القاهرة 17 ديسمبر 2014 الساعة 03:43 م
غمر العرق جسدي كله. كنا قد تركنا الباب الخلفي لمطبخ العمة افيوما مفتوحاً على آخره بالرغم من الحشرات التي تطنُّ من حولنا وتطير في دوائر فوق قدر الحساء. قالت أماكا ان علينا أن نختار بين الحشرات وبين الجو الحار. ارتدى أوبيورا قميصاً كاكي اللون وبنطلوناً قصيراً ولا شيء آخر. انحنى فوق موقد الكيروسين محاولاً ضبط شعلة النار وتقليل الدخان المتصاعد. كانت عيناه قد تلطختا ببقع سوداء. قال:
- علينا أن نستعمل موقد البوتاجاز لكل شيء الآن، فلا فائدة من توفير الغاز الآن طالما أننا لن نحتاجه طويلاً.
بدأ العرق يحدد موضع ضلوع ظهره. التقط جريدة قديمة وحرك بها الهواء نحوه لفترة ثم وجه عدة ضربات للحشرات.
- لا تضربها في اتجاه القدر
كانت أماكا تصب زيت النخيل في القدر. قال أوبيورا وهو يتابع توجيه الضربات للحشرات:
- علينا أن نستعمل أيضاً زيت الخضروات في هذه الأسابيع القادمة
- تتحدث مثل ماما وكأنها حصلتْ بالفعل على التأشيرة
قالت أماكا في حِدَّة وهي تضع القدر على موقد الكيروسين الذي أحاطتْ شعلته بالقدر بلون لهب برتقالي يبعث دخاناً، في انتظار محاولات أوبيورا للتوصل إلى شعلة ذات لهب أزرق نظيف بغير دخان.
- ستحصل على التأشيرة.. لنكن إيجابيين
- ألم تسمع كيف يعامل موظفو السفارة الأمريكية النيجيريين؟.. إنهم يهينونك ويتهمونك بالكذب، وفوق كل هذا يرفضون منحك تأشيرة
- ستحصل ماما على التأشيرة. الجامعة تكفلها
- الجامعات تكفل الكثيرين الذين لم يحصلوا على تأشيرة
هاجمني السعال بسبب دخان الموقد الذي امتزج بحرارة الجو وبالذباب، وشعرتُ بدوار. قالت أماكا:
- كامبيلي.. اذهبي إلى الشرفة حتى يذهب الدخان
- لا.. لا شيء
- اذهبي
خرجتُ إلى الشرفة ولم تهدأ نوبة السعال. لكن لم يكن هناك استياء في عيني أماكا، ولا حدة في صوتها، ولم تقلب شفتيها. شعرتُ بامتنان لها عندما نادتْ عليّ بعد قليل من الوقت وطلبتْ مساعدتي لها في تقطيع خضروات الحساء. تناولنا الطعام في الشرفة برغم أن الجو الحار بها لا يقل كثيراً عن جو المطبخ. كانت قضبان الشرفة لا تختلف كثيراً عن يد قدر يغلي ما بداخله. قالت أماكا ونحن نجلس على حصير حول الطعام:
- اعتاد الأب نوكوو القول أن شمساً غاضبة في فصل ممطر يعني أن أمطاراً غزيرة قادمة، وأن الشمس تحذرنا من المطر
تناولنا طعامنا بسرعة بسبب حرارة الجو. كانت العمة افيوما قد ذهبتْ بصحبة جاجا إلى مركز الشرطة لكي تحصل على بيان يثبت أنها لم يسبق لها أن اتهمت بارتكاب جريمة لتقدمه في المقابلة بالسفارة الأمريكية. قالت أماكا:
- أعتقد أننا لن نحتاج إلى حماية أبوابنا بالقضبان الحديدية في أمريكا
- ماذا؟
عندما قام بعض الطلبة باقتحام مكتب ماما بالجامعة وكسره وسرقة أسئلة الامتحان، أبلغت المسئولين باحتياجها إلى قضبان حديدية لباب مكتبها ونافذة، لكنهم قالوا ان ليس لديهم نقوداً مخصصة لذلك.. أتدرين ماذا فعلت؟
استدارتْ أماكا ونظرت إليّ. وابتسامة صغيرة على جانب شفتيها. هززتُ رأسي متساءلة:
- ذهبتْ إلى موقع بناء وهناك زودوها بقضبان حديدية بالمجان، ثم طلبتْ مساعدتنا أوبيورا وأنا في تأمين مكتبها. قمنا بثقب فتحات في الحائط الملاصق للباب والنافذة، وأدخلنا القضبان فيها وثبتناها في الحوائط بالاسمنت
- هكذا؟
- ثم بعد ذلك وضعتْ لافتة على باب مكتبها كتبت عليها "أسئلة الامتحان في خزانة البنك"
ابتسمتْ أماكا وقالت:
- لن أكون سعيدة في أمريكا.. فمثل هذه الأشياء غير موجودة هناك
- ستشربين حليباً.. حقيقياً.. صافياً من زجاجة بدلاً من مسحوق اللبن المجفف أو حليب الصويا
ضحكتْ أماكا ضحكة من قلبها، وقالت:
- كم أنت خفيفة الظل، كامبيلي
لم يسبق أن سمعتُ مثل هذا من قبل. ردَّدتُ عبارتها أكثر من مرة بيني وبين نفسي حتى يمكنني استرجاعها فيما بعد مرات أخرى. لقد أمكنني أن أجعلها تضحك.
هطلتْ أمطار غزيرة وانسكبت بكثافة إلى درجة أصبح من المستحيل رؤية المباني المجاورة. امتزجتْ السماء والأرض والمطر في شكل صفائح رقيقة فضية اللون تهبط على نحو مستمر ومتصل. قمنا بوضع دلاء بالشرفة لجمع ماء المطر، وسرعان ما امتلأوا على آخرها. هرع الأطفال راكضين إلى الفناء بقمصانهم وبنطلوناتهم القصيرة يرقصون ويتقافزون تحت المطر.. هذا النوع النظيف من المطر الذي لا يهطل مصحوباً بالغبار ولا يترك بقعاً بنية على الملابس. ثم توقف المطر فجأة بنفس السرعة التي بدأ بها هطوله، وطلعت الشمس مرة ثانية.
من الشرفة رأيتُ سيارة الأب أمادي تستدير في اتجاه المجمع السكني. رآها أوبيورا أيضاً وسأل ضاحكاً:
- يزورنا الأب أمادي كثيراً عندما تكون كامبيلي هنا
لم يتوقفا، أماكا وأوبيورا، عن الضحك أثناء صعود الأب أمادي الدرج بقفزات سريعة.
- أعلم أن أماكا مارست هوايتها وتناولتني بعباراتها الساخرة
لاحظتُ كيف تشبث به تشيما، وكيف التمعتْ عيون أماكا وأوبيورا وهما ينظران إليه. سألته أماكا عن عمله التبشيري في ألمانيا، لكنني لم أسمع كثيراً مما
قال. غمرتني انفعالات تسببت في إحداث تقلصات بمعدتي.
- هل رأيت كامبيلي تزعجني مثلك هكذا؟
وجه الأب أمادي سؤاله لأماكا بينما كان ينظر نحوي. أعرف أنه قال ذلك ليلفت نظري.
قالت أماكا:
- التبشيريون البيض أحضروا لنا هنا إلههم الأبيض ليعظنا بلغتهم.. الآن نحن نعيد إلههم إليهم
بابتسامة متكلفة قال:
- نحن نذهب في معظم الأحيان إلى أوروبا وأمريكا حيث يقل عدد القساوسة
ضاحكة قالت أماكا:
- يا أبي.. أصدقني القول!
- فقط إذا حاولتِ أن تكوني مثل كامبيلي ولا تضايقيني كثيراً
دق جرس الهاتف. رسمتْ أماكا تعبيراً على وجهها قبل أن تتجه إلى داخل الشقة. جلس الأب أمادي بجانبي.
- يبدو عليكِ القلق
قبل أن أفكر فيما سأقول، بسط يده وضرب ساقي، ثم فتح راحة يده ليريني بقايا بعوضة ودماء. قال وهو يرمقني:
- تبدو سعيدة وهي تتغذى عليكِ
- شكراً لك
مد يده ليمسح بقعة في ساقي. شعرتُ بدفء وحيوية أصبعه. لم أدرك أن أبناء عمتي غادروا. الآن والشرفة ساكنة أمكنني سماع قطرات المطر وهي تنزلق فوق أوراق النبات. قال:
- أخبريني.. ما الذي تفكرين فيه؟
- لا شيء يهم
- ما تفكرين فيه يهمني دائماً، كامبيلي
وقفتُ وسرت خطوات إلى الحديقة. قطفتُ زهور الألامندا الصفراء التي لاتزال رطبة واحتفظت بها في راحة يدي.
- كنتُ أفكر في بابا.. لا أدري ما سيحدث عند عودتنا
- هل اتصل هاتفياً؟
- نعم.. جاجا رفض الذهاب ليجيب على الهاتف، ولم أذهب أنا كذلك
- هل أردتِ ذلك؟
سأل برقة. لم أكن أتوقع منه أن يسأل.
- نعم
همستُ حتى لا يسمع جاجا بالرغم من عدم تواجده بالقرب منا. لم أرد أن أتكلم مع بابا، أو أن أسمع صوته، أو أن أخبره ماذا أكلتُ وماذا صليتُ حتي يبدي استحسانه ويبتسم ابتسامة عريضة تغضِّن زاويتي عينيه. لذلك أردتُ ألا أتكلم معه.. وأردتُ أن أرحل مع الأب أمادي أو مع العمة افيوما ولا أعود أبداً. قلت:
- موعد رحيل العمة افيوما ربما يحل بعد بدء المدرسة بأسبوعين.. لا أدري ماذا سنفعل.. جاجا لا يتحدث عن الغد أو الأسبوع المقبل
تقدم الأب أمادي خطوة في اتجاهي ووقف قريباً جداً مني حتى كاد جسدانا يتلامسان. أخذ يدي في يده وبعناية حرك زهرة من أصبعي إلى أصبعه.
- عمتك تفكر في ضرورة التحاقكما جاجا وأنت بمدرسة داخلية.. أنا ذاهب إلى انوجو الأسبوع المقبل لأتحدث مع الأب بينيديكت.. أعلم أن والدك يستمع له.. سأطلب منه أن يقنعه بالمدرسة الداخلية حتى يمكنكما جاجا وأنت بدء النصف الثاني من العام هناك.. سيكون هذا مرضياً؟
أومأتُ برأسي ونظرتُ بعيداً. صدقتُ قوله بأن كل شيء سيكون على ما يرام لأنه قال ذلك. فكرتُ في دروس التعلم بطريقة السؤال والجواب، وفي الإجابة "لأنه قال ذلك، ولأن كلماته صادقة".. لم أستطع تذكر السؤال.
- أنظري إليّ كامبيلي
كنت أخشى النظر إلى اللون البني الدافئ في عينيه.. خشيتُ إحساس الخدر الذي قد يدفعني لأن ألقي بذراعي حوله وأشبك أصابع يدي معاً خلف عنقه ولا أدعه يذهب. استدرتْ.
- أهذه الزهرة التي يمكنك امتصاص رحيقها؟.. الزهرة ذات الرحيق الحلو؟
كان قد حرك زهرة الألامندا بعيداً عن أصبعه وراح يدقق في بتلتها الصفراء. ابتسمتْ.
- لا.. إنها زهرة الاكسورا التي يُمتص رحيقها الحلو
ألقى بالزهرة بعيداً وصعّر خده مستاءً.. ضحكتُ وأنا أتخيله يمتص الرحيق المر لزهرة الألامندا. ضحكتُ لأن في عيني الأب أمادي البنية أمكنني رؤية صورتي منعكسة فيهما.
***
في تلك الليلة، استحممتُ بنصف دلو من ماء المطر. لم أفرك يدي اليسرى التي أمسك بها الأب أمادي برقة وحرك الزهرة بعيداً عن أصبعي. أيضاً لم أقم بتسخين ماء المطر لأنني خشيت أن يزيل التسخين رائحة السماء من ماء المطر. وجدتُ نفسي. وجدتني أغني وأنا أستحم. كانت هناك دودة في حوض الاستحمام.. تجنبتها وراقبتُ الماء يحملها ويهبط بها إلى فتحة الصرف.
(2)
بعد توقف هطول المطر، هبتْ نسمات باردة أجبرتني على ارتداء سترة، وارتدتْ العمة افيوما قميصاً طويل الكم. كنا جميعاً نجلس في الشرفة نتحدث عندما اقتربتْ سيارة الأب أمادي أمام الشقة، قال أوبيورا:
- قلتَ لناإنك مشغول جداً اليوم يا أبي
- قلت ذلك لأبين نفاد صبري من الكنيسة
بدا الأب أمادي متعباً. ناول أماكا قطعة من الورق وأخبرها بأنه كتب فيها بعض الأسماء المناسبة التي تبعث على الضجر، وعليها فقط أن تختار واحداً.
لم تأخذ أماكا الورقة، وضحكت:
- أخبرتك أنني لن آخذ اسماً إنجليزياً يا أبي
- هل لي أن أسألك لماذا؟
- ولماذا أضطر إلى ذلك؟
- لأن السائد هكذا. دعينا الآن ننسى إذا كان ذلك خطأ أم صواب
لاحظتُ ظلالاً تحت عينيه.
- عندما قدم التبشيريون لأول مرة، أصرُّوا على أن يتم التعميد بأسماء إنجليزية وليست بالاجبو.. ألا يجب أن نتقدم خطوة إلى الأمام؟
بهدوء قال الأب أمادي:
- ليس من الضروري أن يستخدم أحد اسم تعميده.. انظري إليّ.. أنا دائماً استخدم اسمي بالاجبو، رغم أنني عُمِّدتُ باسم مايكل
رفعتْ العمة افيوما بصرها عن الأوراق التي تقوم بملئها:
- أماكا.. اختاري أي اسم ودعي الأب أمادي يذهب لعمله
- ما تقوله الكنيسة هو أن أي اسم إنجليزي يجعل التعميد سليماً.. إن اسم تشياماكا بالاجبو يعني "الرب جميل"، وكذلك اسم "تشيما" يعني "الرب يعرف أفضل"، وأيضاً اسم "تشيبوكا" يعني "الرب هو الأعظم".. أليست هذه الأسماء بالاجبو تعظّم الرب وتجله، مثلها مثل الأسماء الإنجليزية بول وبيتر وسيمون؟
بدأ الضيق يتملك العمة افيوما.. أعرف ذلك بصوتها العالي وبنبرته الحادة.
- أماكا.. ليس عليك أن تبرهني لنا عدم معقولية هذا الشيء.. فقط تعمَّدي بأي اسم ولن يجبرك أحد على استخدامه بعد ذلك!
قالت أماكا لأمها إنها لا توافق على ذلك، ثم توجهت إلى حجرتها وأدارت مفتاح تشغيل المسجل بموسيقى عالية الصوت. قامت العمة افيوما بالطرق على باب حجرتها، وقالت لها بصوت مرتفع انها إذا لم تغلق صوت المسجل في الحال فسيكون الصفع نصيبها. خفَّضتْ أماكا صوت المسجل في الحال، وغادر الأب أمادي بابتسامة مرتبكة ترتسم على وجهه.
في ذلك المساء، تناولنا العشاء معاً في جو عائلي حميم، لكن دون ضحك كثير. في اليوم التالي، الموافق أحد الفصح، لم تنضم أماكا إلى بقية الشابات اللاتي ارتدين جميعاً ملابس بيضاء وحملوا شموعاً مشتعلة وأوراق جرائد مطوية لاصطياد الشمع المنصهر قبل أن يلوث ملابسهن، وعلى صدر كل منهن ثبتت ورقة عليها اسم التعميد: ماري، وفيرونيكا. شبان آخرون علقوا على صدورهم أسماء التعميد: بول، وجيمس. بعض الفتيات كن أشبه بالعرائس. تذكرتُ تعميدي وكيف أن بابا وصفني ساعتها بعروس المسيح، ودهشت لأنني كنت أعتقد أن الكنيسة هي عروس المسيح.
***
اعترتْ العمة افيوما رغبة في الحج إلى أوكبي. أخبرتنا أنها لم تدر سبب رغبتها الفجائية تلك، وإن أرجعت السبب إلى اعتقادها أن سفرها ربما يستغرق وقتاً طويلاً. أماكا وأنا أبدينا رغبتنا في الذهاب معها إلى أوكبي، لكن جاجا قال إنه لن يذهب ثم صمت لفترة كافية وكأنه يتحدى أي شخص يسأله لماذا. قال أوبيورا إنه سيظل بالمنزل أيضاً مع تشيما. لم تلق العمة افيوما أهمية لذلك. ابتسمتْ وقالت انه طالما ليس معهن رجل فستطلب من الأب أمادي أن يصحبهن إذا أراد. قالت أماكا:
- سأتحول إلى خفاش إذا وافق الأب أمادي
بعد أن أنهت العمة افيوما مكالمتها الهاتفية، قالت إنه سيأتي معنا. قالت أماكا:
- وافق لوجود كامبيلي معنا.. لم يكن سيقبل أبداً لولا كامبيلي
أقلتنا العمة افيوما بالسيارة إلى قرية متربة على بعد ساعتين. جلستُ في المقعد الخلفي مع الأب أمادي، تفصلني عنه مسافة في الوسط. اشترك الأب أمادي وأماكا في الغناء بينما كان الطريق غير الممهد يتسبب في تمايل السيارة من جانب إلى آخر، الأمر الذي جعلني أتخيل ذلك التمايل رقصاً. انضممتُ إلى الغناء أحياناُ وفي أحيان أخرى اكتفيت بالسماع، وأنا أتساءل عما سيكون عليه الأمر إذا ما اقتربتُ أكثر وقطعتُ تلك المسافة بيني وبينه وأرحتُ رأسي على كتفه.
عندما استدارت السيارة في اتجاه طريق قذر على يمينه لافتة كتب عليها "مرحباً في أوكبي"، أول ما رأيت هو مئات السيارات التي تحمل ملصقات كتبت حروفها على عجل وبغير إتقان: "حجاج كاثوليك". تحركت السيارة بصعوبة شديدة داخل القرية الصغيرة، التي قالت العمة افيوما عنها ان عدد سياراتها لم يكن يزيد عن عشر سيارات إلى أن حدث ورأت فتاة قروية صورة "المرأة الجميلة". التزاحم الشديد جعل البعض يألف رائحة البعض الآخر على اعتبار أنها رائحتهم. النساء يتعثرن في سيرهن ويسقطن على ركبهن والرجال يجأرون بالصلوات وسط حفيف حبات مسبحة الكاهن. الناس يصيحون ويشيرون بأيديهم "انظروا.. هناك أعلى الشجرة.. هذه سيدتنا!". آخرون يشيرون في اتجاه الشمس "هي هناك".
وقفنا تحت شجرة ضخمة من أشجار الغابة في أوج إزهارها.. بتلات زهورها بلون النار تغطي الأرض. عندما خرجت الفتاة الشابة، تمايلت أشجار الغابة المتوهجة وتساقطت زهورها المتوهجة كسقوط المطر. الفتاة نحيلة ووقورة ومرتدية البياض، ورجال أقوياء يقفون من حولها لكي لا تتصرف بقسوة أو باستعلاء. أشجار أخرى بدأت في الاهتزاز بقوة مخيفة وكأن شخصاً يهزها. الأشرطة التي تحدد وتحيط موقع الرؤية كانت تهتز أيضاً برغم عدم وجود ريح. تحولت الشمس إلى البياض. ثم رأيتها.. العذراء المباركة. صورة في الشمس الشاحبة. ابتسامة على وجه رجل في ردائه المزين بحبات مسبحة يضغط بذراعه على ذراعي. كانت في كل مكان.
أردتُ أن أمكث فترة أطول لكن العمة افيوما قالت انه يتعين علينا المغادرة، لأنه سيكون من الصعب جداً قيادة السيارة للعودة إذا انتظرنا حتى وقت مغادرة معظم الزائرين معاً. اشترتْ وشاحاً يتدلى من الكتفين ومسبحة وقارورات صغيرة تحتوي على ماء مقدس من بعض البائعين أثناء سيرنا إلى السيارة. بعد صعودنا وقبل أن يدور محرك السيارة، قالت أماكا:
- لا يهم إذا ظهرت سيدتنا أو لم تظهر.. ستظل أوكبي دائماً لها وضع خاص لأنها كانت سبباً في حضور كامبيلي وجاجا لأول مرة إلى نسوكا
- أيعني هذا انك تعتقدين في ظهور العذراءا المباركة؟
سأل الأب أمادي ممازحاً في شيء من سخرية.
- لا.. لم أقل ذلك.. ماذا عنك؟.. هل تعتقد في ذلك؟
لم يقل شيئاً وانشغل في إنزال زجاج نافذة السيارة لإخراج ذبابة طنانة. قلتُ من غير تفكير:
- أنا شعرتُ بوجود العذراء المباركة هناك
كيف يمكن لأي شخص ألا يعتقد في ذلك بعد الذي رأيناه؟.. التفتَ إليّ الأب أمادي ونظر مدققاً. رأيته من زاوية عيني. كانت هناك ابتسامة رقيقة على وجهه. ألقتْ العمة افيوما نظرة سريعة عليّ ثم أعادتْ وجهها إلى الطريق، وقالت:
- كامبيلي على صواب.. شيء من عند الرب كان يجري هناك
***