القاهرة 24 نوفمبر 2014 الساعة 02:22 م
حلمتُ بأماكا تغرقني في تجويف مرحاض ممتلئ بخليط متراكم من البني والأخضر.. غمرتْ رأسي أولاً داخل التجويف الذي اتسع ليغمر بعد ذلك كل جسدي. كانت أماكا تضغط يد خزانة ماء المرحاض وهي تغني "تدفق، تدفق، تدفق"بينما كنت أقاوم لكي أحرر نفسي. كنت لاأزال أقاوم عندما استيقظتُ من نومي لأجد أماكا نهضتْ من فراشها لتحكم وثاق ثوب نومها
- سنذهب لنجلب ماءً من الصهريج
قالت دون أن تسألني مرافقتها، لكنني نهضت وأحكمت وثاق ثوبي وتبعتها. في تلك الأثناء كان جاجا وأوبيورا عند الصهريج في الفناء الخلفي الصغير الذي كوم في أحد أركانه إطارات سيارة قديمة وأجزاء دراجة وصندوق ثياب محطم. صف أوبيورا فتحات أفواه أواني إلى جوار بعضها البعض أسفل فتحة صنبور مياه الصهريج. عرض جاجا رغبته في حمل أول إناء مملوء بالماء إلى المطبخ، لكن أوبيورا أخبره ألا يزعج نفسه وحمله بدلاً منه إلى الداخل، وبينما كانت أماكا تحمل إناءً ثانياً وضع جاجا إناءً آخر أسفل الصنبور. وعندما عرضتُ رغبتي في حمل إناء مملوء بالماء، ضحكتْ أماكا وقالت إن عظامي رقيقة ولا يمكنني حمله.
قرأنا في غرفة المعيشة عدداً من الصلوات القصيرة للصباح تخللتها أغنيات. صلت العمة افيوما من أجل الجامعة والمحاضرات والإدارة ومن أجل نيجيريا، ثم من أجل أن يمر اليوم في سلام. وفي ضحك رسمنا جميعاً علامة الصليب. تطلعتُ بعيني لأبحث عن وجه جاجا لأعرف ما إذا كان قد استشعر غرابة في الأشياء التي صلت العمة افيوما وأسرتها من أجلها وفي ضحكاتهم.
الواحد بعد الآخر أخذ حماماً بنصف دلو ماء دافئ بعد غمر الجزء النحاسي من سخان كهربائي بداخله لبعض الوقت. كان الماء في حوض الاستحمام يسلك طريقه إلى ماسورة الصرف عن طريق فتحة مستطيلة الشكل في أحد أركانه محدثاً صوتاً أشبه بحشرجة رجل يعاني من ألم، وذلك أثناء قيامي بصب الماء على جسدي ببطء بكوب صغير وتنظيفه باستعمال قطعتي اسفنج وصابون كانت ماما قد وضعتهما بعناية في حقيبة ملابسي.
عند خروجي من الحمام رأيت العمة افيوما في حجرة المعيشة تقوم بإذابة بضع ملاعق من اللبن الجاف في كأس من الفخار به ماء بارد، وقبل أن تغادر لتعيد زجاجة اللبن الجاف إلى مكان آمن بحجرتها، قالت:
- إذا تركتُ هؤلاء الأطفال يتناولون اللبن بأنفسهم فسوف تفرغ الزجاجة قبل أسبوع
تمنيتُ ألا تسألني أماكا إذا كانت ماما تفعل ذلك لأنني سوف أتعثر في كلماتي لأخبرها أننا نتناول اللبن في منزلنا بحرية وبالقدر الذي نحبه ونشتهيه دون أن يمنعنا أحد.
أثناء تناولنا شرائح البطاطا المقلية والكعك على الإفطار، طالبتْ العمة افيوما أطفالها بالإسراع لكي ترينا، جاجا وأنا، حرم الجامعة ثم العودة مبكراً حتى يمكنها إعداد طعام الغداء الذي دعت إليه الأب أمادي.. سأل أوبيورا
- متأكدة من أن السيارة بها وقود كاف، ماما؟
- بها ما يكفي لنقوم بجولة في حرم الجامعة على الأقل.. أتمنى حقيقة أن يأتي الوقود الأسبوع المقبل وإلا عند استئناف الدراسة سأضطر إلى الذهاب إلى محاضراتي سيراً على قدمي.
قالت أماكا ضاحكة:
- أو تأخذين "أوكادا"
- سأستعملها سريعاً إذا تأخر وصول الوقود
- ماذا تعنين بكلمة "أوكادا"؟
حدَّقتُ في وجه جاجا في دهشة من سؤاله قبل أن يجيبه أوبيورا
- دراجات بخارية.. لقد أصبحت أكثر شهرة من التاكسي
ونحن في طريقنا إلى السيارة، توقفت العمة افيوما لتقتلع بعض أوراق نبات بنية بالحديقة، وتمتمت بأن الريح الترابية تقتل نباتاتها، عندئذ أطلق أوبيورا ومعه أماكا صيحة استنكار وسخرية
- انسي الحديقة الآن، ماما
- هذا نبات الكركديه، أليس كذلك يا عمتي؟
سأل جاجا محدقاً في نبات قريب من حاجز أسلاك شائكة
- لم أكن أعلم بوجود زهور الكركديه الأرجوانية هنا
ضحكت العمة افيوما ولمست زهرة بلون الأرجوان الداكن الذي يقارب اللون الأزرق.
- صديقتي الطيبة فيليبا مدرسة النبات، قامت بإجراء العديد من التجارب في حديقتي هذه. انظر، هذه زهرة اكسورا البيضاء، لكنها لا تزهر بالكامل مثل قرينتها.
- إنها زهرة جميلة جداً
- نعم، إنها كذلك.. كان عليّ أن أحيط حديقتي بحاجز من الأسلاك الشائكة لأحميها من أطفال الجيران الذين يأتون ويقطفون الكثير من الزهور النادرة فيها.. الآن لا أسمح بدخول حديقتي إلا للفتيات من كنيستنا أو كنيسة البروتستانت.
- ماما.. هيا نذهب
قالت أماكا في استياء، لكن العمة افيوما أمضت قليلاً من الوقت في الحديث إلى جاجا عن زهورها قبل أن تدير محرك السيارة وتقلنا جميعاً إلى شارع شديد الانحدار، مارين بمنازل ذات سياج من نباتات وزهور عباد الشمس من الأمام، وتبدو في الأقنية الخلفية لها صهاريج مياه معدنية فوق قواعد من الإسمنت تركت بغير دهان، ويتأرجح يمنة ويسرة إطار سيارة قديم معلق في أغصان شجرة جوافة، وملابس مثبتة في حبال تمتد من شجرة إلى أخرى تنتظر الجفاف.
- هذه المدرسة الابتدائية المحاطة بسياج من أشجار الصنوبر، التي يدرس فيها تشيما كانت في السابق أفضل حالاً، لكن انظروا الآن إلى العوارض الخشبية المنزوعة من نوافذها وإلى قذارة المباني.
أشارت العمة افيوما إلى مبنى معهد الدراسات الإفريقية الذي تقوم بالتدريس في فصوله. المبنى قديم حال لونه، نوافذه مغطاة بغبار كثيف، ويبدو من حالته الرثة أنه يصعب أن يستعيد بريقه الذي كان عليه. تابعتْ السيارة سيرها في طريق على أحد جانبيه حقل أخضر، تتوزع على رقعته المتسعة أشجار مانجو بأوراقها المائلة للصفرة التي تقاوم ضربات الريح الجافة.
- خلف هذا الحقل يوجد السوق، وبيت للفتيات، وقاعتا ماري سلسيور وأوكبارا، وأيضاً قاعة بيللو الشهيرة التي تريد أماكا أن تشارك في أنشطتها أثناء دراستها بالجامعة
ضحكت أماكا، لكنها لم تبد معارضة لما قالته والدتها.
- ربما أنتما الاثنتان ستكونان معاً، كامبيلي
هززتُ رأسي بالرغم من أن العمة افيوما لا يمكنها رؤيتي.. لم أفكر أبداً في الجامعة التي سألتحق بها أو نوع الدراسة التي
سأدرسها، لأنه عندما يحين ذلك الوقت سيكون القرار لبابا. أطلقتْ صوت نفير السيارة، ولوحتْ لرجلين أصلعين يقفان على ناصية استدارت إليها، ثم واصلت سيرها في الطريق الذي تصطف على جانبيه أشجار جميلينا وأشجار دوجو نيارو التي امتلأت السيارة بعطر أوراقها النافذ. أخذتْ أماكا نفساً عميقاً وقالت ان أوراقها تعالج مرض الملاريا.
عند دخولنا المنطقة السكنية، مرت السيارة بمجمعات تحتوي على أعداد كبيرة من البيوت ذات الطابق الواحد وإلى جوارها مساحة مزروعة بالزهور وأخرى بأشجار الفاكهة. بالتدريج افتقد الطريق نعومة الإسفلت، واختفى المرج الأخضر، وظهرت بيوت صغيرة ضيقة متلاصقة تفتقد للخصوصية، قالت عنها العمة افيوما أنها مساكن أفراد السكرتارية والسائقين، وقاطعتها أماكا
- ربما لا يحصل على مسكن منها إلا صاحب الحظ الأوفر
- هذا تل أودم.. المنظر من أعلى يسحر الألباب، حيث تتراءى للواقف هناك جمال الطبيعة الساحرة التي من صنع الله
عندما استدارت السيارة للخلف متجهة إلى الطريق الذي جئنا منه، أطلقتُ لعقلي العنان لأفكر في يد الله البيضاء التي شكلت تلال نسوكا ووديانها وهلال القمر في سمائها. قادت العمة افيوما السيارة في منطقة أشجار تحيط بكلية الهندسة وبأكثر من دار للفتيات، وعند اقترابها من الشارع الذي تقطن فيه، سارت في الطريق العكسي لرغبتها في أن ترينا الجانب الآخر من مارجريت كارترايت أفنيو حيث فيلات من طابقين يسكنها الأساتذة الجامعيون أثناء الفترة الدراسية.
- بلغني أنه عندما أنشئت هذه الفيلات لأول مرة، طالب الأساتذة البيض – كان كل الأساتذة من البيض في تلك الفترة – بمدفئة ومدخنة لصرف الدخان
أطلقت العمة افيوما ضحكة متسامحة شبيهة بالضحكة التي أطلقتها ماما عندما كانت تتحدث عن أناس يترددون على العرافين، ثم أشارت إلى منزل يسكنه نائب رئيس الجامعة وتحوطه أسوار عالية وسياج من شجيرات الكرز والاكسورا التي كانت تلقى عناية فائقة إلى أن بدأت أحداث شغب الطلبة وتكرار محاولة القفز على الأسوار التي انتهت بإضرام النار في سيارة داخل المجمع السكني. سأل جاجا
- ما سبب أحداث الشغب تلك؟
- الكهرباء والماء
أجاب أوبيورا، وأضافت العمة افيوما:
- قال الطلبة ان من الصعب استذكار دروسهم فى ظل انقطاع الكهرباء والماء، وطالبوا بتأجيل الامتحانات، لكن إدارة الجامعة رفضت طلبهم
- الأسوار في غاية السوء
قالت أماكا بالإنجليزية. فكرتُ فيما سيجول بذهنها عن أسوار مجمعنا السكني هناك، إذا ما زارت يوماً ما منزلنا. لم تكن أسوار منزل نائب رئيس الجامعة عالية جداً فقد أمكنني رؤية الفيلا الكبيرة من طابقين التي ظهرت من بين ثنايا أغصان الأشجار التي حال لون أوراقها إلى شيء من الصفرة. تابعت أماكا قولها:
- إقامة الأسوار ليس حلاً ناجعاً في رأيي.. لو أنني في مكان نائب رئيس الجامعة لما قام الطلبة بأحداث الشغب، لأنني كنت سأوفر لهم الكهرباء والماء
- إذا كان بعض المتنفذين الكبار في أبوجا قد قاموا بسرقة الأموال الطائلة، فمن أين تأتي الأموال إلى نسوكا؟
نظرتُ إلى وجه أوبيورا الغاضب. وضحكتْ العمة افيوما ضحكة مدرب مزهواً بأداء فريقه وقالت:
- سنذهب إلى المدينة لنرى إذا كان في السوق بطاطا سعرها جيد.. لدينا بعض الذرة فيمكننا إذن تقديم وجبة يحبها الأب أمادي
سأل أوبيورا:
- سيكفي وقود السيارة لذلك، ماما؟
- سنجرب
قادت العمة افيوما السيارة فى اتجاه الطريق المؤدي إلى بوابات دخول الجامعة. التفت جاجا إلى تمثال الأسد الناهض في زهو إلى جهة اليمين، وقرأ العبارة المنقوشة أسفله "لنحافظ على شرف الإنسان". كرر أوبيورا قراءة نفس العبارة وأطلق ضحكة قصيرة، وسأل:
- لكن متى فقد الإنسان شرفه؟
خارج البوابة، ارتجفت السيارة وتوقفت. تمتمتْ العمة افيوما "يا أمنا المباركة، من فضلك ليس الآن". أدارت مفتاح تشغيل المحرك بدون جدوى. أطلق شخص خلفنا نفير سيارته. استدرتُ لأنظر إلى المرأة التي نزلت من السيارة البيجو 504 الصفراء وسارت في اتجاهنا. كانت ترتدي تنورة فضفاضة حيكت على شكل بنطلون يظهر باطن ساقيها الممتلئتين كثمرتي بطاطا مستطيلتين كبيرتين.
- توقفت سيارتي أنا أيضاً بالقرب من المتجر الشرقي أمس
وقفتْ العمة افيوما بجانب نافذة السيارة وتموجات شعرها تتطاير بفعل الريح
- استعنت بابني هذا الصباح لكي يزوّد خزان وقود سيارتي بلتر من وقود سيارة زوجي حتى يمكنني الذهاب إلى السوق.. أتمنى أن يأتي الوقود سريعاً
- سننتظر ونرى يا أختي.. كيف حال سيارتك؟
- بخير.. الحياة تسير
- هيا ندفعها إلى الأمام
اقترح أوبيورا، وفتح باب السيارة
- انتظر
أدارت العمة افيوما مفتاح تشغيل المحرك مرة ثانية فارتجفت السيارة ثم علا صوت المحرك.. أطلقتْ صوتاً يتسم بالألم والذعر وهي تحاذر ألا تبطئ في سرعة قيادتها للسيارة حتى لا تعطيها فرصة أخرى للتوقف. بجوار بائع بطاطا على جانب الطريق توقفنا. كانت ثمار البطاطا مكومة في أشكال هرمية على طاولة ملونة مزخرفة. أخرجت العمة افيوما بعض الأوراق المالية المطوية داخل محفظتها وأعطتها لأماكا التي أنفقت بعض الوقت في مساومة البائعة التي هزت رأسها أخيراً بالموافقة، وعندئذ ابتسمت أماكا. سألتُ نفسي إذا كان ما قامت به أماكا قد جلب لها مسرة ما.
***
بعد عودتنا إلى الشقة، انضممت إلى العمة افيوما وأماكا في المطبخ، بينما خرج جاجا بصحبة أوبيورا للعب كرة القدم مع أطفال شقق الطوابق العلوية. أتت العمة افيوما ببعض ثمار البطاطا الكبيرة، وقامت أماكا بنشر صفحات جريدة على الأرض، وبدأت في تقشير الثمار قبل تقطيعها إلى شرائح، وعندئذ عرضتُ عليها مساعدتها في التقشير. في صمت أعطتني سكيناً. قالت العمة افيوما:
- ستحبين الأب أمادي، كامبيلي.. جاء مؤخراً إلى كنيستنا، لكنه معروف جداً لكل شخص في الجامعة ومبانيها السكنية، ويتلقى دعوات كثيرة من معظمهم لتناول الطعام في منازلهم
- يبدو أنه يرتبط بأسرتنا أكثر فأكثر
قالت أماكا، وضحكت العمة افيوما:
- أماكا متحفظة جداً تجاهه
- أنت تبددين أجزاء كبيرة من الثمرة أثناء تقشيرك لها
- ....
- أهكذا تقشرين ثمار البطاطا في منزلكم؟
بحركة مفاجئة وصوت حاد، قالت أماكا. نهضتْ بقفزة واحدة وأسقطتْ السكين من يدي فسقطت على بعد بوصة من قدمي. قلتُ "آسفة". لم أكن متأكدة إذا كان أسفي على إسقاط السكين أو لتبديدي أجزاء من جسم الثمرة أثناء تقشيرها. كانت العمة افيوما تراقبنا
- أماكا، بيِّني لكامبيلي كيف تقشرين البطاطا؟
نظرت أماكا إلى أمها وشفتاها مقلوبتان إلى أسفل وحاجباها مرتفعان إلى أعلى، وكأنها لا تصدق أن هناك شخصاً يتعين عليه أن يعرف من شخص آخر كيف يقشر ثمرة بطاطا بطريقة صحيحة. راقبتُ الحركة الدقيقة المنتظمة ليدها مع تزايد طول القشرة، واعترتني رغبة في أن أعتذر لها عن عدم تمكني من التقشير السليم. أتمتْ أماكا التقشير بشكل جيد حتى أن القشرة استمر طولها يتزايد دون انقطاع على شكل شريط ممتد يتلوى في دوائر طويلة. تمتمت أماكا:
- ربما يتعين عليك إدخال هذا في جدولك.. كيف تقشرين ثمرة البطاطا
صاحت العمة افيوما:
- أماكا!.. كامبيلي، أحضري لي بعض الماء من الصهريج في الخارج
أمسكتُ بالدلو وأنا شاكرة للعمة افيوما لأنها أعطتني فرصة مغادرة المطبخ حيث وجه أماكا العابس. لم تتحدث أماكا كثيراً بقية فترة بعد الظهر حتى وصول الأب أمادي الذي تتقدمه رائحة كولونيا نفاذة. عانق تشيما الذي قفز نحوه، وصافح أوبيورا، وعانقته العمة افيوما وأماكا عناقاً سريعاً. قدمتني العمة افيوما له ثم جاجا. قلت:
- صباح الخير.. يا أبي
شعرتُ أن خطابي له لم يحمل توقيراً مناسباً لهذا الرجل الذي يحمل وجهاً صبيانياً ويرتدي قميص تي شيرت مفتوحاً عند العنق وبنطلون جينز فاتحاً جداً. قال وكأنه التقانا من قبل:
- كامبيلي وجاجا.. أأنتما مستمتعان بزيارتكما الأولى إلى نسوكا؟
- إنهما لا يحبانها
تمنيتُ لو لم تقل أماكا ذلك. أضاف الأب أمادي مبتسماً:
- نسوكا لها مفاتنها
وقعْ صوته، الذي يشبه صوت مغن، على أذني يشبه وقعْ صوت أمي وهي تمشط بأصابعها شعري. أثناء العشاء، لم أدرك تماماً عباراته بالاجبو الممتزجة بألفاظ بالإنجليزية، لأن أذني كانتا تلتقطان صوت حديثه وجرسه وليس معناه. كان يومئ برأسه وهو يمضغ الطعام ولا يتكلم حتى يبتلع ما بفمه ويحتسي جرعة ماء. بدا وجوده في منزل العمة افيوما وكأنه في بيته، فهو يعرف أي مقعد به المسمار الناتئ. تحدث مع أوبيورا حول كرة القدم، ومع أماكا تحدث عن الصحفي الذي ألقت الحكومة القبض عليه، واستفاض في الحديث مع العمة افيوما حول منظمة النساء الكاثوليكيات، وتبادل مع تشيما الحديث حول ألعاب الفيديو.
لم يتوقف أبناء عمتي عن الثرثرة، لكنهم كانوا يصمتون حتى يفرغ الأب أمادي من كلامه ثم يهبُّ كل منهم متحفزاً للإفصاح عن رأيه. خطر على ذهني الدجاجات السمينة التي يشتريها بابا ونأخذها إلى المذبح لنقدمها كقربان في القداس، بالإضافة إلى النبيذ والبطاطا، وفي بعض الأحيان لحم الماعز. كانت الدجاجات تندفع نحو قطع الخبز التي تلقيها سيسي إليها بحماس وفوضى تماماً مثل اندفاع أبناء عمتي الحماسي نحو كلمات الأب أمادي.
كنا جاجا وأنا المعنيين بأسئلة الأب أمادي لأنه استعمل صيغة المثنى في خطابه لنا وليس صيغة المفرد. ظللتُ صامتة وشاكرة لإجابات جاجا. سألنا عن مدرستينا وعن الرياضات التي نحبها، وعندما أخبره جاجا أن كنيسة سان أجنيز هي التي نذهب إليها في انوجو، قال:
- سان أجنيز؟.. زرتها لإقامة قداس
تذكرتُ عندئذ القس الشاب الذي قطع موعظته في منتصفها لنغني، وقال بابا عنه انه يتعين علينا أن نصلي من أجل أولئك الناس الذين يسيئون إلى الكنيسة. عرفتُ أنه هو وتذكرتُ الأغنية التي غناها بالرغم من أن عديداً من القساوسة زاروا كنيستنا في انوجو خلال الأشهر الماضية.
- زرتها حقاً؟.. شقيقي ايوجين يحمل على عاتقه منفرداً تمويل تلك الكنيسة الجميلة
- مهلاً.. "ايوجين اتشايك" شقيقك؟.. ناشر صحيفة ذي استاندرد؟
- نعم، ايوجين شقيقي الأكير.. أعتقد أنني ذكرت ذلك لك من قبل
لم تفلح ابتسامة العمة افيوما في إضاءة وجهها. هز الأب امادي رأسه:
- لم أكن أعلم.. سمعت أنه شريك فاعل فيما يخص السياسة التحريرية.. ذي استاندرد هي الصحيفة الوحيدة التي تجرؤ على ذكر الحقيقة هذه الأيام
- نعم.. ولديه رئيس تحرير رائع إد كوكر الذي أخشى عليه ألا يمضي وقت طويل قبل أن يضعوه في السجن إلى الأبد، وعندئذ لن تنفعه أموال ايوجين التي لا يمكنها أن تشتري كل شيء
- قرأتُ في مكان ما أن منظمة العفو الدولية بصدد منح شقيقك جائزة
كان الأب أمادي يومئ برأسه ببطء وبإعجاب، فغمرني شعور بالنشوة والزهو، وبالرغبة في رؤية أبي، وفي أن أقول شيئاً لأذكر هذا القس الوسيم أن بابا ليس فقط شقيق العمة افيوما ولا ناشر صحيفة ذي استاندرد، وإنما هو أبي.
- جائزة؟.. ماما، يتعين علينا أن نشتري ذي استاندرد.. مرة على الأقل بين حين وآخر حتى نعلم ماذا يجري حولنا
قالت أماكا وبريق في عينيها، وقال أوبيورا:
- أو ربما نطلب نسخاً مجانية إذا تخلينا بعض الشيء عن كبريائنا
- حتى أنا، لم أعلم شيئاً عن الجائزة.. على أية حال، ما كان ايوجين هذا سيخبرني بذلك.. نحن حتى لا يمكننا تبادل الحديث.. وبعد كل هذا يتوجب عليّ أن أتذرع بزيارة أوكبي لكي يقبل بزيارة الأطفال لنا
- إذن أنتم ذاهبون إلى أوكبي؟
- لم أكن أعتزم ذلك في الحقيقة.. لكن من المفترض أن نذهب الآن وأن نعرف موعد الظهور المقبل للسيدة العذراء
- كل ما يقال عن ظهور السيدة العذراء من صنع البعض.. ألم يقولوا من قبل أن سيدتنا ستظهر عند مستشفى القس شانهان؟
سأل أوبيورا.. وأجابت أماكا:
- الأمر مختلف في أوكبي.. بالإضافة إلى أنه قد حان الوقت لكي تأتي سيدتنا إلى إفريفيا.. أليس عجيباً أنها تظهر دائماً في أوروبا؟.. إنها من الشرق الأوسط على كل حال
- ماذا عنها الآن؟.. السيدة العذراء السياسية؟
سأل أوبيورا. نظرتُ إليه مدققة لأجده يمتلك جرأة لم أمتلكها عندما كنت في مثل عمره، الرابعة عشرة، ولازلت لا أمتلكها حتى الآن. ضحك الأب أمادي
- لكنها ظهرت في مصر، أماكا.. على الأقل اندفعت الحشود لمشاهدتها هناك، مثل الحشود التي تندفع الآن إلى أوكبي على نحو أشبه بأسراب الجراد المهاجرة
- يبدو أنك غير مقتنع بهذا يا أبي
كانت أماكا تدقق في وجهه..
- أنا لا أعتقد أنه يتعين علينا أن نذهب إلى أوكبي أو أي مكان آخر لكي نجدها.. إنها بيننا.. تقودنا إلى إبنها
تحدث بعفوية وكأن فمه آلة موسيقية تصدر أصواتاً بمجرد لمسها أو فتحها
- لكن يا أبي، ماذا عن ذلك الجزء بداخلنا الذي يحتاج إلى أن يرى حتى يكون على يقين
على وجه أماكا ذلك التعبير الذي جعلني أتساءل عما إذا كانت جادة في قولها أم لا. قطَّب الأب أمادي وجهه ولم يقل شيئاً. ضحكتْ أماكا وكشفتْ عن فراغ بين سنتيها الأماميتين أكثر اتساعاً مما لدى العمة افيوما، وكأن شخصاً أحدث ذلك الفراغ عنوة باستعمال آلة معدنية.
إلى حجرة المعيشة، عدنا جميعاً بعد العشاء. طلبتْ العمة افيوما من أوبيورا إغلاق التليفزيون حتى يمكننا الصلاة بصحبة الأب أمادي. كان تشيما غارقاً في نومه فوق الأريكة، وإلى جانبه استلقى أوبيورا طوال الصلاة، التي قطعها الأب أمادي في منتصفها بأغنية بالاجبو. بينما كانوا يغنون فتحتُ عيني وحدقتُ في الحائط في اتجاه صورة التقطت للعائلة أثناء تعميد تشيما. إلى جوار الصورة، لوحة تمثل العذراء تنتحب فوق جثمان المسيح يحيطها إطار
وضعنا كتب الصلوات بعيداً وظللنا جالسين في حجرة المعيشة نأكل شرائح البطاطا ونشاهد الأخبار بالتليفزيون. رفعتُ بصري فوجدت عيني الأب أمادي تنظران إليّ، عندئذ لم أستطع تحريك لساني وابتلاع ما بفمي. كنت أستشعر وقع أنظاره عليّ ومراقبته لي. أخيراً قال:خشبي متشقق عند الأركان. زممتُ شفتي حتى لا يشارك فمي بالغناء من تلقاء نفسه ويخونني.
- لم أرك تضحكين أو تبتسمين اليوم، كامبيلي
أطرقتُ ببصري إلى الأرض، وأردت أن أقول إنني آسفة أنني لم أبتسم أو أضحك، لكن كلماتي لم تخرج من فمي.. ولفترة ظلت أذناي لا تسمعان شيئاً.قالت العمة افيوما:
- إنها خجولة
تمتمتُ بكلمة عرفت أنها مناسبة، ونهضتُ وسرتُ إلى حجرة النوم. تأكدتُ من إغلاق الباب المؤدي إلى الردهة. ظل الصوت الموسيقي للأب أمادي يتردد صداه في أذني حتى رحت في النوم.