرين المصريين الذين أثروا الحياة الثقافية المصرية ، سواء فى مؤلفاته أو فى ترجماته ، وكان ينطلق فى كل كتاباته من مبادىء العلمانية وعلى رأسها (علمنة مؤسسات الدولة) وضروة إعمال العقل للتمييز بين الخير والشر، وأنّ هذا لن يتحقق إلاّ بعد أنْ تتخلص
البشرية من آفة (الثوابت) وأنّ السبيل إلى ذلك هو الإيمان بالتعددية ونبذ الأحادية.
وإسماعيل مظهر أحد المُــفكرين المصريين الذين شهدوا بزوغ فجر القرن العشرين الميلادى ، حيث نهضتْ مصر من غفوتها لتـُزيل غبار قرون التخلف الذى تسبّب فيه الغزاة من فرس ويونان ورومان وعرب وعثمانيين. ولكن هذه الصحوة لم تأت كطفرة مباغتة ، وإنما سبقتها إرهاصات عديدة بدأتْ على يد على بك الكبير الذى تولى (إمارة) مصر عام 1754. إذْ بعد أنْ تخلص من خصومة المماليك عزم على أنْ يستقل بمصر عن تركيا، فخلع الوالى محمد الأوزفلى وأعلن استقلال مصر عن الخلافة العثمانية. وبهذا يكون على بك الكبير (1728- 1773) أول من حاول الاستقلال بمصر عن تلك الخلافة التى كرّستْ الاستبداد والتخلف منذ عام 1517. وبعد ذلك جاء الدور على محمد على الذى تولى الحكم عام 1805 عقب خروج جيش الغزو الفرنسى من مصر، وتأسيسه لمصر الحديثة من خلال البعثات إلى أوروبا وحركة الترجمة النشطة والواسعة والتى شملتْ كافة المعارف من علوم إنسانية إلى العلوم الطبيعية. بخلاف مدارس الطب والهندسة التى تحوّلتْ إلى كليات فيما بعد. وإذا قفزنا قفزة واسعة لنصل إلى عام 1908نرى أنّ (الصحوة) أثمرتْ إذْ أنّ ذاك العام شهد حدثيْن أثــّرا على تطور المجتمع المصرى : إنشاء مدرسة للفنون (التى تطوّرتْ إلى كليات للفنون الجميلة فيما بعد) أنشأها وموّلها ورعاها الأمير يوسف كمال. ثم كان الحدث الثانى (فى نفس العام) افتتاح الجامعة الأهلية التى موّلها الباشاوات المغضوب عليهم من ضباط يوليو52. وتحوّلتْ إلى جامعة فؤاد (القاهرة فيما بعد) عام 1925.
فى خلال هذه المسيرة التى شهدتْ الصراع بين النور وجيوش الظلام شهدتْ مصر تيارًا فكريًا حرص على ترسيخ مبادىء الحرية الفردية والسياسية ، ورأى أنّ السبيل إلى ذلك هو (علمنة) مؤسسات الدولة والدفاع عن الليبرالية بشقيها (الفكرى والسياسى) وكان من بين هذا التيار أحمد لطفى السيد ، طه حسين ، محمود عزمى ، إسماعيل أدهم ، درية شفيق، منيرة ثابت ، سعاد الرملى إلخ بخلاف بعض المفكرين الشوام أمثال فرح أنطون وشبلى شميل وآخرين.
من بين المفكرين المصريين إسماعيل مظهر(1891- 1962) عالم لغوى ثم اتجه إلى علم الأحياء وعكف على قراءة مذهب دارون فى النشوء والتطور. وترجم كتابه (أصل الأنواع) عام 1918كما صدر له كتاب من تأليفه بعنوان (ملتقى السبل) عام 24 تحاور فيه مع المذهب المادى عند شبلى شميل كما انتقد فيه رسالة (الرد على الدهريين) لجمال الدين الإيرانى الشهير بالأفغانى. ورأس تحرير الموسوعة العربية الميسرة ومجلة (المقتطف) وأصدر مجلة العصور عام 27. وتلك المجلة كانت علامة بارزة فى تاريخ الثقافة المصرية قبل أبيب/ يوليو52. وكان إسماعيل مظهر من الشجاعة لدرجة أنه كان ينشر فى أغلب الأعداد مقالا ثابتــًا للكاتب شارلس سميث (رئيس الجمعية الأمريكية لنشر الإلحاد) ورغم عـُمر المجلة القصير(من 1927- 29) إلاّ أنها أثرتْ الثقافة المصرية لإهتمامها بالفلسفة والعلوم الطبيعية والعلاقة بين الدين والعلوم الإنسانية والطبيعية. بخلاف الدراسات حول تاريخ الشعوب والأدب. وكان كل عدد تتصدّره الجملة التالية ((حرّر فكرك من كل التقاليد والأساطير الموروثة ، حتى لا تجد صعوبة ما فى رفض رأى من الآراء أو مذهب من المذاهب ، اطمأنتْ إليه نفسك وسكن إليه عقلك ، إذا انكشف لك من الحقائق ما يُناقضه)) وإتساقـًا مع هدف المجلة كتب إسماعيل مظهر مقالا فى عدد مايو29بعنوان (المذهبية والارتقاء) والمُكوّن من 16صفحة من القطع الكبير، ولذا سأكتفى بتلخيص بعض ما ورد فيه.
صنـّف مظهر المذهبية إلى : 1- مذهبية اعتقادية تؤدى إلى التعصب لفكرة أو مبدأ أو أسطورة وتنتقل بالوراثة عبر الأجيال 2- مذهبية التعصب للعرق الذى يؤدى إلى النفور من بقية سلالات النوع البشرى وتدفع إلى الحروب 3- المذهبية الطائفية. وهى فى أبسط مظاهرها انحلال فى الوحدة القومية والاجتماعية وتفسح المجال للحروب الأهلية وكانت سببًا لسقوط الإمبراطوريات الكبيرة 4- المذهبية الفردية أى التعصب للذات الذى يؤدى إلى التحجر.
وعن المذهبية الاعتقادية يدخل الدين كطرف أساسى للتعصب. فذكر أنّ البعض يعتقد بأنّ الصراع بين العلم والدين انتهى. وأنهما تصالحا على أنْ يكون لكل منهما مجاله : الدين عالمه (الذات) والعلم عالمه (الموضوع) بينما نفى فريق آخر وقوع الصراع بينهما. فنـّد مظهر هذا الرأى الأخير وضرب أمثلة دلــّـل بها على رأيه. وأنّ المُدافعين عن الدين إزاء الحقائق التى توصل إليها العلم ، وقفوا ضد العقل الإنسانى حتى لا يُساير التطور. ولكن بعد أنّ أفلت العقل من يد الاعتقاد رمى أصحاب هذا الرأى ((بقذيفة مازال صداها يتردّد إلى اليوم فى جنبات الفكر الإنسانى)) وأضاف أنّ الإنسان ثار على المعتقد للدفاع عن الارتقاء. وأنّ من يفعل ذلك استطاع أنْ يُصارع التقاليد الموروثة والأساطير ، ليصل لدرجة من الرقى فتكون إنسانيته (إذا بلغها) قد تحققتْ. وأنّ خطورة المعتقد فى تحوّله ليُصبح راسخ القوائم فى أعمق أغوار النفس ، عندما يرى المعتقدات أو الأساطير وقد تحوّلتْ إلى (القداسة) فى تلك الحالة فإنّ العقل المتعصب للمذهبية (الدينية) يقع فريسة للغيبيات على أجنحة ملائكة لا تراه ولا يراها. ورغم ذلك يتخيّل أنه أحد أصفياء الله. وبالتالى فهو يرى أنه قد امتلك الصواب المطلق ((ومن أجل أنْ تكون أحكام المذهبية الاعتقادية بالغة منتهى القسوة (فهى) محاطة من العقل باسم الله ، واستمدّتْ كافة أحكامها وأوهامها من عالم لا يراه الإنسان ، فكأنها أشياء هبطتْ علينا من عالم اللانهاية. فمن تاب وأناب فالجنة موئله ومن عصى فالنار مثواه))
إنّ هذه الشبكة المحبوكة والمنسوجة خيوطها من عالم الغيب وتبطنتْ بسياج القداسة ليدخل العقل فى حظيرتها ، هى شبكة ضعيفة أمام العقل (الناقد) الرافض للغيبيات. إنّ الدين أحد مظاهر المذهبية الاعتقادية. ومع إنّ المذاهب الفلسفية قد تبلغ فى بعض الأحيان (لدى البعض) درجة من الثبات فى النفس مثلها مثل الدين ، فإنّ تطورها أضعف التعصب باستمرار، فتفقد (القداسة) وكذلك المذهبية العلمية قد تـُصبح لدى البعض أشبه بالدين (ولكنها مع التقدم العلمى تفقد قداستها) والمذهبية الدينية عكس الفلسفة والعلم وعكس العلوم الاجتماعية التى يجتهد أصحابها لبحث حل من مشاكل الحضارة. الارتقاء الفلسفى والعلمى حركة إلى الأمام (بما يعنى صيرورة التقدم) فى حركتها الديناميكية ، بينما المذهبية (الدينية) فى كل صورها نذير الهمود والسكون الدائم ، لأنّ المذهب بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانى الثبات ، لا يحتمل مطلقــًا أنْ تتبدل بعض أطرافه أو تتغير بعض أحكامه. وخطورة أى مذهب أنه عبارة عن كل مترابط الأجزاء ، فيكون مثل هرم قائم على الأرض يرتكز على قاعدته ، فإذا تخلخلتْ القمة أو انحرفتْ ، انهار الهرم . لهذا فإنّ كل فكرة مهما كانت صيغتها إذا ما لبستْ الثوب المذهبى ، فذلك دليل على قرب انهيارها ونذير بأنّ ساعتها قد دقتْ وآن أوان زوالها. وإذا كانت هناك مذاهب فى الفلسفة ، فإنّ الدين هو أقسى ضروب المذهبية أثرًا فى النفس وأقواها ولكنه يضعف أمام العقل الناقد.
إنّ المذهبية الاعتقادية كانت من أقوى الموانع دون الارتقاء . وأكبر دليل على هذا أنّ الصيحة التى صاحها الغرب فى وجه الكنيسة وانتهتْ بفصل الدين عن الحكومة. والصرخة المدوية التى يرن فى أذننا صداها اليوم ضد مذهبية الفلسفة ومذهبية العلم بل ومذهبية الإصلاح الاجتماعى نفسه ، ظهرت جلية فى مذهبية الشيوعيين والاشتراكيين وانتهت بتقرير مبدأ حرية الفكر. ولم يكن لهما من سبب إلا وقوف المذهبيات فى وجه الارتقاء. بل إنّ هاتيْن الصيحتيْن ليستا إلا تعبيرًا عن شعور عميق خارج أعماق النفس إذْ تشرئب إلى الارتقاء والتقدم ، فيحول دونها حائل المذهبية فى أية صورة من صورها. وأننا لن نكون يومًا ما أقرب إلى انتهاج سبل الارتقاء الحقيقى ، إذا لم نحطم المذهبيات بأنواعها وتركنا الفكر حرًا ليسلك بنا السبل التى مهّدها من قبلنا أصحاب الارتقاء من أهل الحضارة الحديثة.
أما المذهبية المتعصبة للعرق فهى تؤدى إلى النفور من بقية سلالات النوع البشرى . وأنّ ما يُسمى الفتح أو الغزو، فقد تسبّب فى التدمير وقلب الأنظمة الاجتماعية المستقرة. وبسبب ترسيخ منظومة (الملكية الفردية) من ناحية والغزو من ناحية أخرى ، حدثتْ الكوارث . فبعد أنْ كانت ملكية الفرد لا تتعدى ملكية بهيمة أو شجرة أو قطعة أرض ، امتدتْ الملكية لتكون حيازة مدينة أو احتلال وطن بأكمله. ومن ثم أصبحت ملكية لرقاب شعوب بأكمها.
وعن المذهبية الطائفية فإنّ مجرد وجود أقلية مندمجة فى أكثرية ، تسبّبتْ فى ظهور التعصب الطائفى ، لأنّ طبيعة الأكثرية الميل إلى الاستبداد والاستئثار بالمصالح الكبرى فى دولة ما من الدول. ومن صفاتها احتقار الأقليات ، وهو ما يؤدى إلى إذلال الأكثرية للأقلية ، فيبقى جسم الأمة مسمومًا بسم الطائفية. ولا جـُرم أنّ هذا من أكبر عوائق الارتقاء . إنّ الآثار التى خلفتها تواريخ الكنائس على مر العصور بلغتْ أقصى الضرر بترقى الإنسانية. بل كانت الحائل الأكبر دون الإخاء الإنسانى . وكانت موئل الخلافات ومبعث الشرور الاجتماعية. وعلينا أنْ نتذكر أنّ الإنسان ليس له أى اختيار فى دينه. وأنه يولد محفوفــًا بثلاث ضرورات أولية : الأولى أنه يوجد والثانية أنه يموت والثالثة أنْ يكون له دين . أما الضرورتان الأولى والثانية فطبيعيتان . أما الثالثة فهى صناعية فيها من أثر العادة أكثر مما فيها من الطبيعة. ولن يكون نظام هذا شأنه مفيدًا للإنسانية أو مسايرًا للارتقاء . بل هو نظام موروث يُحدث اتجاهـًا فكريًا من شأنه أنْ يزيد من فجوات النظام الاجتماعى ويُكثر من تصدع الاتحاد الإخائى . بينما حاول الفلاسفة سد هذا التصدع الإنسانى . لهذا فإنّ إلغاء نظام الكنائس نعمة كبرى . وفى إلغائه أكبر خدمة للإنسانية.
فى ختام هذه الدراسة كتب إسماعيل مظهر((إنّ الثوب المذهبى إذا لابس أية صورة من صور الفكر أو المعتقد أو الميول أو النزعات ، كان أكبر دليل على بدء طور من الانحلال تظهر نتائجه تدريجيًا على مر الزمان . إنّ الارتقاء والمذهبية عدوان لدودان . ولن يكون ارتقاء مع مذهبية. ولن تكون مذهبية مع ارتقاء . إذن وجب علينا أنْ نـُضحى بأحدهما ليخلص لنا الآخر. ولا جُرم أننا نـُضحى بالمذهبية لنخلص بالارتقاء ونتجه إليه فى خطانا نحو الحضارة الصحيحة))
000
هذا ما كتبه إسماعيل مظهر عام 29ولم يكن وحده إنما كان ضمن تيار كبير من المفكرين الليبراليين الذين عاشوا الفترة السابقة على أبيب/ يوليو52. ولم تكن د. لطيفة الزيات مغالية فى رأيها وهى تصف مشهد وداع عميد الثقافة المصرية (طه حسين) إذْ كتبتْ ((وأنا أشيع جنازة طه حسين شعرتُ أننى أشيّع عصرًا لا رجلا . عصر العلمانيين الذين جرءوا على مساءلة كل شىء. عصر المفكرين الذين عاشوا ما يقولون وأملوا إرادة الإنسان حرة على إرادة كل ألوان القهر))
***