القاهرة 18 ديسمبر 2014 الساعة 12:32 م
حينما دخل العبد لله قاعة العزاء في أحد المساجد مساء الخميس الماضي. وعلي الرغم من أن القاعة كانت عند دخوله شبه خالية. أندفع إلي اختيار مقعد منعزل. ما إن جلس عليه حتي استغرق في طوفان من ذكرياته. وقد ألح عليه بداية صدر بيت من الشعر يقول "ذهب الذين يعاش في أكنافهم" أي في ظلهم وحراستهم وعنايتهم. وعلا الصوت والمرء يتحدث إلي نفسه: "هكذا كنت يا دكتور حامد".
أحسست أن الحيطان تردد صدي الكلمات. ولكنها بالطبع لم تلحظ دمعة سقطت دون أن استطيع مقاومتها. وكيف للمرء أن يغالب دموعه وهو يستجمع رحيل الشقيق الابن. مع رحيل الصديق. وهو قبل الصداقة - بل وفوقها - الأستاذ والمعلم و"الخوجة" الذي بلا نظير. مما جعله أهلا للقب عميد التربويين العرب. وكان ثالث "العمداء" والعلماء الكبار الذين دخلوا حياتي قبل ما يزيد علي عشرين عاما. ولم يخرجوا منها. بل إن رحيلهم جعلهم عندي أحياء. وهم في باطن الأرض. يواصلون دورهم أو رسالتهم معي من خلال أعمالهم وكتاباتهم. وقصص حياتهم التي نسجها كل منهم نسيجا خاصا. جعلها في مجملها رصيدا مهما لمن يريد أن يكتب عن تاريخ مصر منذ ستينيات القرن الماضي. إلي أمس القريب. كتب رشدي سعيد "رحلة عمر: ثروات مصر بين عبدالناصر والسادات" في 2000. وكتب رءوف عباس: "خطي مشيناها مسيرة ذاتية" في ديسمبر 2004. وفي 2006 أصدر الدكتور حامد "خطي اجتزناها: بين الفقر والمصادفة إلي حرم الجامعة". في مناسبة سابقة. كتبت في دورية أخري مقارنا بين مذكرات الكبيرين علما وخلقا حامد عمار ورءوف عباس. خاصة وأن الأول ذكر في مقدمة مذكراته أن الثاني هو أحد الذي استحثوه بقوة علي كتاب هذه المذكرات التي كتبها بعد تردد وتعفف. ظنا منه أنه ليس في حياته ما يستحق الذكر. ومن يقرأ هذه المذكرات يعرف أية خسارة كانت ستلحق بنا لو لم يكتبها حامد عمار. فقد اشتملت علي صفحات مهمة عن الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية في جنوب الصعيد. في الربع الثاني من القرن العشرين. وفي ظني أن ما كتبه تضمن إضافات إلي ما سطره في رسالته للدكتوراة في جامعة لندن عام 1952 بعنوان: "التنشئة الاجتماعية في قرية سلوا". وهي القرية التي ولد ونشأ فيها. في محافظة أسوان. حيث كان مولده في 1921. وقد تتبعت ابنته نوال تطورات سلوا بعد عشرين عاما من كتابة رسالة والدها. ونالت الدكتوراة عن هذا الموضوع. ولا أذكر أن مصريا آخر أعطي قريته الاهتمام الذي أعطاه الدكتور حامد عمار وابنته للقرية. التي غالبا لم تولد فيها. بينما ولد هو ونشأ في سلوا. ثم تنقل في عدة مدارس في جنوب الصعيد إلي أن نال الشهادة التي تعادل اليوم الثانوية العامة.
شخصيات لها العلم
قبل المضي في الحديث عن الدكتور عمار وإنجازاته وأياديه العلمية والوطنية. أقف قليلا لأقارن بين الثلاثة الكبار.. رءوف عباس ورشدي سعيد وحامد عمار. صحيح أن كلا منهم كان علما في مجال تخصصه. ولكن من غير الدقيق أن نقف عند وصف الأول بأنه مؤرخ فقط. والثاني بأنه جيولوجي فقط. والثالث بأنه تربوي فقط. فهذا هو التخصص الدقيق لكل منهم. ولكن كل واحد من هؤلاء كان بحق موسوعيا ومتبحرا في العلوم الأخري. ليس العلو الاجتماعية فقط كالاقتصاد والاجتماع والجغرافيا والفلسفة بل وفي العلوم البحتة. فهل كان هؤلاء الأساتذة آخر الموسوعيين في حياتنا؟. أتمني ألا يكون الأمر كذلك.. وفي مجال التخصص الدقيق كان لكل مدرسته العلمية الخاصة. فرءوف عباس هو مؤسس ورائد مدرسة التاريخ الاجتماعي من أول كتبه وهو دراسته للماجستير عن "الحركة العمالية في مصر" إلي آخر كتبه. وكان رشدي سعيد هو الرائد والمعلم في دراساته عن نهر النيل وجيولوجية مصر بصفة عامة. أما حامد عمار فهو رائد المدرسة التربوية التي تري أن التعليم عملية سياسية واجتهاداته في هذا الشأن ليست قاصرة علي مصر. بل تشمل الوطن العربي كله. وفي أعماله مزج ودمج بين التربية والثقافة. ودفاع حار عن مجانية التعليم علي الرغم من معرفته العميقة بأخطار مدارس وجامعات الأعداد الكبيرة. التي كان يري بحق أن من بينها ستظهر الفئات "المشاطرة" والفذة والعبقرية. أما احتكار القلة للتعليم فلن يؤدي إلا إلي ضيق الشريحة التي يمكن أن يظهر من بينها العلماء. وأظن أن هذا الموقف العلمي الوطني كان يجمع بين الكبار الثلاثة. وإن كان حامد عمار بحكم المهنة والتخصص هو الأعلي صوتا. والأكبر تأثيرا. وليتنا لا نفتقد من تلاميذه من يواصل هذه الرسالة. ويحمل شعلتها بقوة. قبل أن تتدهور أوضاعنا التعليمية أكثر وأكثر.. ومن جوامع الصفات بين هؤلاء الثلاثة أنهم صعايدة أقماح أو من أصول صعيدية امتدت من أسوان إلي سوهاج وأسيوط. ولعل هذا يذكرنا برائدين صعيدين كبيرين آخرين وهما رفاعة الطهطاوي "سوهاج" وطه حسين "المنيا". والسؤال كيف تأتَّي للصعيد "المتخلف" أن ينجب هؤلاء؟ وبعدئذ. لماذا بقي الصعيد علي ما هو عليه؟.. وأسئلة أخري عديدة تتفرع عن هذا وتترتب عليه. ومن أتيح له أن يقترب من هؤلاء الثلاثة الكبار لابد أنه لاحظ صفة جامعة بينهم وهي البساطة والتواضع إلي أبعد الحدود. مع اعتداد بالنفس هو الابن الشرعي لكبرياء العلماء الذين يعرفون أن علمهم يغنيهم عن كل شيء آخر في هذا الحياة. خاصة الجري وراء الثروة والمال. ولذلك لم يتردد حامد عمار ورءوف عباس في الحديث الصريح إلي أبعد حدود الصراحة عن أصولهم الاجتماعية وعن معاناتهم مع الفقر في الصغر. ويجمع بين الثلاثة أنهم في مذكراتهم تناولوا الحياة الجامعية من جوانب مختلفة. ومع ذلك اتفقوا اتفاقا كاملا في الحديث عن تردي الأوضاع الجامعية اليوم. وركز علي هذا بشكل خاص الدكتور حامد عمار صاحب الكتاب المهم عن "التعليم الجامعي الخاص في الميزان".
خطاه بين الفقر والمصادفة
وعودة إلي بدء. إلي المذكرات: "خطي اجتزناها: بين الفقر والمصادفة إلي حرم الجامعة". وفيها يصف حامد عمار أوضاع قريته "سلوا بحري" التي كان يسكنها عند مولده ألفا نسمة. أصبحوا عند صدور المذكرات 25 ألف نسمة في 1985. وهو يتحدث ويشكو من عزلتها حيث لم يكن يصلها بالقري القريبة إلا ركائب الحمير. ومع أربع حواضر في المديرية والقاهرة سوي قطار السكة الحديد المعروف ب "القشاش" ومع أن الدكتور حامد عمار يذكر أن والديه كانا يملكان ثلاثة أفدنة وأربعة قراريط وستة أسهم. إلا أنه وصف فقرهم بأنه "فقر دكر" وفي قراءة لتطور ملكية الأراضي الزراعية في مصر. فإن من يملك مثل هذه المساحة في الربع الأول من القرن العشرين يخرج من دائرة "الفقر الدكر". فماذا عن الذين كانوا عندئذ ولايزالون إلي اليوم دون ملكية أو يملكون قراريط معدودة؟
علي أي. بدأ الصبي حامد التعليم في كتاب القرية. ثم التحق بالمدرسة الإلزامية. فالابتدائية. والثانوية. وكان انتقاله من مرحلة إلي أخري. ومن مدينة إلي أخري نتيجة "مصادفات" ساعدته علي استمرار تعليمه ولذلك ذكر هذه المصادفات في عنوان مذكراته.. ثم قاده ذكاؤه وتفوقه إلي الجامعة. جامعة القاهرة. وكلية الاداب بها. ثم الدراسة في معهد التربية مما أهله للعمل مدرسا في قنا. ومنها عاد إلي القاهرة. حيث رُشح لدراسة الدكتوراة في التاريخ وفي التربية. وقد وقع اختياره علي التربية. ويحكي عن أجواء لندن والحياة والدراسة فيها. حيث حصل علي الماجستير في موضوع "بحث في عدم تكافؤ الفرص التعليمية في مصر". ثم كانت رسالته للدكتوراة عن قريته سلوا. كما سلفت الإشارة. إنما حياته العلمية والعملية بعد عودته من البعثة فتحتاج إلي مناسبة أخري. وهي جديرة بأن تتعدد الكتابات عنها. وعن أعماله العلمية التي ركز فيها علي دور العلم "في بناء الإنسان العربي". وهذا عنوان واحدا من أهم كتبه. وللعنوان بقية حذفها الناشر. وهي "دراسات في التوظيف القومي للفكر الاجتماعي والتربوي" وسبقه كتاب آخر عنوانه هو "في بناء البشر: دراسات في الفكر التربوي والتغير الحضاري" وقد صدر في 1964. ومن الجدير بالذكر أن هذا الكتاب تضمن الدراسة المهمة والفريدة عن "الشخصية الفهلوية" في حقبة الستينيات وقد تحول هذا إلي "شخصية الهباش" في السبعينيات والثمانينيات وشعاره "خد الفلوس واجري". وانتهي تطور هذا النمط كما جاء في "خطي اجتزناها" - منذ التسعينيات إلي تغوله لتسود شخصية "البلطجي" الذي يستخدم ماله وعنفه وسلاحه لتحقيق مطامحه الخاصة متجاوزا كل قانون. وعندما قرأت هذه الكلمات أعدت الإلحاح عليه. الذي بدأته منذ منتصف التسعينيات. ليعيد كتابة الشخصية الفهلوية ويتناول هذه الأبعاد الجديدة وكان يقول إن هذا يحتاج إلي جهد لم يعد في قدرته. مع أنه ظل يكتب ويكتب عن العلم والحق في التعليم.
ولم يتبق لي في هذه العجالة إلا أن أستعيد ما أورده في مذكراته عما نشرناه عنه في صحيفة "الأهالي" في 2 يناير 1996 حين استعرضنا شخصيات العام الجديد. ومنحنا كلا منها وصفا. وقلنا عنه تحت رمز "كاد المعلم أن يكون رسولا". قلنا: "يا أستاذنا سنقوم لك تحية وإجلالا فأنت المقصود بقول الشاعر: قم للمعلم وفه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا. لك السلامة والعافية".
أما اليوم فلك الرحمة والمغفرة والدعاء والشكر من جميع تلاميذك بل من جميع المواطنيك وطبت حيا وميتا.