القاهرة 28 نوفمبر 2014 الساعة 04:03 م
حين يجرى الحديث عن الثورة الفرنسية، عادة ما يكون مسرح الأحداث والآراء ما حدث في العاصمة باريس، أو غيرها من المدن الفرنسية الكبرى. وحتى حين يؤتى على ذكر موقع الأرياف الفرنسية، يتناول الحديث ثوار الأرياف وكيف أن القسم الأكبر منهم تعاطف مع الثورة، وكان مناصرها أو وقودها (بحسب الآراء ووجهات النظر). ومع هذا ثمة فصل من فصول تلك الثورة التأسيسية نادراً ما كشف النقاب عنه، ولا سيما من جانب المؤرخين والكتاب الذين ناصروا الثورة، وهم الغالبية العظمى على أية حال. ثمة فصل من فصول تلك الحركة الانعطافية التي قلبت أحوال فرنسا وأحوال جزء كبير من العالم وفكره أيضاً، ظل دائماً في حاجة إلى من يرويه: إنه ذاك المتعلق بثورة ريفيي الغرب الفرنسي من الذين يطلق عليهم اسم نمط العلاقات الاقتصادية القائمة في منطقتهم «الشوان». هذا الفصل كان بلزاك هو الذي كتبه، وعلى غير توقع من أحد، خلال تلك الفترة المبكرة من حياته، وكتبه بشكل أدى إلى ولادة سجالات وأكثر من سجالات. كان ذلك في رواية «الشوان» التي يقول النقاد عنها عادة أنها «آخر كتابات عهد الصبا، وأول أجزاء الكوميديا الإنسانية» بالنسبة إلى كاتبها الذي كان حين أنجزها بالكاد جاوز الثلاثين من عمره. مهما يكن من أمر هنا لا بد أن نشير أول الكلام إلى أن هذه الرواية، بالنص الذي نقرأه اليوم، ليست هي النص الأصلي الذي كتبه بلزاك أول الأمر، ذلك انه عمد بنفسه مرات عدة إلى إحداث تعديلات متتالية على النص الأصلي الذي كام انتجه في البداية، وكان من أهم التعديلات تلك التي أجراها في طبعة عام 1834 ثم في طبعة عام 1844، حيث أن الرواية التي كانت في الأصل تميل إلى الجمهوريين منتقدة الفلاحين الشوان الذين انتفضوا لمصلحة الملكية والأرستقراطية ضد الثورة، صارت تبدو أكثر وأكثر ميلاً إلى الدفاع عن هؤلاء الأخيرين وتبرير حركتهم... وذلك أن بلزاك كان، هو نفسه، خلال المراحل المتلاحقة من حياته، يبتعد من الأفكار والثورة السان سيمونية، التي كان يؤمن بها بل حتى يدعو إليها في كتاباته أول الأمر بوصفها الامتداد المنطقي والأكثر إنسانية للثورة الفرنسية نفسها، ليقترب من النزعة الملكية أكثر وأكثر. وهكذا يمكننا أن نقول إن رواية «الشوان» تكاد تكون العمل الأدبي الفرنسي الكبير والأبرز المنتمي إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر في مناصرته أعداء «الثورة» بقلم كاتب كبير من طينة بلزاك.
> ومع هذا، يمكن القول أيضاً أن «الشوان» هي رواية غرام ومكائد نسائية في المقام الأول، وأن هذا الجانب يطغى عليها إلى درجة تبدو معها الخلفية التاريخية أشبه بديكور يضم الأحداث، من دون أن يحركها أو يحرك نوازع شخصياتها.
> قبل كتابته «الشوان»، كان بلزاك جرب حظه في الكتابة المسرحية، لكنه حصد فشلاً بعد الآخر. وهنا إذ وقف، في العامين 1827 - 1828، عند نقطة انعطافية من حياته، تذكر أنه حين كان في العشرين من عمره، حدث له، مثل مئات ألوف القراء، في فرنسا كما في أنحاء أوروبية عديدة، أن قرأ رواية «ايفانهو» للإنكليزي والتر سكوت. ذهل بلزاك يومها الشاب أمام رواية عرفت حقاً كيف تتعامل مع التاريخ، لكنه «تحفظ» كما سيقول لاحقاً، إزاء عمل يخلو مما هو أساسيّ في نظره - بل حتى في نظر كثر من الذين قرأوا «ايفانهو» وأحبوها لكنهم أخذوا عليها المأخذ نفسه -: العاطفة. وهكذا، أمام فشل مسرحياته، قرر أن يكتب رواية تاريخية، وأن «يسد النقص» الذي رصده لدى الأستاذ الإنكليزي الكبير. وإذ كان في ذلك الحين بالذات، يعمل منذ زمن على كتابه «تاريخ ريفي لفرنسا» استهواه وضع فلاحي الشوان، فاتجه إلى مدينة فوجار حيث أمضى ستة أسابيع رصد خلالها الحياة الفلاحية المحيطة بالمدينة، ورصد العلاقات الاجتماعية التي كانت لا تزال قائمة، أو هي استعيدت بعدما خفت صوت «الثورة» هناك على الأقل، واستمع إلى عشرات الحكايات التي قصّها الفلاحون عليه، ثم عاد وكتب تلك الرواية.
> تدور «الشوان» التي لا يقل عدد صفحاتها عن 400 صفحة حول مركيز شاب يبعث به أنصار الملكية إلى تلك المنطقة الواقعة في إقليم بريتانيْ الفرنسي، لتولي قيادة مجموعات عريضة من فلاحين كانوا أعلنوا الثورة والعصيان ضد السلطات الجمهورية، وإذ يصل المركيز الشاب الوسيم إلى هناك، يجد في مواجهته حسناء فاتنة، من أصل أرستقراطي، لكنها - ومن دون علمه - مبعوثة، في حقيقة أمرها من جانب وزير الداخلية فوشيه... قصد أن تصطاد المركيز نفسه وتحبط خططه. ويقع المركيز في شباك الفاتنة من دون أن يدري أنها هنا لكي تغدر به. وهي بدورها تنجذب إليه، لكنها في الوقت نفسه تبدو متمسكة تماماً بمبادئها الجمهورية فتواصل خيانة «حبيبها». ويقول النقاد الفرنسيون إن الجانب الذي يصور حكاية الغرام بين الاثنين هو الجانب الأجمل في الرواية و... الأبقى أيضاً.
> أما الجانب الأسوأ، والأكثر سذاجة، فإنه يتجلى حين يدخل بلزاك في تحليل نفسية المرأة وتمسّكها بالمكائد وما إلى ذلك. أما في خلفية ذلك كله، فإن التاريخ الحقيقي هو العنصر الأساس: تاريخ عام 1799، حرب الفاندي الثالثة، الجمهورية الثورية وقد صارت الآن بين أيدي الانتهازيين. وهكذا تشتعل الأحداث هنا وهناك في فرنسا، ولا سيما في المناطق، في الوقت الذي يكون بونابرت منهمكاً، وقد أضحى «قنصلاً أول» في حروبه الأوروبية، ما جعله في حاجة إلى تجنيد عشرات ألوف الشبان لكي يصبحوا وقوداً لتلك الحروب. والحقيقة أن هذا التجنيد القسري الذي راح، آنذاك، يطاول، الشبان الريفيين مفرغاً القرى والأراضي من أبنائها، كان السبب المباشر لثورة الفلاحين، الذين ما كان للقيادات المعادية للثورة (الملكية مثلا) إلا أن تسرع إلى قيادتهم وتنظيم صفوفهم، حتى يتحول تمردهم من عمل له علاقة مباشرة بحياتهم ووجودهم إلى قضية سياسية تخص الصراعات الكبرى حول السلطة، من دون أن يكون للفلاحين، أصلاً، أية علاقة بذلك. والحقيقة أن بلزاك يبدو متميزاً في تحليله لكل هذه الأبعاد، وهو تحليل يشكل جزءاً رئيساً من الحوارات التي تقوم بين المركيز (الملكي) والفاتنة (الجمهورية). ويصل بلزاك إلى ذروة هذه التحليلات من خلال تقديمه شخصية جندي جمهوري يدعى هولو، ليحاول من خلاله أن يقول لنا إن السياسة في النهاية ليس الشعب هو الذي يصنعها، حتى في العهد الثوري الذي ينتفض بـ»اسم الشعب نفسه» ولـ»ما فيه مصلحة الشعب»، بل إن من يصنع السياسة إنما هم رجال السياسة أنفسهم الذين يشتغلون في الخفاء وفي شكل شديد السرية، سواء أكانوا من الموالين أو من المعارضين، لتنفيذ مخططاتهم الخاصة، جاعلين الشعب المخدوع دائماً، يتصور أنه هو الذي يصنع السياسة وأن حركته هي التي تغير وجه التاريخ. ولنا أن نلاحظ هنا أن ما يقوله بلزاك في هذه الرواية حول هذا الأمر من الصعب جداً القول إنه اختفى وإن الأمور تبدلت. ومن هنا يمكن المرء أن يفهم كاتبا ومفكراً واقعياً مثل بلزاك حين لا يتردد في «الشوان» عن إبداء إعجابه بالسياسيين المتحركين، واحتقاره للفلاحين الذين يسيرون، في الأحوال كافة، على غير هدى.
> وأونوريه دي بلزاك (1799 - 1850) هو الكاتب الفرنسي الكبير الذي يوضع عادة مع هوغو وزولا وستندال وفلوبير، في طبقة واحدة باعتبارهم أعظم الكتاب الفرنسيين في القرن التاسع عشر، ومن أعظم الكتاب قاطبة. وقد كان بلزاك، الذي أخفق دائماً في مشاريعه التجارية والطباعية، خصب الإنتاج أدبياً، إذ إنه كتب عشرات الروايات والمسرحيات، وعشرات الألوف من الصفحات، معظمها تضمه مجموعة قصصه المعنونة «الكوميديا الإنسانية»، والتي تتحرك فيها وتختفي وتعود، شخصيات تعد بالمئات، تكاد تمثل البشرية جمعاء، ولكن في مسرح حياتها وتحركها الفرنسي. ومن أبرز أعمال بلزاك الأخرى: «أوجيني غراندي» و«الآمال الضائعة»...