القاهرة 19 نوفمبر 2014 الساعة 02:44 م
" الإسلامجية " .. وأمريكا !!
الإعتراف الأمريكي بالإخوان المسلمين لم يكن قبولا بحق لهم
ولا تقديرا تجلت دواعيه فجأة أمام المعترفين ، ولكنه جاء قبولا
بالرهان على قوى التيار الإسلامي المتعطشة لوهم السلطة وكان
الرهان قائما على دراسات وتقارير سبقت الربيع العربي بسنوات
( 8 ديسمبر 2012 )
كيف ولماذا صعد التيار الإسلامي ، وتتصدر مقدمته جماعة الإخوان المسلمين ، إلى قمم الهرم السياسي بعد أحداث ما أطلق عليه الربيع العربي ، والذي بدا بدوره وكأنه عالم مفتوح لكل شيء .. رغم أن الثورات والإنتفاضات الشعبية العربية ، لم تكن مرجعيتها إسلامية ، ولم تتحرك تحت إعلام الإسلاميين ، ولا حتى استجابة لشعاراتهم ؟! وكيف ولماذا ، اختلفت الأمور من الشيء إلى نقيض الشيء ، في علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بقوى التيار الإسلامي بمقدمته الإخوانية ، ورفعت حظرا سياسيا كانت تفرضه عليهم ؟! وتختلف الأمور بالطبع حين ترتبط باستراتيجيات عليا ، وبنظريات أمن ومصالح ومواقف ، إلى آخره !! ولكن هناك مظاهر للأشياء عندما تحدث أمامنا ، يجب أن ندرك أن وراءها شيء ، وعموما لا أحد يخفي نواياه ، فهناك ترتيبات تجرى ولا تشغل تفكيرنا ، أو نحن غير قادرين على فهمها ، وهذه الترتيبات هي مجرد أشكال خارجية لأوضاع أعمق كثيرا من السطح .. وهناك إحتمالات معلقة بظنون مسبقة .. ولنبدأ من الواقع ، وهو وحده نقطة البداية الصحيحة لأي استشكاف بعده :
• في عام 1986 تكشفت معالم استراتيجية أمريكية محورها التنسيق مع الحركات الدينية كإجراء وقائي ضد الشيوعية ، وقد أدار الرئيس الأمريكي الأسبق " رونالد ريغان " هذه السياسة التي مهد لها الرئيس الأمريكي " جيمي كارتر " والذي وضع بمعاونة مستشاره للأمن القومي "برجنسكي " ، إستراتيجية تقوم على الاستفادة من الإنفجارات الدينية ، مهما كان نوعها في العالم الثالث ودول أوروبا الشرقية ، لمواجهة المدّ الشيوعي ، وضمن تلك الاستراتيجية ، ترك شاه إيران يسقط ، وشجعت واشنطن البابا يوحنا الثاني للوصول إلى كرسي البابوية ، وتجلت الإستراتيجية الأمريكية في نشاط حركة " تضامن " البولونية ضد حكم " ياروزلسكي " .. وفعلت الإستراتيجية الأمريكية فعلها ، في بلاد مثل الفلبين ، وهاييتي ، والسلفادور ، وغواتيمالا ، ولعبت الكنيسة دورا مباشرا في عملية تطهير وتكنيس مناطق النفوذ الأمريكي من الرؤساء الديكتاتوريين ، وتشجيع قيام جبهة ديمقراطية وفقا لرؤية السياسة الأمريكية !!
• وكان درس أفغانستان موحيا ، فقد جرى تعاون بين الولايات المتحدة وبين التيار الإسلامي بجبهته العريضة ، وكل منهما له أسبابه في الجهاد ضد الألحاد الشيوعي في أفغانستان !! وخلق التعاون العملي بينهما نوعا من معاودة التفكير السياسي لتوظيف الإسلاميين في مهام أخرى ، وحتى إنقلب السحر على الساحر ، بانفلات مجموعة المجاهدين العرب ، بعيدا عن الرعاية والوصاية الأمريكية ، وتم تأسيس تنظيم القاعدة .. وكانت إسرائيل بدورها ترى ــ وفقا للدراسات الصادرة عن مراكز أبحاث قريبة من المؤسسة العسكرية ــ أن من مخاطر " القاعدة " أنها تمثل صداعا مزمنا للأمن الأمريكي ، وفي نفس الوقت ساهمت في ترسيخ مفهوم الإرهاب الإسلامي ، وأن هذه " نقطة إيجابية " لا يجب إغفال دورها وتأثيرها !!
• ومع إتجاه الولايات المتحدة الأمريكية إلى إغراق المنطقة في بحر من الخلافات المذهبية "إسلامية ـ إسلامية " أي بين السنة والشيعة ، فإنها كانت بحاجة إلى سند سني يشارك معها بإسم السنة في التصدي لإيران الشيعية ، وبالفعل فإن هذه المهمة عهد بها في البداية إلى حلف مصري سعودي ، ولكن هذا الحلف لم يستطع أن يمضي في المعركة بنجاح ، ولذلك جرى البحث عن شريك آخر أكثر فاعلية ، وأكثر تنظيما ، وأكثر مصداقية بالنسبة للبسطاء من غالبية الشارع العربي ، وبالطبع لم يكن بعيدا عن هذا التوجه ، أن رفعت الولايات المتحدة حظرا سياسيا كانت تفرضه على الإخوان المسلمين ، في سنوات المعركة ضد الإرهاب الإسلامي !! والاعتراف الأمريكي بالإخوان المسلمين ، لم يجئ قبولا بحق لهم ، ولا تقديرا تجلت دواعيه فجأة أمام المعترفين ، ولكنه جاء قبولا ــ ولو جزئيا ــ بنصيحة عدد من المستشرقين ، بينهم " برنارد لويس" بأن يبستكمل عزل إيران في العالم العربي والإسلامي بالفتنة المذهبية ، وتغيير طبيعة الصراع الرئيسي في المنطقة من كونه " عربيا ـ إسرائيليا "، حتى يصبح " عربيا ـ فارسيا " وبالاعتماد على تجمعات جماهير من السنة تواجه تجمعات جماهير من الشيعة ، وبالتالي تصبح المواجهة مع إيران مزدوجة التأثير ، مواجهة على مستوى دولة ودولة ، ومواجهة على مستوى الجماهير ، بين سنة وشيعة !! وبهذا القصد طرأت مسألة الاعتراف الأمريكي بالإخوان المسلمين ، وباعتباره تنظيما سنيا نشطا ، وأنه من المفيد أن يكون لـ " الإخوان السنة " دور على مستوى الشارع العربي في مواجهة مع الشيعة في قلبه !!
• وفوق ما تقدم كله .. كان هاجس الولايات المتحدة الأمريكية ، وعبر عنه بوضوح وعمق وزير الخارجية الأمريكية الأسبق " هنري كيسنجر " وكان هناك غيره أيضا من رأوا خطورة فكرة "تيار القومية العربية " والحركة التاريخية لهذا التيار ، وتجسيدها في مصر ، وقد حاول من سبق " كيسنجر " إلى رؤية هذا الخطر ، أن يعزلوا الفكرة ، ويعترضوا التيار والحركة !! وحتى بعد أن نجح " كيسنجر " في عزل مصر عن الفكرة والتيار القومي ، فإن الهاجس بقى قائما ، وأن الحل هو ضرب التيار القومي العربي من الداخل ، من الذين يرون أن القومية العربية تتعارض مع عقيدة الأمة الإسلامية ، وأن من صاغوا تعبير القومية العربية كان هدفهم ضرب وحدة أمة الإسلام .. وأن التيار الإسلامي كفيل بالتصدي للفكرة والتيار !!
• ووفقا للاستراتيجية الأمريكية ــ 1986 ــ التي أدارها " ريغان " ووضعها قبله الرئيس الأمريكي الأسبق " كارتر " بالاستفادة من الإنفجارات الدينية مهما كان نوعها ، فقد كان المدّ الإسلامي هو الوجه الآخر لعملية الإنحسار العربي القومي ، وأن يتقدم العنصر الديني لكي يحل محل التراجع القومي !! والحاصل أن الولايات المتحدة تحركت وقبل أن يفلت " المدّ الإسلامي " من يدها ، أو أن يخرج من تحت أعينها ، ومن دائرة الرصد والمتابعة .. وهكذا كان الاختراق بوسائل الاتصال المباشر وغير المباشر ، أمرا طبيعيا ومتوقعا ، بل ومشروعا ضمن استراتيجية التنسيق مع الحركات الدينية ، كما جاء وصفها في الاستراتيجية الأمريكية !!
وقد يبدو الأمر متلبسا ــ أمام البعض ــ شأن غيره من الأمور في الوقت الجاري ، وحيث تشير الشواهد إلى التقارب الأمريكي باتجاه التيار الإسلامي السياسي .. الاعتراف والدعم والمساندة .. ومن ليبيا إلى مصر وتونس ، وحتى ما يجري في سوريا الآن !! وقد بدت ملامح عصر مختلف ، لاحت بوادره فعلا من خلال ضباب زادت كثافته ، والظروف كلها في حالة سيولة .. ويبدو أيضا أنه ليست فقط المآسى الأغريقية هي التي كانت أشبه بأقدارا لا ترد .. ولكن المخططات الأمريكية أيضا !!
وعلينا أن نعترف صراحة ، بأن الرهان الأمريكي على " الإسلامجية " من عناصر التيار الإسلامي ، لم يكن خاسرا في يوم من الأيام ، وعلى مدى ستة عقود ، ولم يكن إستخدامهم أو توظيفهم خائبا ، ولم تكن تقديرات أو تقييمات الدراسات الأمريكية " عشوائية " بل أن كل السطور التي رسمتها ، يسير عليها "الإسلامجية " كما هو محدد تماما ، وكانت المخططات والسيناريوهات الأمريكية يتم تحديدها ، ويتم الكشف عنها أحيانا كثيرة ، وتتناول ما هو مقدر في السنوات القادمة ، ولا أحد يقاوم ، او حتى يتحفظ وكأنها أقدارا لا ترد !! وقد تحققت مثلا رؤية المخطط الذي رسمه المستشرق الأشهر " برنارد لويس " بأن يعاد بعث مآسي الإسلام السابقة في خدمة مصالح غير إسلامية ، بالفتنة المذهبية بين السنة والشيعة ، وأن البعث للفتنة يحول الأنظار عن أي تهديد لإسرائيل أو المصالح الأمريكية في المنطقة ، وأن إشعال حرب أهلية إسلامية سوف تمزق العرب والمسلمين مرة ومرات ، أي استعادة المآسي الإسلامية مرة أخرى !! وليس بعيدا عن التوجه الأمريكي ، فقد أعلنت قوى التيار السياسي الإسلامي في مصر ، الجهاد في سورية ، وأعلنت " السلفية الجهادية " الحرب على حكومات " الشيعة " وأفتت بضرورة حمل القادرين على السلاح ، للتوجه إلى الجهاد في سوريا ، وأفتت أيضا بتكفير نظام بشار الأسد والجيش السوري ، وأن جمع المال والسلاح للجهاد في سوريا ( وليست فلسطين بالطبع ) هو عبادة من عبادات الله !! رغم أن الجهاد الحقيقي ، كما نعرفه من الفقه الإسلامي الصحيح ، هو على بعد خطوات ، حيث المسجد الأقصى الشريف ، ثالث الحرمين ، ومسرى رسول الله ، اسيرا تحت الاحتلال الإسرائيلي ، يعبث به وبالمقدسات الإسلامية التي تواجه شبح الإنهيار ، وحيث أرض عربية ( إسلامية ) مغتصبة ، وحيث المعتقلين والأسرى "المسلمين " أيضا بالآلاف ، وحيث " العدو " يرسخ عقيدة الدولة اليهودية !! ولكنهم يحددون الجهاد بمفهوم " الإسلامجية " أي جهاد يراعي المصالح والأهداف السياسية ، ويراعي أولا عدم الإحتكاك بأمريكا ، أوالإخلال بالتفاهمات السابقة ، أو إثارة غضبها عليهم !!
وأتصور أن العالم العربي ــ الإقليم بأسره ــ عليه أن يستعد من الآن لمواجهة طوفان من الأمواج العاتية التي من المقدر لها أن تكتسح في طريقها ما كان قائما ( أنظمة حكم ، وحدود ، وحتى وحدة النسيج الاجتماعي الداخلي ) وهي مرحلة قد بدأت بالفعل تعيش تفاعلاتها وتقلصاتها ، وهي حتما سائرة ، أو صائرة ، إلى شيء آخر ، لاحت بوداره من خلال ضباب زادت كثافته مع حركة التوظيف الأمريكي للإسلاميين !! وربما لم يتصور أحد أن تبدأ هذه المرحلة بعد الثورات الشعبية في تونس ومصر ــ تحديدا ــ ثم في ليبيا بدعم صريح ودموي من حلف الناتو ، وصحيح أن الإشارات والعلامات كانت في بدايتها بفعل الشعب الليبي ، ولكن قوى الداخل لم تكن تستطيع وحدها القيام بالثورة التي تحتاج إلى فترة نضج ، ولكن الثورة تواصلت بالطيران الأمريكي ، وأسراب صواريخ " الكروز " ، والطيران والقوات الخاصة البريطانية ، والأسطول والقوات الفرنسية ، والمخابرات من كل طرف ، وحتى تمكّن حلف الناتو من فتح الطريق إلى نهايته !! وفي اليمن تم " لملمة " الثورة بصورة أو بأخرى ، وحتى ساد إنطباع بحالة من الإذعان لما حدث بعد إحتواء الثورة بالتصوير البطئ ، وبمراعاة الخلفية الخليجية لساحة الثورة اليمنية ، والطبيعة الجغرافية والقبلية وبؤر تنظيم القاعدة في اليمن !! وفي سورية لاتزال الولادة متعثرة للحالة التي يريدونها بعد " هبة درعا " في 17 مارس 2011 ، وفي جميع الحالات العربية تداخلت الحدود بين العمل الثوري والفعل الفوضوي !!
.....
.....
والحاصل أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن بعيدة عن ملعب الأحداث ، ووفقا لكبار المسئولين في الإدارة الأمريكية ، فإنه بنهاية الــ 18 يوما الأولى من الثورة المصرية ، عقد مسئولو البيت الأبيض مع الرئيس " أوباما " 38 اجتماعا عن مصر .. وقال لهم في بداية الاجتماع الأول : إن هذه فرصة لخلق بديل لتنظيم القاعدة !! ويرى الكاتب الصحافي الأمريكي " مارك لاندلر " بصحيفة نيويورك تايمز ، أن " أوباما " كان يقصد القول بأننا سندعم حكاما إسلاميين " معتدلين " ، بالرغم من أنهم مختلفون عنا !! ثم نشرت صحيفة " واشنطن بوست " في شهر مارس 2011 تقريرا نقلت فيه عن مسئول أمني كبير قوله : أن الإدارة الأمريكية تتخذ خطوات بالفعل للتمييز بين الحركات التي تدعو لتطبيق الشريعة الإسلامية في المنطقة ، وأنه بأمر من البيت الأبيض تم إعداد تقييم للإختلافات الأيديولوجية الكبيرة بين الحركات الإسلامية في الشرق الأوسط ، ومنها المقارنة بين جماعة الإخوان وتنظيم القاعدة !! وهناك من يرى ــ من المقربين من دوائر صنع القرار الأمريكي ــ أن الولايات المتحدة بادرت بالرهان على قوى التيار الإسلامي المعتدل والمتعطشة لوهم السلطة ، وأن الرهان كان قائما على دراسات وتقارير سبقت الربيع العربي بسنوات ، وأن أمام أمريكا فرصة للتدخل والدعم والتغطية السياسية للإسلاميين "جماعة الإخوان تحديدا " وطالما لا يتجاوزوا ما يتم الإتفاق عليه ، وما هو مقدر لهم ، ولدورهم !!
وإذا كانت واشنطن قد وجدت في " الإسلامجية " أو رجال الإسلام السياسي ، شريكا مريحا خلال مرحلة من مراحل بناء الإمبراطورية الأمريكية في الشرق الأوسط ، فإن الرهان كان قائما على الإسلامين " المعتدلين " الذين لا يرفعون السلاح ضدها ، وهي تدرك تماما أن هؤلاء طوال عمرهم لديهم الإقبال والنهم على السلطة ، ويعتقدون أن هذا حق أصيل ومقدس ومنبثق من مرجعية الإسلام أو الدين ، وأن التشوق للسلطة يدفعهم للتحالف معها من أجل الوصول للحكم !!