القاهرة 18 ديسمبر 2014 الساعة 12:17 م
نظرة واحدة تطوف بالتاريخ المعروف، تكفى للقطع بأن كل ما كان من إمبراطوريات، قيصريات، سلطنات، خلافات، بادت، أو تفككت، أو تحللت، وبقيت الدول الوطنية، نطاقات عاش فيها جماعات من الناس، وُلدوا على أرضها، والتقطوا أول أنفاسهم من هوائها، شربوا ماءها وطعموا خيرها، أو شحها، وتفاعلوا فى شبكة من علاقات الوجود شكلت أعز ذكرياتهم وانطباعات كياناتهم المادية كما الوجدانية.
لعل هذا هو أنصع أحكام التاريخ، وأجدرها بالاعتبار فيما هو كائن وما يمكن أن يكون. الوطن فطرة، أوقن أنها مطبوعة فى برامج تكيفنا الوراثى وما يستجد من طفرات على هذه البرامج داخل الأوطان، بل حتى خارجها بفعل مداومة الحنين ومكابدة الافتقاد، وكم من بيننا أناس عاشوا فى مهاجر من جِنان أرضية، وظلوا، برغم ذلك، يحنُّون إلى أوطانهم الأم رقيقة الحال.
تضحى الأمهات بحياتهن غرقاً ليخرج نسلهن إلى النور حيث سبق أن خرجن هن والأجداد
لقد عشت مُنعَّما وكان يمكننى أن أستمر فى مدينة حديقة، تُعتبَر أكثر ثانى مدن العالم خضرة، ومع ذلك كنت أتحرَّق شوقا إلى الجلوس فى الظل المصرى على حجر كالح، من ذكريات الطفولة، اتخذناه عتبةً لباب بيتنا فى شارعنا الترابى المتواضع. إنها حقائق بسيطة، بديهية وهائلة فى عمقها، وهذا ما يتغابى ويتناساه نفر من المتغطرسين وأرباب الكِبر، دعاة التسلط والهيمنة، باسم العولمة، أو أستاذية العالم، أو اصطناع الخلافة. فيُرهقون الدنيا والناس وأنفسهم وتابعيهم بحصائد خيلائهم، لتنتصر الفطرة فى النهاية، وإن بأثمان باهظة كان يمكن تحاشى خسرانها.
وإذا كانت علاقة الكائنات بالأوطان الأم فطرة، فالدولة الوطنية فى الصميم البشرى بالتالى فطرة، ولعلها الآن صارت ملاذا وضرورة بعد أن ضاقت الأرض بما رحُبت من بشر، والفطرة لا تتناقض أبدا مع الشرع، هذا ما يؤكده أسوياء العارفين بالشرائع، لكنه زيغ الغرور البشرى وجحود عقول الكِبر أو العبَث. حب الوطن فطرة، أقرأها جلية فى كتاب الله المنظور، فى خَلقِه ومخلوقاته، حقيقة لا يجحدها غير عميان الروح ومتعامى البصيرة.
ومن ذلك العمى والتعامى تتوالد شرور ضد سوية المنطق، ضد الحضارة وضد الطهارة وضد الإنسان، بل ضد الحياة كلها، وها هى جزيرة منسية فى طرف المحيط البعيد تُذكِّرنا بما يحاول تزويره فى وعى كثيرين، خاصة الشباب، مُنظِّرو تلاشى الدول الوطنية، تسويغا لتهديمها، أو ابتلاعها، أو ضمها إلى أحلاف أو أطماع خيلائية أو تسلطات سادية، منذورة كلها - بإذن خالق الفطرة - إلى انفضاح وزوال.
قوارب تهريب المهاجرين تأتى من غياهب المحيط لتتحطم على صخور الجزيرة أو تلوذ بمعازلها
مأساة جزيرة الكريسماس
لابد أن أصوات ارتطام الموج العالى بالحواف الصخرية للجزيرة هى التى أيقظت سكانها وزوّارها القليلين فى الصباح الباكر من منتصف ديسمير 2010، فتابعوا المشهد الأليم لتسعين إنساناً تعصف بقاربهم المتهالك المكتظ عاصفة بحرية كاسحة، تضربه بصخور الشاطئ فيتحطم، ثم تسحب حطامه وراكبيه إلى عرض البحر، فيغرق منهم 48 إنساناً، وينجو 42، ويُسجِّل المشهد المرير بآلة تصويره أحد من كانوا على ظهر الجزيرة، وينشره، فيثير عاصفة دولية عنوانها «تراجيديا جزيرة الكريسماس».
لكن الذى لا يعرفه كثيرون، هو أن هذه الجزيرة ليست شاهداً على هذه التراجيديا البشرية المتكررة وحدها، فثمة تراجيديا غير بشرية، متكررة أيضاً، تشهدها هذه الجزيرة سنوياً، فيما العنصر الحاكم فى الحالتين واحد، هو الحنين. أعمق وأشمل أنواع الحنين.
حتى يوم عيد الميلاد عام 1643، لم يكن لهذه الجزيرة اسم، وكل مغامرى فترة «الكشوفات الجغرافية» الذين مرت بها سفنهم لم يتوقفوا عندها، فقد كانت صغيرة على أطماع الاستكشاف فى هذه الفترة، برغم أن مساحتها تبلغ 135 كيلومتراً مربعاً، ثم إن سواحلها كانت من الوعورة بحيث يتردد فى الرسو على شطآنها هؤلاء النهمون العجولون، لكن فى يوم الكريسماس ذاك، راق للقبطان «وليم مينورز» من البحرية التجارية البريطانية، أن يقترب من هذه الجزيرة فيكتشف، دون أن تطأها قدماه، أنها مهجورة من البشر، فيُطلِق عليها اسم «جزيرة الكريسماس»، ويهديها للإمبراطورية التى لم تكن تغيب عنها الشمس، فتهمل شأنها حتى عام 1888 عندما اكتُشف فيها الفوسفات، ضَمَّتها الإمبراطورية البريطانية إلى كنفها الشاسع، ثم اختطفتها اليابان منها فى الحرب العالمية الثانية. وبعد الحرب عادت الجزيرة إلى الكومنولث البريطانى تحت وصاية سنغافورة، ثم نُقلت إلى الوصاية الأسترالية مقابل أن تدفع أستراليا لسنغافورة تعويضاً شاملا قدره 2.9 مليون جنيه إسترلينى!
حتى لا تدهسها السيارات أفردت سلطات الجزيرة طرقاً لملايين السرطانات العائدة إلى البحر
أكثر من مائة مليون مهاجر
جزيرة الكريسماس هذه لم يرَ فيها البريطانيون أى جدوى نظراً لعزلتها فى عرض المحيط الهندى، فاستباحوا حرمها البحرى بتجربة سلاحهم النووى فى أعماقه فى 15 مايو 1957، لكن الأستراليون بعد ضمِّها إليهم اكتشفوا أنها قمة جبل غاطس فى عرض المحيط، وتتوسط هضبتها المرتفعة غابة استوائية مطيرة تعجّ بتنوع نباتى وحيوانى شديد الندرة، أشهر ما فيه نوع من القشريات الأرضية تسمى «السلطعونات الحمراء» أو «السرطانات الحمراء RED CRAP»، تكاد لا توجد إلَّا فى هذه الجزيرة، وبعدد يُقدَّر بمائة وعشرين مليون فَرد، تعيش فى جحور بأرض الغابة وشقوق الصخور. وفى شهر أكتوبر، أو نوفمبر، بعد انتهاء موسم الجفاف بالجزيرة وابتداء الموسم الرطب، تخرج فى موجات جماعية زاحفة نحو الشواطئ، بالملايين، فى ظاهرة أسطورية يحرك قلبها حنين فطرى للجذور يؤدى بالكثير منها إلى الغرق.
برغم أن الإنجليزية هى اللغة الرسمية لهذه الجزيرة، إلا أن سكانها الذين لا يتجاوزون ألفى نسمة يرطنون بلغات قلوبهم الأصلية، فتسمع فيها اللغة الصينية، والمالاوية، والإندونيسية، والعربية أخيراً، فمعظم سكان الجزيرة من المهاجرين، هجرة شرعية وغير شرعية، فراراً من أوطان جافت حنين قلوبهم بشدائد لا يحتملها البشر. ومنهم هؤلاء الذين هلكوا والذين نجوا فى تراجيديا منتصف ديسمبر عام 2010، وقد كان معظمهم عراقيين فارين من جحيم الاحتراب الداخلى فى بلادهم التى لم يتبق لهم منها غير اللسان العربى، وحنين الجذور.
ذلك الحنين للجذور هو نفسه الدافع وراء تلك الظاهرة الأسطورية التى يشكلها الخروج الجماعى لملايين السلطعونات الحمراء من الغابة إلى البحر، فبرغم أن هذه السلطعونات تعيش على البر فى كنف الغابة معظم أعمارها، إلا أن أصولها تعود إلى البحر، حيث عاش أسلافها الأوائل، وحيث نشأت هى خارجة من بيض أمهاتها فى مياهه قبل أن تنتقل إلى اليابسة.
على اليابسة تعيش فى جحور وشقوق ظليلة ورطبة تحمى خياشيمها من الجفاف الذى يمكن أن يقتلها، تقتات بأوراق الشجر المتساقط والزهور الذابلة والثمار التالفة فتُنجِز عملية إعادة تدوير لنفايات الغابة RECYCLIG تدهش علماء البيئة. وفى يوم مُعيَّن من بداية موسم الجفاف، يحدث اتفاق غامض بين ملايين هذه السلطعونات الحمراء التى تعيش حياة انعزالية منفردة، فتخرج معاً فى هجرة جماعية مذهلة نحو البحر. زحفٌ أحمر برتقالى يتحرك مجتاحاً طرقات الجزيرة التى صارت عصرية، ويعبر قلب عاصمتها التى تحولت إلى منتجع سياحى. عشرات الملايين لا يوقفهم دهس السيارات ولا أقدام البشر. لا تزحزحهم عن مسارهم الموحَّد أمطار عارمة تُهمى من السماء. ولا تثنيهم نهايات منذورة للموت غرقاً فى مياه المحيط!
السلطعون الأحمر مهاجر يحن إلى وطن النشأة ويُلبِّى نداء العودة الغامض بلا تردد
إلى الميلاد فى وطن الأجداد
هجرة تسبق فيها جحافل ملايين الذكور جحافل ملايين الإناث بنحو أسبوع، وعلى الشاطئ قرب الماء تحفر الذكور خنادق عميقة فى الرمل وتنتظر، ومع قدوم الإناث واحتدام التنافس ثم الوفاق، يدعو الذكور إناثهم إلى بيوت الزوجية التى احتفروها، وتتم ملايين اللقاءات فى فترة معلومة قرب نهاية الشهر القمرى وقبل بداية الشهر الجديد بعشرة أيام تقريباً، وبعد اللقاء ينسحب الأزواج إلى الغابة فيما تظل الإناث فى خنادق الزوجية تنتظر، تنضج داخل كل منها نحو مائة ألف بيضة مخصَّبة، وما إن يبزغ الهلال حتى تخرج بالملايين متجهة إلى مياه المحيط لتضع بلايين بيضها فى وطن الأجداد.
يضمن ظهور الهلال تحوُّل المد إلى اعتدال نسبى يقى البيض من الانجراف إلى البر والتلف على رماله وصخوره، لكنه لا يضمن نجاة أكثر الأمهات من الغرق وهن يضعن حملهن طوال أيام يصارعن فيها الموج الذى فقدن التأقلم معه عبر ملايين السنين من حياة المهجر على البر. ولو حدث أن عاصفة بحرية واكبت ظهور الهلال لتوجب على الأمهات الانتظار لشهر كامل حتى مجىء هلال جديد يضمن لهن تحوُّلاً آمناً للمد يحمى ذُرِّيتهن، ويكون عليهن أن يعشن هذا الشهر فى بيئة قاحلة لا تمنح أى زاد يدعم أعباء الحمل على البر ثم الخروج إلى البحر.
فى الماء المالح تصارع الأمهات المُنهَكات الغرق وهن يطلقن البيض، وما إن يُكتمَل الوضع حتى يستسلمن للغرق أو الموت على الشاطئ، وبموازاة ذلك تنفجر بلايين البيضات بمجرد ملامستها للماء المالح ونفاذه إلى داخلها. تخرج منها بلايين اليرقات التى تمكث فى خضم المحيط شهراً كاملاً لتتغذى من دقائق هوائمه وتتطور، تتحول إلى سلطعونات صغيرة وردية اللون شبه شفافة، ثم تخرج إلى الشاطئ بادئة رحلتها إلى الغابة.
مرفأ عابر للحنين
طوال شهر وجود اليرقات فى المحيط، يهلك الكثير منها عندما تلتهمها الأسماك المتكاثرة حولها، بل يحدث أن تجىء فى موسم ظهورها قطعان من القروش الحوتية تُجرِّفها بأفواهها الهائلة تجريفاً، ومع ذلك ينجو الكثير ليغدو سلطعونات صغيرة تخرج إلى البر، متجهة فى موجات مليونية جديدة إلى مَهاجِر الآباء. وعلى البر تصارع أغوالاً مختلفة من دهس العجلات والأقدام، وجيوش نمال تُدعى «النمل الأصفر المجنون» أحضره البريطانيون بلا وعى من برارى إفريقيا وهم يتقافزون فى خيلاء بين مستعمراتهم دون تبصُّر، نمل شرس وجنونى الشراهة يحصد السلطعونات الوليدة حصداً، لكن الناجين يواصلون زحفهم إلى قلب الغابة، حتى يبلغوا مأمنهم فى ملاذات الحُفَر وشقوق الصخور الظليلة الرطيبة، فتقى من الحرارة والجفاف خياشيمهم التى ورثوها عن أسلافهم البحريين، فلا يموتون على البر اختناقاً، ولا يموت فى أعماقهم ذلك الحنين إلى المحيط.
حنين يُغرِق أمهات السلطعونات الحمراء حين وضع البيض فى مياه النشأة الأولى، وحنين يختنق فى صدور الغرقى من مهاجرى القوارب بعيدا عن أوطانهم، وحنين للناجين من الغرق يظل يحيا على ظهر تلك الجزيرة وتبوح به أصوات اللغات التى ترطن بها ألسنة سكانها من المهاجرين، كأنهم بهذه الرطانة مازالوا يعيشون فى أوطانهم الأم التى صارت تعيش فيهم، والتى تظل أُمَّاً مهما بدا أنها جارت عليهم وجارَ الزمان، أو طاب المَهجَر والنوى.
زارع الظل
كامل دياب
فى أزمنة الالتباس يتطلب المدح الصادق شجاعة قد تفوق شجاعة القدح الجسور، لهذا أستجمع شجاعتى لأكتب عن الرئيس الفخرى لهذه المؤسسة الذى لم يسعدنى حظى بمعرفته - الدكتور كامل توفيق دياب - لا بموقعه ولا قرابته من جذور هذه الجريدة وأصولها، وهو أمرٌ مُقدَّر، بل بهذه الفطرة السوية لنفر من أفضل خلق الله فى قناعتى ويقينى، تقودهم سوية فطرتهم وشجاعتهم الإنسانية والروحية إلى استثمار طاقاتهم فى تخضير أرض الله لزراعة الظل الذى يراه الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى وأراه معه أفضل ما يفعله إنسان فى الدنيا.
لقد كُبِّل اقتصادنا بإلقاء استثمارات مندفعة فى مدن أشباح بلا حصر وغابات أسمنتيه قاحلة طال هجرانها وسيطول، وأعجب لمن يصفق للمزيد من الهدر فى مثلها جرياً على سابق وهم أن الاستثمار العقارى هو الرافعة الأهم للاقتصاد المصرى. بينما كانت ولا تزال البداهة والنباهة تقول بأن بلدا بهذا الثقل السكانى والفقر المُتسع والتاريخ الزراعى العميق والعريق كان جديراً بأن تكون الزراعة واستثماراتها على رأس أولويات التنمية فيه، وكان ذلك - ولا يزال - كفيلا بضبط كارثة تآكل الرقعة الزراعية والاجتهاد فى زيادة زمامها وتطوير أبحاث ريها وزرعها وحصادها وعوائدها على الاقتصاد الوطنى وتيسير طعام عشرات ملايين الفقراء؛ حتى لا ينفجروا جوعاً، ومن ثم إيلاء نظرة اهتمام جدى ومجتهد لمعضلتينا الأهم ذاتى الارتباط: المياه والطاقة.
نحن فى أمَسِّ الحاجة لمليون فدان زراعة جدد أكثر من حاجتنا لمليون شقة جديدة تضاف إلى ركام رأس المال الميت والمُمات والمُميت فى المعمار المهجور والمقبور. وطوبى لأسوياء النفوس والأرواح والشجاعة والكرم الإنسانيين ممن اجترحوا ويجترحون مهمة زراعة الظل برغم هيجاء الهجير فى بلادنا. هم فى أعلى عليين دينا ودنيا، ووطنية، فى بلد لا قيام حقيقياً له ولا استقرار ولا استقلال وطنيا إلا بأن يُطعِم نفسه - ولو بحد الكفاف - مما يزرع. رحم الله زارع الظل، النبيل كامل توفيق دياب.
الأكثر إسعاداً
اسعاد يونس
كلما شاهدت حلقة من برنامج «صاحبة السعادة» شعرت بحب جارف وحنين إلى مصر الحقيقية واعتزاز حقيقى بمصريتنا، التى يُثبِت البرنامج أنها لا تزال موجودة فى أعماق ملح الأرض من الناس الطيبين، البسيطين والأصيلين، والتى تستخرجها من سراديب النسيان وهوجة الفوضى، بدأب ولطف بالغين، الفنانة الكبيرة الذكية الجدعة غنية وسَلِسة الثقافة «إسعاد يونس»، بالتعاون مع أفراد فريقها من الشباب بديع الاجتهاد بالطبع. إنها لا تقدم مجرد برنامج تليفزيونى، بل وثائق سينمائية جمالية آسرة ومرهفة الإنسانية لروح مصر السوية البهية.
وفى إطار ما نحن فيه، أجدنى مع كل حلقة من هذا البرنامج أتساءل سؤالا ارتجاعيا واستنكاريا بجد: كيف كان أولئك المُعتِمون محدودو الأفق عوام الأذواق، ووراءهم تابعوهم من كتائب دهماء الهمجية والغلظة والعنف، أن يحكموا بلدا مثل مصر بها كل هذا العمق الحسيس، والخصوصية حلوة الروح، والعراقة الإنسانية، فى اللقمة والهدمة والصنعة والكلمة وحتى فى الدمعة والابتسامة؟ شكراً يا فريق صاحبة السعادة.
أنتم تعطوننا أملاً فى إعلام لا يسيطر عليه صُنَّاع السوقية والتفاهة والافتعال والابتذال، والخفة التى لم تعُد تُحتمل فى ثقل ما نحن فيه. إعلام الردح والشتم والابتزاز والتحريض السفيه وتكثير الخصوم بالمجان واصطناع الإثارة بمداعبة الغرائز ومديح السحر وتسويق الشعوذة واستحضار الجن واشتباكات الشمحطية على الهواء وتفاهة الترفيه المبُتذل ومجانية إعطاء الذرائع للمتربصين باسم الدين فى لغوصات لا معنى لها ولا ضرورة فى أمور دينية شديدة الدقة والخطر يثيرها غواة شهرة خفاف الثقافة الدينية والدنيوية يمثلون الوجه الآخر لإظلام المتعصبين.
كلهم منعدمو الشعور بالمسؤولية إلا عن ذواتهم محدودة وضيقة الأفق وعوائدهم الرخيصة من مجارير ما يُلقونه على شعبنا مما يُسمُّونه برامج فضائية وهى إلى الفضا الفارغ أقرب. سيتساقطون وينقشعون، ولابد أن يتساقطوا وينقشعوا، ليبقى الأطيب والأجمل والأرحب والأنفع والأعمق، والأكثر إسعاداً.
جائزة غنيم
محمد غنيم
صباح الشرف الوطنى والإنسانى والعلمى والقدرة الجميلة على الغنى الإنسانى بالاستغناء عما لا ضرورة له، كل هذا يكاد يهتف به كيانى عندما أدخل مكاناً فأفاجأ على غير انتظار بالدكتور محمد غنيم أمامى بقوامه الرشيق وحضوره اللطيف المرهف، لقد حادثته بالأمس فى المنصورة لأهنئه بالفوز بجائزة الشيخ حمدان بن راشد للعلوم الطبية، وعرفت أنه سيسافر الأحد إلى الإمارات لتسلم الجائزة، ولابد أنه حضر إلى القاهرة لينطلق منها إلى دبى فى الغد، فأفوز بلقائه.
أعرف أن هذا المصرى العظيم يقول متواضعاً صادقاً لصديق مشترك إننى أعطيه أكثر من حقه عندما أكتب عنه، وأقول صادقا معتذرا فى أعماقى: بل إننى لا أستطيع إيفاء هذا الرجل الاستثنائى حقه، لأننى أعرفه معرفة تأمل مديد منذ كنت طالباً فى طب المنصورة الغالية وهو أستاذ شاب يصنع معجزته العلمية والإنسانية بتفان شديد وصرامة مرهفة الحدة والعدل، وإنكار للذات والاستغناء عن المنظرة والشهرة والثروة، والتخلُّص العجيب من أى ذرة ادعاء، لهذا بدا ولعله لا يزال يبدو لكثيرين صادماً، فقد ألِفوا التفاعل مع الادعاءات والمدعين فى مجتمع مثقل بتاريخ قهر وتعويض مرضى طويلين.
هذا رجل حر حقاً، وطبيعى إلى درجة مربكة لمن يعانون عاهة فى حريتهم. هو مفرح ومبدع وشديد الحنو على ضعاف البشر وحاد وغير هياب مع متغطرسيهم. تاريخ للشرف الإنسانى تم امتحانه على مدى عشرات السنين ولم يهبط تقييمه عن درجة الامتياز. أُهلِّل أكثر من المعتاد للقائه غير المتوقع، ونتحادث قليلاً ونتواعد على لقاء فى المنصورة بعدما يعود بالسلامة.
نتوادع ويمضى كل منا فى سبيله، لكنه يظل معى، فقد خرجت لأراجع فى مكان مفتوح وهادئ مقال هذه الصفحة عن الوطن كفطرة، لتهدينى صدفة اللقاء به النموذج التطبيقى المبهر لسوية هذه الفطرة. فأكتب هذه الكلمات كرُحيْبَة، لرجل يستحق رحبات ورحبات.