القاهرة 20 نوفمبر 2014 الساعة 02:54 م
أحضر كيفن في اليوم التالي أسطوانتين مملوءتين بالغاز من مصنع بابا ووضعهما في حقيبة السيارة الفولفو إلى جوار أجولة الأرز والفاصوليا والبطاطا وثمار الأناناس.. وإلى جوار شجيرات الكركديه الأرجوانية، وقفنا جاجا وأنا ننتظر ونحن نرقب البستاني وهو يشذب أغصان الشجر ويجمع الأوراق الصفراء والزهور الذابلة داخل عربة صغيرة لجمع العشب.
- هذا جدول ينظم ساعات الأيام التي ستمضيانها في نسوكا
وضع بابا في يدي ورقة بيضاء تشبه الجدول الملصق بأعلى طاولة مذكراتي في الطابق العلوي، ما عدا إضافة ساعتين لقضائهما مع أبناء العمة كل يوم.
- اليوم الوحيد الذي لن تلتزما فيه بالجدول هو يوم ذهابكما إلى أوكبي مع عمتكما
عانق جاجا ثم عانقني، وكانت يداه ترتعشان
- لم يحدث أن ابتعدتما عني من قبل إلا ليوم واحد فقط
لم أعرف ما يتعين عليّ قوله رداً على ما قال، لكن جاجا هز رأسه وقال:
- سنراك قبل مرور أسبوع
وجه حديثه نحو السائق ونحن نركب السيارة:
- كيفن، قُد السيارة بعناية.. هل تفهم ما أقول؟
- نعم يا سيدي
- زوِّد السيارة بالوقود أثناء عودتك ولا تنسى إحضار الفاتورة
- نعم يا سيدي
طلب بابا أن ننزل من السيارة، وعانق كل منا ثانية، وأكد علينا ألا ننسى ترديد الصلاة طوال الطريق، ثم عانقنا للمرة الثالثة قبل عودتنا إلى السيارة، وعندما اتجه كيفن إلى الشارع الرئيسي، قال جاجا وهو ينظر إلى المرآة الخلفية للسيارة:
- لايزال بابا يلوح لنا بيده
- إنه يبكي
- البستاني يلوح لنا كذلك
جذبتُ كتاب الصلوات من جيبي وقبَّلتُ رسم الصليب وبدأت في ترديد الصلوات.
عبْر زجاج السيارة، وعلى جانبي الطريق وجدتني أحصي هياكل عتيقة سوداء لعدد من السيارات الواحدة بعد الأخرى، بعضها مضى عليه وقت طويل حتى غطاها صدأ ضارب إلى الحمرة. جال بخاطري أولئك الناس الذين كانوا بداخل هذه السيارات، وكيف كان شعورهم قبل وقوع الحادث وتهشم زجاج السيارة وتحطم جسمها واضطرام النار فيه. لم أركز تفكيري في الصلوات التي أرددها، كذلك جاجا كان ينسى باستمرار دوره في قراءة الصلوات.بعد أربعين دقيقة تقريباً من قيادة السيارة، رأيت لافتة على جانب الطريق كتب عليها "جامعة نيجيريا.. نسوكا"، وسألتُ كيفن إذا كنا قد اقتربنا من وجهتنا فأجابني "بعد عدة دقائق أخرى".
بالقرب من مدينة أوبي حيث يغطي الغبار كنيستها ولافتة مدرستها، توقفتْ السيارة أمام حاجز للشرطة تتناثر من حوله إطارات قديمة وقوائم خشبية من جذوع الأشجار مزودة برؤوس مسامير كبيرة تشغل معظم الطريق، تاركة مساحة ضيقة خالية. أشار شرطي لسيارتنا بالاقتراب، فهمهم كيفن مستنكراً، ثم أثناء قيامه بتخفيض سرعة المحرك، مد يده إلى علبة في لوحة أجهزة قياس السيارة وأخرج منها ورقة مالية من فئة 10 نايرا ودفع بها في اتجاه الشرطي الذي ابتسم ورحب متهكماً ولوح لنا بمواصلة السير. ما فعله كيفن لم يكن في استطاعته فعله لو كان معنا بالسيارة بابا الذي عندما يستوقفه رجال شرطة المرور ينفق وقتاً طويلاً في عرض كل أوراق السيارة عليهم ويدعهم يفحصون السيارة ولا يحاول أبداً رشوتهم حتى يدعونه يمر، وبعدئذ يقول أننا لا يمكن أن نصبح جزءاً من الشيء الذي نقاومه، وهو القول الذي يكرره علينا دائماً.
- ندخل الآن مدينة نسوكا
مررنا بالسوق المزدحم بالمتاجر المصطفة على جانبي الطريق بأرفف بضائعها المتناثرة التي تهدد بالسقوط على شريط نحيل من الطريق مكدس بسيارات متوقفة، وباعة متجولين يحملون طاولات بضائعهم فوق رؤوسهم، ودراجات بخارية، وصبية يدفعون أمامهم عربات يد صغيرة محملة بالبطاطا، ونساء يحملن السلال، وشحاذين.
ببطء يقود كيفن السيارة متفادياً الحفر التي تبرز فجأة وسط الطريق وهو يتبع حركة مسار السيارات التي أمامنا. وعندما تركنا السوق من خلفنا ووصلنا إلى نقطة يضيق فيها الطريق ويتآكل من الجانبين، أوقف كيفن السيارة لفترة تاركاً الفرصة لمرور سيارات أخرى قادمة من الاتجاه المعاكس.
- نحن إلى جوار الجامعة أخيراً
قوس حجري عريض ضخم نَمُرُّ من تحته، يحمل لافتة عليها كلمات بحروف سوداء من المعدن "جامعة نيجيريا.. نسوكا"، وأسفل القو
س بوابات واسعة مفتوحة يحرسها رجال أمن في زي بني قاتم وعلى رؤوسهم قلنسوات بدرجة من درجات اللون البني. أوقف كيفن السيارة وأنزل زجاجها
- مساء الخير.. من فضلك، أي طريق يوصلنا إلى مارجريت كارترايت افينيو؟
اقترب منا رجل الأمن بوجهه المتغضن محيياً قبل أن يخبر كيفن أن مارجريت كارترايت افينيو قريب جداً، ويتعين علينا أن نسير إلى الأمام للحظات ثم نعرج يميناً عند أول تقاطع وسرعان ما نجده إلى اليسار. شكره كيفن ثم تابعنا سيرنا في الطريق الذي تمتد على جانبيه مرجة خضراء بلون أوراق نبات السبانخ في وسطها تمثال أسود اللون لأسد يقف على قدميه الأماميتين وذيله إلى أعلى وصدره منتفخ. لم أكن أدرك أن جاجا ينظر مثلي من النافذة حتى قرأ بصوت عال كلمات محفورة على قاعدة التمثال "حافظوا على شرف الإنسان"، وأضاف "إنه شعار الجامعة".
شارع مارجريت كارترايت افينيو تحده من الجانبين أشجار جميلينا بجذوعها الطويلة المستقيمة الكثيفة.. جال بخاطري أنه عند حلول فصل هطول الأمطار المصحوب بهزيم الرعد ستنحني الأغصان الكثيفة من الجانبين نحو الشارع إلى أن تلمس بعضها
البعض، وعندئذ يتحول الشارع إلى نفق مظلم.. منازل صغيرة من طابقين بينها وبين الطريق العام طريق خاص مفروش بالحصى وعليه لافتات تحذر من الكلاب.. ثم منازل ريفية من طابق واحد لها طريق خاص بطول سيارتين، ومجمعات سكنية مكونة من عدة طوابق، بكل طابق مجموعة من الشقق، وأمام هذه المجمعات مساحات فضاء عامة بدلاً من الطرق الخاصة.
خفَّضَ كيفن من سرعة المحرك مغمغماً برقم منزل العمة افيوما، الأمر الذي جعلنا نشعر بأننا على وشك الوصول.. مبنى لونه أزرق شاحب يتكون من ثلاث شقق بكل طابق، وفي شقة بالدور الأرضي إلى اليسار، بشرفتها هوائي جهاز تليفزيون، تقطن العمة افيوما.. أمام الشقة حديقة صغيرة ألوانها زاهية مسوّرة بسلك شائك، ينمو فيها شجر الورد وأشجار الكركديه الأرجوانية وزهور السوسن، جنباً إلى جنب كإكليل زهر.
خرجتْ العمة افيوما من شقتها في بنطلون قصير وتي شيرت وهي تفرَّك يديها أمام صدرها، وقد بدا جلد ركبتيها داكناً جداً.
- جاجا!.. كامبيلي!
كانت قد انتظرت على مضض نزولنا من السيارة قبل أن تعانقنا بقوة وتضمنا إليها بذراعيها الممدودتين على آخرهما.. حياها كيفن ثم استدار ليفتح حقيبة السيارة، وعندما نظرتْ داخلها أطلقت صيحة.
- حسناً!.. حسناً!.. هل يعتقد ايوجين أننا جوعى إلى هذا الحد؟
قال كيفن مبتسماً:
- هذه تحية سيدي لك
- وأسطوانة غاز أيضاً؟.. ما كان لوالدتكما أن تتعب نفسها كثيراً
فجأة أدتْ العمة افيوما رقصة صغيرة محركة ذراعيها كحركة مجدافين، ملقية ساقيها الواحدة بعد الأخرى إلى الأمام، ضاربة الأرض بقدميها بقوة.. فرَّك كيفن يديه معاً في سرور وعلامات الدهشة ترتسم على وجهه، وأخرج أسطوانة الغاز من حقيبة السيارة، وساعده جاجا على حملها لإدخالها الشقة.
- سيرجعون سريعاً، فقد ذهبوا للتهنئة بعيد ميلاد الأب أمادي، صديقنا الذي يعمل في الأبرشية، وأنا أقوم بطهي الدجاج لكما
ضحكتْ العمة افيوما وجذبتني إلى جسدها، فشممتُ رائحة جوز الطيب.. وسأل كيفن:
- أين أضع هذه الأشياء؟
- اتركها في الشرفة حتى تضعها أماكا ومعها أوبيورا في المطبخ بعد ذلك
ظلت العمة افيوما تمسك بي أثناء دخولنا حجرة المعيشة، وأنا ألحظ كم هو منخفض سقف الشقة عن الأسقف العالية لمنزلنا، حتى شعرتُ أن بمقدوري مد ذراعي ولمسه.. وإلى أنفي تسللت من المطبخ رائحة دخان الكيروسين ممتزجة بروائح الكاري وجوز الطيب.
اندفعتْ العمة افيوما إلى المطبخ لكي تنزل إناء الأرز من فوق النار قبل أن يحترق، بينما جلستُ أنا على الأريكة البنية الوحيدة في ح
جرة المعيشة بوسائدها التي انسلتْ خيوط نسيجها وتهرأت عند الأجزاء المخيطة. إلى جانب الأريكة مقاعد من الخيزران عليها وسائد بنية تتوسطها طاولة من الخيزران أيضاً تعلوها زهرية بها ثلاث زهور حمراء من البلاستيك وعلى جدارها رسومات لنساء يرقصن مرتديات لباس الكيمونو الياباني. خرجتْ العمة افيوما من المطبخ وقالت:
- لا تعتبري نفسك ضيفة هنا.. تعالي معي
تبعتها إلى رواق به صف من أرفف الكتب تكاد ألواحه الخشبية الرمادية المتهالكة لا تتحمل كتاباً واحداً إضافياً.
- هذه حجرتي، ينام معي تشيما
فتحتْ العمة افيوما الباب فرأيت بالقرب منه حقائب أرز وعلب حليب مجففة مكدسة إلى جانب الحائط، وفي أحد الأركان طاولة خشبية عليها مصباح للقراءة وزجاجات دواء وكتب، وفي الركن المقابل حقائب ملابس مكومة بعضها فوق بعض. سبقتني بخطوات لتريني حجرة أخرى بها سريران وتسريحة وطاولة مذاكرة ومقعد.