القاهرة 23 نوفمبر 2014 الساعة 11:18 ص
حافلة بالدروس للمصريين وخاصة شبابهم إعادة قراءة كتاب فجر الضمير، لعالم المصريات الأمريكى الرائد جيمس هنرى بريستيد، الذى قال عنه سليم حسن فى مقدمة ترجمته: إنه لو رزقنى الله علمه وطول خبرته- بدراسة أمم الشرق القديمة عامة ودراسة آثار مصر خاصةً- لما كان فى وسعى أن أدون خيراً من هذا الكتاب، وقد أتَّهم بمحاباة بلادي!! وليس فى قول عالمنا صاحب موسوعة مصر القديمة مبالغة، إذ يكشف فجر الضمير حقيقة أن المصريين القدماء قد شعروا بوازع الأخلاق قبل أى شعب آخر، وأن نشوء الأخلاق فى مصر كان أعظم اكتشاف فى تاريخ الإنسانية.
ومن فجر الضمير أسجل، أولا: أنه يحق للمصريين أن يفخروا بانتمائهم لمصر مبدعة الحضارة، حين يقرأون: أن المصريين الذين عاشوا فى عصر ما قبل التاريخ وأجدادهم كانوا أقدم مجتمع عظيم على الأرض استطاع أن يضمن لنفسه غذاءً ثابتاً باستئناس الموارد البرية من نبات وحيوان، على حين أن تغلبهم على المعادن فيما بعد وتقدمهم فى اختراع أقدم نظام كتابي، قد جعل فى أيديهم السيطرة على طريق التقدم الطويل نحو الحضارة. وأن اتحاد مصر الأول قبل نحو ستة آلاف عام، كان أول اندماج تألفت به أمة واحدة، وكان من نتيجته تأسيس حكومة مركزية قوية تعد أقدم نظام إنسانى معروف يضم عدة ملايين من الأنفس!! وأن اتحاد مصر الثانى قبل نحو خمسة آلاف وخمسمائة عام، بدأ معه تطور قومى فى شكل هائل فى نظام الحكم ونواحى الاقتصاد والاجتماع والدين والعمارة والفن والأدب أخذ يسير بخطى ثابتة مدة ألف سنة، وهذا العصر البالغ ألف سنة كان مرحلة فريدة من حياة الإنسان على الأرض؛ لأنه لم يكن فى هذا العصر البعيد نمو مطرد متعاقب فى أى بقعة أخرى من بقاع العالم القديم. وهذان الاتحادان اللذان يعدان أقدم ما عرف من الأنظمة القومية العظيمة فى تاريخ الإنسان. ولم يكن للمصريين أجداد متحضرون يرثون منهم أية ثقافة، ومن يعرف قصة تحول صيادى عصر ما قبل التاريخ فى غابات النيل بمصر إلى ملوك ورجال سياسة وعمارة ومهندسين وصناع وحكماء وأنبياء اجتماعيين فى جماعة منظمة عظيمة مشيدين تلك العجائب على ضفاف النيل فى وقت كانت أوروبا لا تزال تعيش فى همجية العصر الحجري، ولم يكن فيها من يعلمها مدنية الماضي.. من يعرف كل هذا يعرف قصة ظهور أول مدنية على وجه الكرة تحمل فى ثناياها صوراً خُلُقية ذات بال!!
ومن فجر الضمير أسجل، ثانيا، أنه يحق للمصريين أن يفخروا بانتمائهم لمصر مكتشفة الضمير، حين يقرأون: أن أقدم بحث عرف عن الحق والباطل فى تاريخ الإنسان عثر عليه فى ثنايا مسرحية تشيد بعظمة مدينة منف وسيادتها، فسميت بالمسرحية المنفية، ويرجع تاريخها إلى منتصف الألف الرابع ق. م. وفى هذه المرحلة السحيقة من التقدم البشرى أخذ الإنسان يدرك أن بعض السلوك ممدوح، وبعضه مذموم، وأن كل إنسان يعامل بحسب ذلك. وفى هذين التعبيرين (المحبوب والمذموم) نجد أقدم برهان عرف على مقدرة الإنسان على التمييز بين الخلق الحسن والخلق السيئ لأنهما ذكرا هنا لأول مرة فى تاريخ البشر. وتحتوى متون الأهرام على أدلة قاطعة لا تقبل الشك على أن طلبات العدالة والحق كانت قوتهما أقوى من سلطان الملك نفسه. وقد ظهرت أقدم فكرة عن النظام الخُلُقى تجرى على قواعد راسخة فى عهد الاتحاد الثاني، وكان يعبر عنه بكلمة مصرية قديمة واحدة جامعة هى ماعت، ويراد بها الحق أو العدالة أو الصدق. وقد مكث هذا النظام راسخاً مدة ألف سنة- من القرن الخامس والثلاثين إلى القرن الخامس والعشرين ق. م. فلما سقط ومعه الدولة القديمة حلت الكارثة؛ إذ أصبحت الأخلاق منبوذة، وتدهورت الفضيلة «ماعت»، وظهر المجتمع الفاسد الأخلاق المنحل بشكل لا أمل فى إصلاحه، وظهر لأول مرة فى التاريخ عصر التشاؤم وزوال الوهم. وقد رسم بعض الحكماء المصريين فى ذلك العهد صورة بشعة عما كان موجوداً فى الفساد والفوضي. ولكن بقى نفر من هؤلاء لم يفقد الأمل فى الإصلاح، فقاموا بأول جهاد مقدس لإنقاذ العدالة الاجتماعية حتى أشرقت شمسها مجددا مع الدولة الوسطي.
ومن فجر الضمير أسجل، ثالثا، أنه يحق للمصريين أن يفخروا بانتمائهم لمصر منبع الحكمة، حين يقرأون: أن حِكَم بتاح حتب تمدنا بأقدم نصوص موجودة فى أدب العالم كله للتعبير عن السلوك المستقيم للحكام. فيقول لابنه الذى يساعده بموافقة الملك ليخلفه وزيرا: لا تكونن متكبراً بسبب معرفتك، فشاور الجاهل والعاقل لأن نهاية العلم لا يمكن الوصول إليها.. وإذا أصبحت عظيماً بعد أن كنت صغير القدر وصرت صاحب ثروة بعد أن كنت محتاجاً فلا تنسين كيف كانت حالك فى الزمن الماضى فإنك لست بأفضل من غيرك.. وإذا كنت حاكماً فكن شفيقاً حينما تسمع كلام المتظلم.. إن الحق جميل وقيمته خالدة، وقد تذهب المصائب بالثروة لكن الحق لا يذهب بل يمكث ويبقي.. وإن الرجل الذى اتخذ العدالة معياراً له يكون ثابت المكانة.. وارعَ الحق وعامل الجميع بعدالة. وأن يتعلق بأهداب الصدق (أو الحق) ويبلغ رئيسه الحقائق حتى ولو كانت مُرّة. ونجد ملكا لأهناسية يكتب رسالة لابنه مريكارع يقول: أعلِ من شأن الجيل الجديد.. وضاعف الأجيال الجديدة من أتباعك.. إن مدينتك ملأى بالشباب المدرب فى سن العشرين. وإياك أن ترفع من شأن ابن العظيم على ابن الوضيع، بل اتخذ لنفسك الرجل من أجل كفايته.. إن فضيلة الرجل المستقيم أحب عند الإله من قربان الرجل الظالم. أقم العدل لتوطد به مكانتك فوق الأرض.. إن فضيلة الرجل أثره الباقى وصاحب السمعة الرديئة يصير نسياً منسياً. وللمقال بقية.