القاهرة 23 نوفمبر 2014 الساعة 03:10 م
وكأنها قرأت ما جال بخاطري، قالت:
- أنت وأماكا ستنامان هنا، وسيمكث جاجا مع أوبيورا في حجرة المعيشة
في داخل الشقة سمعتُ صوت جاجا وكيفن
- لقد أحضرتُ كل ما كان بحقيبة السيارة، وسأغادر الآن يا سيدتي
لم يكن كيفن في حاجة لأن يرفع صوته من حجرة المعيشة لضيق مساحة الشقة
- أبلغ ايوجين بأنني شاكرة له وبأننا على ما يرام.. وتوخى الحذر أثناء قيادتك للسيارة
لحظة مغادرة كيفن أحسستُ فجأة بضيق في صدري، ورغبت في الركض خلفه لأطلب منه الانتظار حتى أحضر حقيبتي وأعود إلى السيارة.
- جاجا، تعالى إليّ بالمطبخ حتى يعود أبناء عمتك
بدا صوت العمة افيوما عادياً وكأن زيارتنا لها أمر تعودنا عليه كثيراً في الماضي. سار جاجا في اتجاه المطبخ وجلس على كرسي خشبي منخفض بلا ظهر، وفضَّلتُ أنا الوقوف بجانب الباب حتى لا أعوق حركتها في المطبخ المعبأ برائحة الطعام وغاز الكيروسين المحترق في الموقد الذي يعلو طاولة خشبية إلى جوار نافذة الحائط وستارتها البالية التي حال لونها إلى الأزرق الرمادي بسبب دخان الموقد.
لم تتوقف العمة افيوما عن ثرثرتها وهي تضع الأرز ثانية فوق الموقد وتضيف إليه بصلتان أرجوانيتان مقطعتان، وكانت تطلق ضحكتها المجلجلة من وقت لآخر فتقطع بها تدفق كلماتها، في ذات الوقت الذي تبدو فيه وكأنها تبكي مستخدمة ظاهر يدها لإزالة دموع تستثيرها قطع البصل من عينيها.
بعد بضع دقائق حضر أطفالها الذين ظهروا في صورة مختلفة، ربما لأنني كنت أراهم للمرة الأولى في منزلهم بعد لقائي بهم في أبا، عندما جاءوا إليها لزيارة منزل الجد نوكوو. خلع أوبيورا نظارته القاتمة ووضعها داخل بنطلونه القصير، وضحك عندما وقعت عيناه على عيني، لكن تشيما هتف في صوت رفيع حاد:
- جاجا وكامبيلي، هنا!
عانقنا بعضنا البعض، وفور أن تلامس جسدينا بخفة أعطتني أماكا ظهرها.. كانت تضع أحمر شفاه وترتدي ثوباً يكشف خطوط جسدها النحيل.. التفتتْ إلى جاجا وسألتْ:
- كيف كان الطريق بالسيارة إلى هنا؟
- كنت أعتقد أنه أطول كثيراً عما هو في الحقيقة
- ليست انوجو بعيدة عن هنا
قال أوبيورا:
- لم نشتر زجاجات المياه الغازية بعد، ماما
- ألم أخبرك بشرائها قبل أن تذهب؟
وضعتْ شرائح البصل داخل إناء به زيت ساخن فوق المقعد، وخطتْ خطوة إلى الخلف
- سأذهب الآن إلى الكشك في المجمع السكني المجاور
- لا تنس الزجاجات الفارغة معك
رأيتُ جاجا يغادر مع أوبيورا ولم أستطع رؤية وجهه حتى يمكنني معرفة ما إذا كان يشعر بالارتباك مثلي. قالت أماكا:
- سأذهب لأغير ملابسي أولاً قبل أن أساعدك بالمطبخ، ماما
نظرتْ إلىّ العمة افيوما وقالت:
- اذهبي مع ابنة عمك
تبعتُ أماكا إلى حجرتها وأنا أخطو خطوات ثقيلة مرتبكة على الأرضية الأسمنتية التي تختلف عن الرخام الناعم في أرضية منزلنا. خلعتْ قرطيها ووضعتهما أعلى التسريحة، ونظرتْ إلى نفسها في المرآة. جلستُ على حافة السرير أراقبها وأنا أتساءل ما إذا كانت تعلم أنني تبعتها إلى الحجرة.
- أنا متأكدة من أنه جال بفكرك أن نسوكا ليست بقدر تحضر انوجو.
تابعتْ قولها وهي لاتزال تنظر في المرآة.
- لقد أخبرتُ ماما بألا تضغط عليكما حتى تحضران إلى هنا
- أنا.. كلانا.. أردنا أن نأتي
ابتسمتْ أماكا في المرآة ابتسامة خفيفة وكأنها تريد القول بألا أزعج نفسي بالكذب عليها.
- ليس في نسوكا مثل تلك الأماكن الفخمة التي في انوجو إذا كنت لا تعلمين ذلك.. فليس في نسوكا مطعم جينيسيس أو فندق نايك ليك
- ماذا؟
- جينيسيس ونايك ليك.. أنتم تذهبون إلى هناك كثيراً، أليس كذلك؟
- لا
- نظرت أماكا نحوي نظرة غريبة وقالت:
- لكنكم ذهبتم إلى هناك منذ فترة
- لم أذهب مطلقاً إلى مطعم جينيسيس، وذهبنا مرة واحدة فقط إلى فندق نايك ليك لحضور حفل زفاف شريك بابا في العمل، ومكثنا هناك فترة تتيح لبابا التقاط صور مع العروسين وتقديم هدية لهما
التقطتْ أماكا مشطاً وأجرته في نهايات شعرها القصير، ثم استدارت نحوي وسألتْ:
- لماذا تخفضين صوتك؟
- ماذا؟
- أنت تخفضين صوتك عندما تتحدثين.. أنت تتحدثين في همس
استقرتْ عيناي على درج المكتب الممتلئ بكتب ومرآة محطمة وأقلام. وضعتْ أماكا المشط فوق التسريحة ثم جذبت رداءها إلى أعلى رأسها.. بدت وهي مرتدية غطاء الثديين وثوبها الداخلي نحيلة وطويلة وبنية اللون.. بسرعة حدَّقتُ بعيداً، فلم أكن قد رأيت من قبل أي شخص في ملابسه الداخلية، فضلاً
عن أنه من الإثم النظر إلى شخص عار أو يكاد.
- أنا متأكدة من عدم وجود جهاز تسجيل كاسيت في حجرتك في انوجو
أشارت أماكا إلى جهاز تسجيل كاسيت صغير عند أسفل التسريحة، فأردت أن أخبرها أنني لا أملك أي نوع من أجهزة الصوت والموسيقى في حجرتي بالمنزل، ولكنني لم أكن على يقين إذا كانت سَتُسرُّ لسماع ذلك أو لا تبدي سروراً عند سماع أنني لا أملك جهاز تسجيل كاسيت.
أدارت مفتاح تشغيل مسجل الكاسيت وهي تتمايل على الإيقاع المتعدد النغمات لدقات الطبول.
- استمع في غالب الأحيان إلى الموسيقيين الفطريين المعبرين عن تراثهم الإفريقي، ولديهم شيئاً حقيقياً يقولونه، والأقرب إلىّ منهم فيلا وأوساديب واونيكا.. أنا متأكدة أنك ربما لا تعرفين عنهم شيئاً، وأنك تفضلين أغنيات البوب الأمريكية مثل بقية المراهقات
قالت "المراهقات" وكأنها ليست واحدة منهن، وكأنهن فصيل من الناس أقل درجة منها لعدم سماعهن الموسيقى المعبرة عن الثقافة الإفريقية.. وكررت
في زهو "الثقافة الإفريقية".
ظللتُ جالسة على حافة السرير ويداي متشابكتان تحدوني الرغبة في إخبار أماكا أنني لا أملك جهاز تسجيل، ولا أدري شيئاً عن موسيقى البوب، وبدلاً من ذلك سألتُ:
- هل رسمت هذه؟
كانت لوحة تصوير بألوان الماء معلقة هناك في حجرة نوم بابا، فيما عدا أن المرأة والطفل في اللوحة المعلقة في حجرة أماكا كانت بشرتيهما سوداء.
- نعم، أرسم في بعض الأحيان
- إنها جميلة
وددتُ لو أنني كنت أعرف أن ابنة عمتي ترسم رسومات واقعية بألوان الماء، ووددتُ لو أنها تكف عن إطالة النظر إلىّ وكأنني حيوان تجارب وعلىّ أن أفسر وأشرح نفسي دائماً.
- أهناك شيء يعوق قدومكما من هناك؟
على اثر سماع صوت العمة افيوما الذي يختلط فيه الغضب بالمرح، تبعتُ أماكا إلى المطبخ، ووقفتُ أراقبهما.. وبعد عودة جاجا مع الصبيين ومعهم زجاجات المياه الغازية في حقائب بلاستيك سوداء، طلبتْ العمة افيوما من أوبيورا إعداد مائدة الطعام.
- اليوم سنعامل كامبيلي وجاجا باعتبارهما ضيفين، لكن ابتداءً من غد سينضمان إلى العمل بالمطبخ كباقي أفراد الأسرة
مائدة الطعام مصنوعة من خشب تشقق سطحه الخارجي إلى شرائح بنية مقوسة بفعل الطقس الجاف، والمقاعد التي تفتقد إلى ما يجعلها ملائمة لطراز المائدة، أربعة منها تشبه مقاعد فصلي المدرسي المصنوعة من الخشب فقط، واثنان آخران لونهما أسود مثبت بهما حاشيتان من القطن. جلسنا جاجا وأنا متجاورين، وبعد أن أنهتْ العمة افيوما بعض الصلوات، كنتُ خلالها مغمضة العينين، ردد أبناء عمتي "أمين". وفي اللحظة التي فتحتُ فيها عيني، لمحتُ أماكا ترمقني، وأوبيورا يضغط بأصبعه على قنطرة نظارته الطبية ويقول:
- أتمنى قدوم كامبيلي وجاجا كل يوم حتى يمكننا تناول طعام كهذا، دجاج مشوي ومياه غازية
قال تشيما: "مامي، أريد فخذ الدجاجة"، وقالت أماكا وهي تنظر بإمعان إلى زجاجة الكوكاكولا: "أعتقد أن الشركة بدأت في تعبئة كميات أقل في الزجاجات".
بينما كنت أمضغ ما بفمي من طعام تمهيداً لابتلاعه، نظرتُ إلى الأرز والبطاطس المحمرة والجزء الواقع بين الفخذ والكاحل من قدم الدجاجة في طبقي، وإلى بقية الأطباق المختلفة أنواعها ولا يجمعها طاقم واحد. أمام تشيما وأوبيورا طبقان من البلاستيك، بينما أطباق بقيتنا من الزجاج المسطح الخالي من النقوش الملونة والخطوط الفضية. جالت في رأسي ضحكة سببها كلماتهم المتدفقة في بساطة ويسر دون انتظار أو طلب رد عليها، مقارنة بما يحدث في منزلنا خاصة على مائدة الطعام، حيث لكل كلمة سبب وهدف.
- أعطني عنق الدجاجة
التقطتْ العمة افيوما عنق الدجاجة من طبقها ومدت ذراعها لتضعه في طبق أماكا.
- متى تناولنا الدجاج آخر مرة؟
- توقفْ عن المضغ مثل الماعز، أوبيورا.
- يختلف مضغ الماعز عند اجترار الطعام عنه عند الأكل.. أي مضغ منهما تعنين؟
تطلعتُ ببصري لكي أرقب مضغ أوبيورا، وعندئذ سألتني العمة افيوما وهي ترمقني بنظرة مروعة
- كامبيلي، ألا يعجبك الطعام؟
خالجني شعور بأنني لست معهم، فقد كنت أرقب مائدة طعام يمكن لأي شخص حولها أن يقول أي شيء في أي وقت ولأي أحد، ويُسمح للجالس من حولها بأن يتنفس في حرية وكما يشاء.
- أنا أحب الأرز يا عمتي، شكراً لك
- أنت تحبين الأرز.. إذن تناولي المزيد من الأرز
سريعاً قالت أماكا:
- ربما الأرز ليس بنفس جودة الأرز الذي تتناوله في منزلها
- أماكا، اتركي ابنة عمك وشأنها
لم أنطق بشيء حتى الانتهاء من الغداء، لكنني استمعت إلى كل كلمة قيلت، وتتبعتُ كل ضحكة مجلجلة وكل مزحة ودعابة.. في معظم الوقت كان أبناء عمتي يتحدثون، وكانت عمتي افيوما تجلس مسندة ظهرها إلى ظهر المقعد وتتطلع إليهم وهم يتناولون طعامهم على مهل. كانت أشبه بمدرب فريق كرة قدم خارج الملعب يراقب أداءهم
بعد الغداء، سألتُ أماكا عن دورة المياه برغم علمي أن بابها يواجه حجرة النوم.. أثار سؤالي سخطها فأشارت بيدها في اتجاه الردهة متسائلة باستهجان "أين يمكن أن تكون دورة المياه في اعتقادك؟".
دورة المياه ضيقة جداً حتى أكاد ألمس بيدي حائطها إذا مددت ذراعي إلى آخرهما، وخالية من غطاء للأرضية ومن الغطاء المصنوع من الفرو الذي يكسو المقعد كما في دورة مياه منزلنا. أفرغت مثانتي وعند الضغط على يد خزانة الماء وجدتها فارغة. وقفتُ في الحيز الضيق لبضع دقائق قبل المغادرة متوجهة نحو العمة افيوما التي كانت تنظف موقد الكيروسين بقطعة اسفنج مبللة بماء الصابون، وعندما رأتني قالت مبتسمة
- سأستخدم اسطوانتي الغاز في المناسبات الخاصة حتى يطول زمن استخدامي لهما، ولذلك لا يمكنني الاستغناء عن موقد الكيروسين الآن
ما أردت التحدث بشأنه تراجع أمام حديثها عن اسطوانة الغاز وموقد الكيروسين، فانعقد لساني للحظات، وبينما أنا كذلك نمتْ إلى سمعي ضحكة أوبيورا قادمة من الشرفة
- عمتي، ليس هناك ماء في دورة المياه
- هل تبولت؟
- نعم
في الصباح فقط يأتي الماء إلى منزلنا، ولذلك لا نستخدم الماء عند التبول، ونستخدمه فقط عند الحاجة إلى إحداث تدفق للمياه، وفي بعض الأحيان عندما تنقطع المياه لبضعة أيام نقوم بصب دلو ماء واحد بعد استعمالنا جميعاً لدورة المياه حتى يكفينا ما قمنا بتخزينه من المياه.
أثناء حديث العمة افيوما الذي رسم علامات حزن واستياء على وجهها، أتت أماكا وتوجهت إلى الثلاجة وقالت:
- أنا متأكدة أنك في منزلك تقومين بالضغط على يد خزان ماء دورة المياه في كل وقت كما تشائين فيتدفق الكثير من الماء، ولكن هنا لا يمكننا أن نفعل ذلك
- أماكا، أنا لا أحب مثل هذا الكلام، وبهذه الطريقة
غمغمتْ أماكا بكلمات غير مفهومة أثناء قيامها بصب ماء بارد من زجاجة بلاستيك في كأس.
- آسفة
اقتربتُ أكثر من الحائط الذي حال لونه إلى الأسود بسبب دخان الكيروسين وأنا أود لو أمكنني الذوبان والاختفاء فيه.. أردت أن أعتذر لأماكا، لكنني لم أكن أعلم جيداً ما حقيقة الشيء الذي عليّ أن أعتذر عنه
- غداً سنصحب كامبيلي وجاجا في جولة لنريهم حرم الجامعة
- لا شيء هناك يشاهدانه، وسيشعران بالملل
دق جرس الهاتف في صوت صرير مرتفع لا يماثل الصوت الخافت المكتوم لهاتف منزلنا، فأسرعت العمة افيوما إلى حجرة نومها لتلتقط السماعة، وبعد لحظات، علا صوتها منادياً
- كامبيلي!.. جاجا!
كنت أعلم أنه بابا، لذلك انتظرتُ قدوم جاجا من الشرفة حتى يمكننا الذهاب معاً. عند اقترابنا من الهاتف، تراجع جاجا وأومأ لي بأن أتحدث أولاً.
- هالو، بابا، مساء الخير
- كيف حالك
- على مايرام، بابا
- المنزل خاو بدونكما
- ....
- أتحتاجين شيئاً؟
- لا.. بابا
- إذا احتجت أي شيء تحدثي إلي فوراً وأرسل لك كيفن.. سأتصل كل يوم.. لا تنسي المذاكرة والصلاة
- نعم، بابا
جال بخاطري أنه لا يعلم أنني تناولت الطعام بعد صلاة قصيرة جداً. بدا صوت ماما عند حديثها إليّ أعلى من صوتها الهامس المعتاد، وأرجعت ذلك إلى التحدث في الهاتف. أخبرتني أن سيسي قد نسيت تماماً أننا بعيدين وأعدت طعاماً لأربعة أفراد.
عند جلوسنا جاجا وأنا لتناول العشاء، سرحت بخاطري في بابا وماما جالسين وحدهما إلى مائدة العشاء الكبيرة. تناولنا بقايا الأرز والدجاج وأتينا على آخر زجاجة من زجاجات المياه الغازية التي قام أوبيورا بشرائها عند الظهر. فكرتُ في صناديق الكوكاكولا والفانتا والاسبرايت الممتلئة في خزانة المطبخ بمنزلنا. حدَّثتُ نفسي أنه إذا كان في استطاعة أماكا قراءة أفكاري فإن ذلك لن يسرها بالطبع. قلَّ الحديث والضحك أثناء تناول العشاء لأن أبناء العمة أخذوا أطباقهم إلى حجرة المعيشة لمشاهدة التليفزيون. جلس أوبيورا وأماكا على أرضية الحجرة، بينما استلقى تشيما بجسده على الأريكة مسنداً طبق البلاستيك على ركبتيه. وجلسنا جاجا وأنا إلى جانب العمة افيوما التي كانت تلقي نظرة على شاشة التليفزيون من وقت لآخر.
- لا أفهم لماذا يملؤون تليفزيوننا بمسلسلات درامية مكسيكية من الدرجة الثانية ويتجاهلون ما ينتجه فنانونا
قاطعتها أماكا:
- ماما، من فضلك، لا تلقي علينا محاضرتك الآن
قال أوبيورا وعيناه لا تفارقان شاشة التليفزيون:
- الأرخص لهم استيراد المسلسلات الميلودرامية من المكسيك
- جاجا، كامبيلي.. نحن دائماً نتلو الصلوات قبل النوم.. بالطبع يمكنكما أن تظلا مستيقظين بعد ذلك لمشاهدة التليفزيون أو لعمل أي شيء آخر.
تحرك جاجا من مقعده قبل أن يجذب جدوله من جيبه
- عمتي، ينص جدول بابا على ضرورة أن نستذكر دروسنا كل مساء، وقد أحضرنا كتبنا معنا
حدَّقتْ العمة افيوما في الورقة التي بيد جاجا، ثم بدأت تضحك وهي تتمايل بشدة وينحني جسدها الطويل مثل شجرة صنوبر ترسل صفيراً في يوم عاصف.
- ايوجين أعطاكما جدولاً تتبعونه وأنتما هنا؟.. ماذا يعني هذا؟
واصلتْ العمة افيوما ضحكها للحظات، ثم مدت يدها نحوي طالبة جدولي الذي أخرجته من جيب تنورتي وتناولته مني مطوياً إلى أربعة أجزاء.
- سأحتفظ بجدوليكما معي حتى وقت مغادرتكما
تمتم جاجا:
- عمتى
- إذا أنتما لم تخبرا ايوجين فكيف يتسنى له أن يعلم أنكما لم تلتزما بجدوليكما؟.. أنتما في أجارة هنا، وهذا منزلي، لذلك ستتبعان قواعدي
راقبتُ العمة افيوما أثناء توجهها إلى حجرتها ممسكة بالجدولين، وشعرت بجفاف في فمي ولساني. سألتْ أماكا وهي مستلقية على الأرض ومسندة رأسها على وسادة ووجهها إلى أعلى:
- لديكما جدول في المنزل تتبعانه كل يوم؟
أجاب جاجا:
- نعم
- أمر مثير.. الأثرياء لا يمكنهم أن يقرروا ماذا يفعلون يوماً بعد يوم ويحتاجون إلى جدول ليخبرهم بذلك!
- أماكا!
بينما كان أوبيورا يوجِّه نظرة قاسية إلى أماكا، عادت العمة افيوما ممسكة بكتاب صلوات كبير مزين ببعض الخرز وصليب معدني، وسرعان ما أغلق أوبيورا مفتاح تشغيل التليفزيون وغادر بصحبة أماكا لكي يحضر كلاهما كتابه من حجرة النوم. أخرجنا جاجا وأنا كتابينا من جيبينا، وجثونا جميعنا على أقدامنا، وبدأت العمة افيوما في تلاوة الصلوات، وبعد أن قلنا جميعاً "ليكن سلام لك يا مريم" أدرتُ رأسي بحركة مفاجئة على أثر سماعي أماكا تغني في صوت عال ورخيم وشجي..
انضمتْ العمة افيوما ثم أوبيورا إليها، وشكلت أصواتهم نسيجاً متجانساً، وعندئذ التقتْ عيناي بعيني جاجا الدامعتين. لا!. أخبرته بطرف عيني على نحو متكرر أنه ليس من الصواب أن نغني وسط الصلاة. وبينما لم نشاركهم جاجا وأنا الغناء، تابعتْ أماكا بين كل صلاة وأخرى الغناء بالاجبو وشاركتها العمة افيوما مرددة من أعماقها، كمغنية أوبرا، رجع صدى الصوت الجهير.
بعد انتهاء الصلوات، سألتْ العمة افيوما ما إذا كنا نعرف أيا من الأغنيات التي استمعنا إليها، وأجاب جاجا:
- نحن لا نغني في المنزل
- نحن نغني هنا
حدَّثتُ نفسي متسائلة عما إذا كان شيء من الضيق قد انتابها جعل حاجبيها يهبطان ويقتربان من عينيها. ذهبتْ إلى حجرة نومها بعد أن تمنت لنا مساءً طيباً، وضغط أوبيورا مفتاح تشغيل التليفزيون، وجلستُ أنا على الأريكة بجانب جاجا أشاهد التليفزيون وقد خالجني شعور بأن الذي يزور العمة افيوما ليس سوى شبحي بينما أنا الحقيقية تذاكر دروسها هناك في حجرة المنزل في انوجا حيث الجدول المعلق أعلى طاولة المذاكرة.
نهضتُ وذهبتُ إلى حجرة النوم استعداداً لدخول الفراش. وبرغم أن الجدول ليس بحوزتي إلا أنني كنت أعرف الوقت المحدد لي للنوم. غلبني النعاس وأنا أفكر في لحظة قدوم أماكا، وفيما إذا كانت ستقلب شفتيها في سخرية وهي تنظر إليّ أثناء نومي.
***