القاهرة 15 يناير 2015 الساعة 02:22 م
عندما تتحول الإثارة إلى غاية لخدمة شباك التذاكر، تخرج من نطاق مقتضيات الدراما إلى حيز الكارثة ، فهى تسبب ضررا مجتمعيا فادحا ، وتؤدى إلى حالة من السعار الجنسى بين الشباب الذى لا هوية له و لا هدف، فتثمر تلك الثمرة البشعة و هى التحرش و الاغتصاب، لذلك عندما نهاجم صناعة السينما التى تستخدم تلك الوسيلة ،فنحن لا نهاجم حرية الإبداع ،و عندما يتحرك مقص الرقيب بعنف وقوة ، ليحذف مشاهد و عبارات تؤذى المجتمع المصرى، الذى لا يزال يتعافى من أكثر من ربع قرن من الجهل و غياب الثقافة، فإن هذا الحذف لا يعتبر تعدى على حرية الإبداع، و لكنه يحمى حرية الأخلاق .وعندما نطرح قضية مثل الإثارة فى السينما للنقاش، فإننا بذلك نفتح ملفا شائكا و نطرح أسئلة كثيرة ، تختلف طبيعتها باختلاف طبيعة المرحلة التى يعيشها المجتمع ، والتى تمر بها السينما. و نتعرض لأدوار تقوم بها جهات رقابية معينة من قبل الدولة، وهى جهاز الرقابة على المصنفات الفنية،و نتعرض لدور الرقيب و هو ذلك الشخص الذى يقف موقفا حرجا، و يتعرض للضغط بين شقى رحى ، الشق الأول هو واجبه فى حماية المجتمع الذى ينتمى إليه أبناؤه و بناته، و قيم معينة هامة جدا أخلاقية و دينية. و الشق الثانى هو ضغط أصحاب الأفلام والذين يمثلون الشق التجارى فى السينما، و جزء آخر هو اتهامات الرجعية و البيروقراطية و خبرات الماضى السيئة، التى تثيرها كلمة الرقابة، التى تعيد إلى الأذهان شبحين من أشباح الماضى، الذين استخدموا الرقابة كسيف لحمايتهم من معارضيهم، هم الإنجليز و مراكز القوى ، يوم كانت الرقابة تشمل كل شىء فى حياة المصريين، بدءا من الصحف، و مرورا بباقى تفاصيل حياتهم اليومية ،حتى الأحاديث التى كانت تدور على كراسى المقهى بين دخان الشيشة .
لذلك فإن مناقشة دور الجنس فى السينما لهو نقاش طويل ، يأخذنا إلى قضايا أخرى تتفرع منه لا تقل أهمية عن القضية الرئيسية، و هى فكرة الإثارة و المشاهد الساخنة ، و هو ما يأخذنا للعبارة الشهيرة التى طالما ترددت على أبواب صالات العرض ، و خاصة فى فترة الثمانينيات و هى الفيلم ده " قصة و لا مناظر ؟ "
قصة و لا مناظر ؟ طالما سمعت هاتين الكلمتين تترددان أمام أبواب دور العرض ، و خاصة بالنسبة للأفلام الأجنبية ، و بالأكثر أفلام المهرجانات و التى تتحرر من قيود الرقابة ، فتلاقى إقبالا من طائفة معينة من الشباب ،لا تقرب باب صالة العرض إلا فى تلك الفترات التى يعرض فيها مهرجان القاهرة السينمائى الدولى .و تكفى إشاعة أن الفيلم به الكثير من مشاهد الإثارة ليلاقى إقبالا على شباك التذاكر منقطع النظير، و أحيانا تضيف له دار العرض حفلة بعد منتصف الليل، وهو ما لم يحدث لفيلم "غاندى" بطولة الممثل " بن كنجيسلى " البريطانى الجنسية و الهندى الأصل، و الذى حاز جائزة أوسكار أحسن ممثل عام 1982عن دوره فى الفيلم، والذى تم رفعه من دور العرض فى مصر بعد فترة وجيزة من نزوله ،و لا أذكر هل لاقى " عمر المختار " نفس المصير أم لا، ولكن فى الأغلب أنه واجه نفس هذا الإعراض من الجمهور. و أذكر يوم حضرت عرض غاندى فى إحدى الدور فى أوائل الثمانينيات، إن صالة العرض كانت تقريبا بلا جمهور، و هو بالتأكيد ما سبب الخسارة لصاحب الدار، الذى أخذ على عاتقه تلك المغامرة التى باءت بالفشل، و التى حاول فيها مشكورا أن يقوم بدوره فى رسالة السينما ، و لكن لأن الفيلم كان خاليا من المناظر، فقد عزف عنه جمهور السينما فى ذلك الوقت، من بداية النظام الذى دمر صناعة السينما الراقية فى مصر. ففى تلك الفترة ظهرت أفلام المقاولات، و هى تلك التى تتكون من سيناريو مهلهل تسانده تجاريا مجموعة من أدوات الجذب، كمشاهد الإثارة ، و المشاجرات الكرتونية، و الرقصات و الصفعات و الركلات، و التى ذات مرة شاهدت إعلان أحد الأفلام ،يعلن عن عددها بالفيلم كعنصر لجذب المشاهد .
و لما كان الجنس و فكرة الإثارة موجودة فى السينما شئنا أم أبينا، و لما كانت السينما النظيفة مجرد مفهوم مطاط، بين سينما ممسوخة تغيب عنها المرأة ليس بجسدها و لكن بالعلاقة بينها و بين الرجل، و هو مفهوم إنسانى أساسى لا يمكن إغفاله. و بين سينما تعتمد على جسد المرأة و فكرة الجنس، كدعامة أساسية يقوم عليها الفيلم. لذا دعونا نستعرض المجتمع المصرى و التفاعلات الاجتماعية التى طرأت عليه ، و على السينما المصرية كنتاج لتلك التفاعلات، فقد شهدت فترة الستينيات تحولا فى ثقافة المجتمع المصرى، بعد تخلصه من بعض الأفات التى شابت الثقافة الغربية، التى لا نستطيع أن نقول إنها ثقافة موبؤة بالكامل، فبجانب الإباحية و بيوت البغاء كانت هناك روائع الأدب العالمى و أمهات الكتب، التى شملت كافة نواحى الحياة و مختلف العلوم، و لذلك احتفظ المجتمع المصرى فى الستينيات، بما كسبه من التراث الحضارى للثقافة الغربية، و تخلص من بعض السموم و الشوائب التى كانت تختلط بهذه الثقافة مثل الإباحية و بيوت البغاء .
وعندما نأخذ فيلم قصر الشوق الذى عرض عام 1966 كمثال، و رغم اعتراض الرقابة فى ذلك الوقت على الفيلم و اعتباره فيلما دون المستوى، إلا أن الفيلم كان من وجهة نظر القائمين عليه، يعرض فترة من تاريخ مصر، كان فيها من شوائب و آثار الاستعمار الإنجليزى الضارة على المجتمع، وجود الدعارة المرخصة، و محاولة غمس المجتمع المصرى فى الملذات، و هى استراتيجية استعمارية معروفة لهدم المقاومة و توجيهها إلى اتجاهات أخرى. و قد تعرض صناع الفيلم لهذه الفترة فى محاولة "لنقدها "و تصوير الازدواجية التى كان يعيش فيها جزء من المجتمع المصرى ، فبينما كان جزء يقاوم الإنجليز، يظهر الفيلم كبار التجار و هم جزء من المجتمع المصرى، منغمسين فى الملذات لاهين عن قضية الوطن، و فى رأى أن مشهد العوالم فى الفيلم تم توظيفه بدقة، و كان ذات أهمية كبيرة فى توضيح القصد الدرامى من الفيلم. فهو يصور الأب و أصدقاؤه التجار الذين على شاكلته، فى حالة رقص و مجون لا تقصد به الخلاعه، و لكن قصد به تجسيد حالة اللهو و اللامبالاة التى يعيش فيها هؤلاء، ضاربين عرض الحائط بمسئوليتهم كأرباب أسر و قدوة لأبنائهم.
حتى الدور الذى أدته ببراعة الفنانة نادية لطفى ، التى اشتهرت بأداء الأدوار الرومانسية الرقيقة، فهى أبدا لم تكن ممثلة إغراء و لكنها تقمصت الشخصية ببراعة، و هل يطلب من شخصية العاهرة أن تتصرف باحتشام أو تتكلم بوقار، و لكن أداء نادية لطفى للشخصية المشوب بالخلاعة، كان من مقتضيات الشخصية، و لم يكن الهدف منه الإثارة .و فى الحقيقة فإن مخرج مثل حسن الإمام يمتلك مواهبه و مقدرته الفنية ،لا يحتاج إلى الإثارة لإنجاح فيلم ما، خاصة و إن كان يستند إلى كاتب كنجيب محفوظ . و الفيلم أن كان يرصد حالة ما فى المجتمع المصرى فالمقدمات تؤدى إلى النتائج. فذلك الأب الذى يعيش حالة من الازدواجية بين جو الخوف و الإرهاب الذى يفرضه داخل منزله، و على اولاده بحجة الاحتشام و الوقار ،و بين حياة المجون و الخلاعة التى يعيشها خارج المنزل برفقة أصدقاء السوء، الذين يزينون له الانحراف ،و هو ما جسده و ركز عليه بشدة الجزء الأول من الثلاثية و هو فيلم " بين القصرين " و الذى مثل المقدمات، فكان لابد أن يكون فيلم "قصر الشوق" و هو الجزء الثانى مجسدا للنتائج، التى أدت إليها تلك المقدمات ، من انحراف أبنى السيد أحمد عبد الجواد، و سقوطه هو نفسه فريسة للعاهرة التى تدمر حياته، و لكنهم فى النهاية يعودون إلى صوابهم .و فى رأى فلا يعيب الفيلم أنه ركز على جزءا سلبيا من الحياة الاجتماعية للمصريين، و لم يكن يدعو إلى الجنس و الخلاعة، و إلا فبالقياس على هذا ،يمكن أن نقول إن أى فيلم يناقش قضية المخدرات، يدعو إلى الإتجار بها ، و هى الصورة السلبية التى تظهرها تلك الأفلام، والنهايات البشعة التى تحرص على أن يموت بها البطل فى النهاية ، و كأنها توضح جزاء تلك التجارة الشائنة . لذلك فليس منطقيا أن نقول إن فيلم ما يناقش قضية اجتماعية، إنما يدعو إلى الصورة السلبية التى تظهر بها بل على العكس فهو يحذر منها و ينبئ بعواقبها لذلك كانت الإثارة الغير مبالغ فيها فى الفيلم ،من مقتضيات الدراما و التى تم توظيفها بمهارة و حرفية، لخدمة المحور الأساسى الذى يدور حوله الفيلم، و هو الازدواجية التى كان يمر بها المجتمع المصرى فى تلك الفترة .
نترك الستينيات و نتقدم إلى الأمام إلى فيلم مثل "لحم رخيص" و الذى وصف بالجرأة ووسم بالإثارة، رغم إنه كان يعالج قضية هامة جدا تفشت فى أواخر الثمانينيات، و هى قضية زواج المتعة . و الفيلم بطولة إلهام شاهين و من إخراج إيناس الدغيدى، وهو يتعرض إلى ثلاث صديقات من نفس البلدة اثنان منهن تقعان فريسة لزواج المتعة، عن طريق سمسار متخصص فى ذلك النوع من الزواج، و الثالثة " إلهام شاهين " تحاول شق طريقها فى الحياة و تقع أيضا فريسة لنفس السمسار، الذى يقوم بتوظيفها فى خدمة أحد الأجانب المقيمين بمصر ،و الذى يحاول فى أحد مشاهد الفيلم الاعتداء عليها، و لم يكن فى المشهد شىء من العرى أو الإثارة بل تجسيد لما قد تتعرض له فتاة فقيرة تعمل فى خدمة أجنبى سكير. و المشهد الثانى فى الفيلم يوضح محاولة من الزوج الكهل ، معاشرة إحدى الفتيات معاشرة شاذة ،تم التعرض لها فقط عن طريق الحديث، و لم يكن فى المشهد ما يثير الغرائز، بل إنه مشهد يخلف لدى المشاهد شعورا بالاشمئزاز. و المشهد الثالث بين الفتاة الثالثة و الثرى العربى الذى تزوجته، و هو قد يكون ساخنا بعض الشىء ،و لكن الفيلم يتعرض لقضية زواج المتعة و جاء المشهد فى سياق الفيلم بدون عرى أو خلاعه .
و عندما نتعرض لأفلام من كلاسيكيات السينما المصرية، كنهر الحب و رد قلبى و بين الأطلال نرى الكثير من مشاهد التقبيل بين بطلة الفيلم و حبييبها ،و لكننا نجدها مشاهد لا تثير الغرائز فالبطلة منذ البداية تبدو فى صورة محتشمة محترمة، تبتعد بالمشاهد عن الإثارة. و من خلال سياق الفيلم الرومانسى ،نجد الفيلم يجذب المشاهد بعيدا عن منطقة الإثارة و يجنح به نحو الرومانسية، لذا فعندما تحدث القبلة الحارة فى أحد المشاهد، يكون ذلك بعد تمهيد رومانسى طويل، فيأتى المشهد غير مثيرا للغرائز، بل إنه يخدم الحالة الرومانسية التى يجسدها الفيلم .
و هناك أحيانا مشاهد فى الفراش و غرفة النوم، و يكون بها بعض العرى فمثلا فى "فيلم القاهرة 30 " يدخل محجوب " حمدى احمد " على زوجته احسان " سعاد حسنى " بعد لقائها الحميم مع قاسم بك وكيل الوزارة " أحمد مظهر " ، يدخل محجوب الذى يعيش فى صراع مرير بين "طظ" التى وضعته فى الوظيفة المحترمة، و بين حبه لإحسان و غيرته عليها .و يجدها محجوب فى غرفة النوم بملابسها الداخلية، نائمة على الفراش فى وضع أشبه بوضع البغى. و تستعرض الكاميرا فى المشهد بعينى محجوب، أثار الرجل الذى عاشر زوجته للتو. فهو يرى الكأس الذى شرب فيه الخمر و الطبق الذى توجد به بقايا التفاحة التى تناولها، و كذلك طرف السيجار الذى لم يتمه موضوعا على طرف منفضة السجائر . فى عبقرية شديدة أوضح صلاح أبو سيف فى ذلك المشهد شعور محجوب عبد الدائم. و لم يكن من الممكن إيضاح ذلك الشعور و تقريبه لذهن المشاهد بدون ذلك المشهد، فكل شىء فى المشهد تم توظيفه فى خدمة الفكرة ، حتى الوضع الذى كانت تنام به إحسان على الفراش، و حتى الملابس التى كانت تلبسها و التى تظهرها ، و كأنها بغى انتهت من أحد المترددين على منزل الدعارة .و هى الصورة التى كانت تعذب محجوب و التى كان يحاول الهروب منها عن طريق مبدأ طظ الذى كان يعتنقه .
و لكن الوجه الآخر لصورة مشاهد الإثارة و هو الوجه القبيح ، الذى يسلب السينما رسالتها العظيمة، و يختزلها فى صورة لامرأة مثيرة بالحجم الطبيعى، و هو الوجه الذى يطل علينا الآن. و رغم أن مشاهد العرى لا تكون صريحة، فلا يوجد مشهد تتعرى فيه البطلة، و لكن العرى هنا يكون أيحائيا عن طريق جزء من جسدها، يعرض بطريقة مثيرة تسيل لعاب جزءا من جمهور السينما ،الذى تجذبه نوعية معينة من الأفلام ،تنطلق فيها الإيحاءات الجنسية المنحطة، بكل الوسائل من حركات ماجنة و كلمات موحية، و إشارات وضيعة و مشاهد جنسية مبتورة، يترك للمشاهد إتمامها فى خياله الملتهب. و هو ذلك النوع من المشاهد الساخنة الذى يخدم فقط شباك التذاكر، الذى تتكالب عليه طائفة من الجمهور، أغلبها من المراهقين عمريا و سلوكيا .فأولئك الذين تم تجريفهم فكريا و نفسيا على مدى الثلاثين عاما الأخيرة، و التى انتشرت فيها أفلام مسفة انحدرت بالذوق المصرى، والعقلية المصرية ، وسببت حالة من السعار الجنسى فى البيئة المصرية، و الذى نتجت عنه ظاهرة التحرش، التى قلما كنا نسمع عنها فى الماضى.
لذلك فإن سينما الإثارة هى عارض من عوارض ذلك المرض، الذى أصاب الثقافة و الأخلاق المصرية ،و التى وجدت لها فى العشرة أعوام الأخيرة جمهورا، لا يعرف عن السينما سوى مشاهد الجنس و العبارات الخادشة للحياء. و هم للأسف ضحايا ذلك النظام البائد الذى رحل تاركا الأمية تنهش عقول المصريين، و تقودهم إلى التطرف و العنف و التحرش، و كل ما هو لا أخلاقى لم تعرفه مصر فى زمنها الجميل، أيام لم يكن للسوقية و الفظاظة مكانا بين المصريين، حين كان التعليم كالماء و الهواء. و حتى تعود تلك الأيام فإننا نحتاج إلى مقص الرقيب، ليحذف كل ما هو فظ و خادش للحياء، حتى يتعافى المجتمع المصرى أخلاقيا و تختفى منه الفظاظة و السوقية ، حينئذ لن تكون هناك حاجة لمقص الرقيب، فسينما الإثارة ستتوارى كما يتوارى الظلام أمام النور .