القاهرة 15 ديسمبر 2014 الساعة 03:01 م
_سر عشق صلاح حافظ للترسانة (شواكيش مصر
_بحث في دراما كرة القدم والتعصب الأعمي لها
_الفرق بين المسرح الدرامي..والمسرح الكروي
كتب على خضير
جذبت كرة القدم العديد من العشاق وكتاب مصر الكبار الذين كتبوا عنها بل وعن تاريخهم فيها وصداقاتهم الممتدة مع نجوم الملاعب ولا ينسي تاريخ الأدب المصري والعرب وحكايات صاحب نوبل نجيب محفوظ وصداقاته مع عبد الكريم صقر وقيمته بحسين حجازي وذوبانه عشقا في الزمالك وغير ذلك من أصحاب الهوي الكروي وأذكر الفيلسوف فكري أباظة أحد أقطاب الأهلي ومصطفي أمين عضو مجلس إدارة الأهلي وصاحب الدور الكبير في إحضار أخبار اليوم للفرق الأجنبية بالخمسينات والستينات من القرن العشرين..وما من كاتب أو صحفي أو أديب أو شاعر في مصر ألا وله (هوي كروي) خاصة الأهلي والزمالك وإن كان خرج قلة عن القاعدة واتجهوا بهواهم لأندية أخري رغم قصر الإمكانيات والبطولات إلا أنهم أعلنوا عن عشقهم وفي مقال نادر لمايسترو الصحافة المصرية وأحد فلتاتها صلاح حافظ علي صفحات آخر ساعة في نهاية الموسم الكروي 1966 كتب مقال نادر بعنوان ترساناوي ومتعصب جدا تفيد سطورة كما هي بكل ما فيها من رمزية لعل وعسي
يرفع أذواق الناس في عالمنا..مجانين الكرة
فهم قد تركوا غيرهم يجن بالفلوس أو بالطموح أو بالسلطان واختاروا لجنونهم أرفع ألوان الفن الدرامي علي الإطلاق..
فالكرة هي دراما هذا العصر
وفيها يتحقق المثل الأعلي للفن الدرامي كما تصوره وعجز عن تحقيقه عباقرة المسرح" العالميون"
فقد عاش المؤلفون آلاف السنين وهم يحاولون أن يحققوا في مسرحياتهم شروط الدراما ولا يستطيعون وظلت هذه الشروط هدفا بعيد المنال, يقترب الكاتب منه ولكن لا يبلغه إلي أن جاءت الكرة فأصابت الهدف,وخرقت الشبكة
فالكرة هي المسرحية الوحيدة التي يضمن فيها المتفرج مهما بلغت رداءتها
.وحدة الزمن فبينما يندر أن نشهد علي المسرح رواية تجري أحداثها في أقل من يوم وليلة تمتاز مسرحية بأنها (بعد حذف الوقت الضائع في الضرب المتبادل بين اللاعبين) تبدأ وتنتهي في ساعة ونصف ساعة
.وحدة المكان فنادرا ما يشهد الإنسان مسرحية لا ينقله فيها المؤلف من منظر إلي منظر,أو من بلد إلي بلد أما مسرحية الكرة فتجري أحداثها جميعا في مساحة الملعب المحدودة ولا تتجاوزها إلا في حالات نادرة..(كنشوب خناقة في المدرج, أو وجود فائض من زجاجات الكازوزة يتخلص منها اللاعبون بالقائها علي الحكم)
.الصراع فأعظم المسرحيات المؤلفة لا يبدأ فيها الصراع إلا بعد مضي شىء من الوقت ولا يخلو هذا الصراع عادة من لحظات فتور وملل,أما الكرة..فهي وحدها التي يبدأ فيها الصراع مع لحظة البداية.ثم يستمر حتي إسدال الستار.ثم يستمر حتي إسدال الستار ثم يستمر بعد ذلك بين المتفرجين لمد
ة أيام..وأحيانا لمدة موسم
لا غرابة أذن في أن يكون عشاق الكرة أكثر من عشاق المسرح.ما دامت الكرة قد حققت من شروط الدراما أكثر مما حقق المسرح
لا غرابة في أن يبلغ هذا العشق بين الجماهير درجة الجنون فقبل الكرة كانت هناك درامية أخري لقيت نفس الحماس الجنوني كفن إطلاق الثيران الوحشية علي اللاعبين في إسبانيا اليوم والكرة هي الصورة الأرقي لهذه الرياضات..وإن كانت بعض مبارياتها لا تختلف في الواقع عن مصارعة الأسود أو الثيران
علي أن هناك فرقا يلفت النظر ما بين الدراما وفن الكرة فالناس في المسرح ينفعلون انفعالا موحدا..مع البطل ضد الشرير, والكل يكرهون الحكم
والنقاد يطلقون علي هذه الظاهرة اسم التعصب ولكنهم مع الأسف لا يفسرونها,وإنما يكتفون بمهاجمتنا..
وكان طبيعيا_وقد عجز النقاد عن التفسير_أن يتولي هذه المهمة كل من هب ودب من الناس.فظهرت تفسيرات طريقة للتعصب الكروي منها أنه لا توجد معارك أخري تشتغل المواطنين (تصور ذلك في بلادنا) ومنها أن التحزب شىء في طبيعة الناس, ولما لم تكن في بلادنا أحزاب سياسية , فلم يكن مغر من أن ينقسموا إلي أحزاب كروية
وعلي قدر ما في هذه التفسيرات من سخف وركاكة , فإني أعترف بأني ظللت عاجزا عن إيجاد غيرها .
جاء رجل من أقربائي ذات يوم ودس يده في جيبي لينتزع مني قهرا دون أي استعداد للتفاهم لكى اشتراك في نادي الترسانة .
ولإنني أحب الرجل ,ولا أريد أن أغضبه فقد قبلت أن اشترك ووضعت في جيبي بطاقة الترسانة وأنا لا أعرف عنها سوي أن فيها لاعبا اسمه الشاذلي
وفي البداية لم تؤثر هذه البطاقة _في قليل أو كثير_علي سلوكي الكروي .فأنا طول عمري اتفرج علي الكرة كما أتفرج علي الباليه..تعجبني الحركة البارعة وأصفق لإيقاع الفن في القدم الحساسة , دون أن أعرف من صاحبها.
ولكن هذا الموقف من جانبي لم يدم طويلا.وكان السبب ربطة عنق
ربطة عنق أهداها لي صديق كان في أوروبا وما كدت أظهر بها ذات يوم حتي صاح بعض الأصدقاء طبعا لك حق الترسانة غلبت الزمالك
ودهشت لإنني لم أكن أعرف هذا النبأ ثم زادت دهشتي والتهائي تنهال علي من كل مكان فكإنني أنا الذي انتصرت وأنا الذي قهرت الومالك وأنا الشاذلي ومصطفي رياض وإبراهيم الخليل في آن واحد .
شعور ممتع
أن ننتصر دون جهد وأن تحمل علي رأسك أكاليل من النار لم تحرك إصبعا في سبيل الحصول عليها
ولأنه مجد سهل ..فقد وجدت نفسي أصمم علي الاحتفاظ به ولماذا لا أحرص عليه وغيري هو الذي سيدفع ثمنه ويكافح من أجله؟
وهكذا بدأ يهمني أن يجيد الشاذلي اللعب وبدأت أفسر كل هزيمة للترسانة بأنها سوء حظ وأحقد علي كل الفرق الأخري وأكره اللاعبين الذين كنت فيما مضي معجبا بأقدامهم الحساسة (كحمادة إمام,رفعت الفناجيلي) لإنهم ليسوا في الترسانة
ولماذا أعجب بهم ما دامت انتصاراتهم لن تنسب لي ولن يقال لي سببها مبروك؟
حدث هذا دون أن أشعر ولم أنتبه إليه إلا أثناء مباراة الكأس الأخيرة. ففي هذه المباراة ضرب لاعبو الترسانة
مسدساتهم أيضا بدلا من الاكتفاء ويحزنني أنني لست في الملعب حتي أقذف رؤوس لاعبي الأهلي
بالزجاجات ..ولست في الجيش حتي أنسف حارس مرماهم بمدفع من طراز الهارون كنت أتفرج علي المباراة في التليفزيون.
وبعدها سألت نفسي لماذا أا حزين ؟وما الذي فقدته بهزيمة الترسانة؟
وبعد تأمل طويل وجدت الجواب..
أن الذي يغيظني هو أنني فقدت زهو(انتصار مجاني)..كان مفروضا أن يحرزه غيري, وأتلقي أنا التهاني عليه
وبمزيد من التأمل أدركت أن هذا هو سر كل تعصب .وليس سر التعصب الكروي وحده.
فالتعصب يتيح للإنسان أن يعتز بأمجاد لم يصنعها وأن يرتفع من فوق الناس دون أن يفعل شيئا يستحق به هذا الارتفاع .
لهذا كان الألمان متعصبين للنازية ما دامت تعطي كلا منهم شهادة امتياز مجانية وتعتبره فوق مستوي البشر أنه ينتهي إلي (جنس مختار)
ولهذا أيضا يتعصب البيض في أمريكا ضد السود..ما دام هذا التعصب يكفل لكل منهم أن يكون ممتازا بحكم اللون وحده ومهما بلغ جهله وانحطاطه
فالتعصب شىء يريح المتعصبون.
وهو يروق_أكثرما يروق_للعجزة من الناس..والأغبياء..والمختلفين لأن هولاء_بمقاييس الكفاءة_لا قيمة لهم .وبمقاييس التعصب وحدها تصبح لهم قيمة
قيمة لم يكافحوا للحصول عليها
قيمة مجانية .ترفعهم فوق الآخرين..دون أن تطالبهم بدليل علي أنهم يستحقونها
منذ اكتشفت هذه الحقيقة وأنا أشكر الكرة فهي قد أضاءت بصيرتي..وجعلتني أحذر من أن أتعصب لشىء..مهما كان
ومع ذلك..
فأنا- بإخلاص- لا أعرف كيف سأكون في موسم الكرة القادم
قد أعود _كما كنت قبل التعصب للترسانة_أتفرج علي الكرة كما أتفرج علي الباليه
تعجبني الحركة البارعة, واصفق لإيقاع الفن في القدم الحساسة دون أن أعرف من صاحبها وقد أدخل مسلحا بزجاجات الكازوزة, أضرب بها كل من يسجل هدفا في النادي الذي يحارب نجومه من أجلي يدفعون هم ثمن الانتصار , واتلقي أنا التهاني ويختال رأسي في مقعدي بإكليل النصر
في الحالة الأولي سأعرف أنني رجل ذواقه..أقدرالكرة كفن من فنون الدراما
وفي الحالة الثانية سأعرف أنني مجرد واحد من العجزة يستر بالتعصب عجزه وقصوره
والذي سيحكم بهذا أو بذاك هو سلوكي في الموسم القادم
قطعة من الجلد المنفوخ الأجوف هي التي ستحدد من أنا وما قيمتي يا للمهانة