القاهرة 19 نوفمبر 2014 الساعة 02:21 م
في اليوم التالي الأحد، الذي لم يكن يشبه يوم أحد عادي، جاءت ماما إلى حجرتي وهزّتني برقة وعانقتني، فشممت رائحة مزيل العرق بنكهة النعناع الذي تستعمله.
- هل نمت جيداً؟.. نحن ذاهبون إلى القداس المبكر اليوم، لأن والدك مرتبط باجتماع بعده مباشرة.. هيا إلى الحمام، فالساعة الآن تجاوزت السابعة
أظهرتُ قليلاً من الاستياء ونهضت واقفة لأكتشف وجود بقعة حمراء واضحة على السرير.
- دورتك الشهرية؟
- نعم
سريعاً تركتُ الماء يغمر جسدي قبل أن أخرج من تحت الدش حتى لا أتأخر، والتقطتُ ردائي الأزرق ولففت وشاحاً حول رأسي وعقدته مرتين عند رقبتي من الخلف. كان بابا قد عانقني بفخر لأن الأب بينيديكت أخبره أن شعري يكون مغطى دائماً أثناء القداس، وانني لست مثل الفتيات الشابات الأخريات في الكنيسة اللاتي يدعن شعرهن ظاهراً وكأنهن لم يعلمن أن إظهار شعرهن في الكنيسة من الأمور الآثمة.
ارتدى جاجا وكذلك ماما ملابسهما وانتظرا في حجرة المعيشة بالطابق العلوي حتى أخرج إليهما. كنت أشعر بألم شديد في أسفل البطن من الأمام أشبه بضربات منتظمة في جدار المعدة.
- هل لديك قرص بنادول، ماما؟
- ألم أسفل البطن؟
- نعم، ومعدتي فارغة أيضاً
نظرتْ ماما إلى ساعة الحائط البيضاوية الشكل المنقوش عليها اسم بابا بحروف مطلية بماء الذهب، والتي أُهديت إليه من قبل جمعية خيرية نظير تبرعاته. أشارت الساعة إلى 7.37 صباحاً. ولأن المتعارف عليه كنسياً الامتناع عن تناول طعام صلب قبل موعد القداس بساعة، فقد اقتصر الإفطار على الشاي وقليل من الحبوب.
- تناولي بسرعة قليلاً من رقائق الذرة بالحليب.. أنت تحتاجين شيئاً في معدتك حتى يمكنك ابتلاع قرص البنادول
قالت ماما بصوت هامس، ثم أسرع جاجا بصب رقائق الذرة في طبق زجاجي مجوف وسكب الحليب الجاف والسكر وأضاف الماء، وقلَّب المزيج بملقعة شاي.
- سنسمع خطوات بابا صاعداً الدرج بعد مغادرة الضيوف
وأنا واقفة ألتهم بسرعة ما بالطبق، أعطتني ماما قرص بنادول، وقبل أن أنتهي تماماً من التهام إفطاري، فُتح الباب ودخل بابا مرتدياً قميصاً أبيض مخططاً أظهر بطنه الكبيرة أمامه.. وبينما كان يحدِّق في الطبق الزجاجي الشفاف المجوف الذي في يدي، نظرتُ إلى بعض الرقائق الطافية فوق الحليب، وأنا أتعجب كيف تسلق الدرج بدون إحداث أي صوت.
- ماذا تفعلين، كامبيلي؟
بصعوبة ابتلعتُ ما بفمي
- أنا.. أنا
- أنت تتناولين طعاماً قبل 10 دقائق من القداس.. 10 دقائق قبل القداس؟
- دورتها الشهرية بدأت وتعاني من ألم شديد بمعدتها
قالت ماما، ثم قاطعها جاجا سريعاً:
- أخبرتها أن تتناول طبق رقائق الذرة بالحليب الذي صنعته لها حتى يمكنها ابتلاع قرص بنادول، بابا
{- هل طلب الشيطان منكم أن تعملوا في خدمته؟
تدافعتْ الكلمات بالاجبو من فمه
- هل قام الشيطان ببناء خيمة له في منزلي؟
التفتَ إلى ماما قائلاً:
- أنت تجلسين هناك وتراقبينها وهي تفعل ما يغضب الرب؟
ببطء، قام بفك حزامه الثقيل المكون من طبقات من الجلد البني، وشدد قبضته عليه، وهوى به فوق كتف جاجا أولاً ثم ماما التي تلقته بأعلى ذراعها المغطى بقماش سترة الكنيسة المنتفخ والمزين بالترتر، وعندما هوى الحزام فوق ظهري وضعتُ الطبق على الطاولة.
أحياناً كنت أرقب السوط في أيدي الرعيان يفرقع فوق ظهور قطيع الأبقار عند عبورها نهر الطريق في انوجو، وهم يصدرون من أفواههم صوت طقطقة يدعونها به إلى عدم التفرق، وكنت أعجب كثيراً لقدر دقة ورشاقة حركة السوط فوق أجسادها.. كان بابا كأحد هؤلاء الرعيان برغم كونه أقل طولاً وأكثر امتلاءً، وهو يضرب بحزامه ظهر ماما وجاجا وأنا متمتماً بأن الشيطان لن يحقق فوزاً. لم نتحرك أكثر من خطوتين بعيداً عن الحزام الجلدي الذي كنا نسمع صوت حفيفه في الهواء.
حدَّق بابا في الحزام في يده بعد توقفه عن الحركة، وكان وجهه متغضناً وجفناه مرتخيين:
- لماذا تسيرون نحو الإثم؟.. لماذا تحبون الإثم؟
أخذتْ ماما الحزام من يده ووضعته على الطاولة، ثم قام ليحشرنا جاجا وأنا إلى جسده، وراح يتفحص وجهينا:
- هل آذاكما الحزام؟.. هل ترك أثراً على جسديكما؟
شعرتُ بوخز الألم في ظهري، لكنني قلت لم يلحق بي أذى.. كانت طريقته في هز رأسه عندما تحدث عن حبنا للإثم جعلتني أشعر وكأن شيئاً باهظاً قد أثقل عليه وأرهقه وأوقع الكآبة في نفسه.. وكأن شيئاً باهظاً لم يكن في مقدوره أن يلقي به بعيداً.
توجهنا إلى القداس الثاني بعد أن قمنا جميعاً ومعنا بابا بغسل وجوهنا وتغيير ملابسنا.
***
غادرنا أبا مباشرة في بداية العام الجديد، بعد أن جمعتْ زوجات الأقارب ما تبقى من طعام، وقد جثون على أقدامهن في أرض الفناء الملوثة، شاكرين لبابا وماما. وعند دوران محرك السيارة لوح لنا هارونا بواب المنزل بذراعيه الممتدتين أعلى رأسه. كان هارونا قد أخبرنا قبل بضعة أيام، جاجا وأنا، بإنجليزيته التي تحمل لكنة قبائل الهوسا التي تخلط بين الحروف عند النطق قائلاً أن والدنا أفضل رجل وقعت عليه عيناه، وأفضل شخص عمل لديه، كما أخبرنا أن والدنا قام بدفع الرسوم المدرسية لأطفاله وبمساعدة زوجته في الحصول على وظيفة ساعي بأحد المكاتب الحكومية المحلية، وأكد لنا أننا محظوظون لأن لدينا مثل هذا الوالد.
قرأ بابا بعض الصلوات، وسيارتنا تتجه إلى الطريق السريع، وبعد أقل من نصف ساعة مررنا بنقطة تفتيش تشهد حركة مرور مزدحمة وعدداً من رجال الشرطة أكثر كثيراً من المعتاد يقومون بتخفيف حدة الزحام وهم يشهرون بنادقهم. لم نعرف سبباً لهذا الزحام إلا عندما أصبحنا في مركزه، فقد اصطدمت سيارةقادمة من الخلف بقوة شديدة بسيارة متوقفة عند حاجز التفتيش، وبسيارة ثالثة تداخلت أجزاؤها في بعضها من قوة الصدمة حتى أصبحت في نصف حجمها، وعلى جانب الطريق تمددت جثة غارقة في دمائها لرجل يرتدي جينز أزرق.
- لعل روحه ترقد في سلام الآن
قال بابا راسماً علامة الصليب على صدره.. وقالت ماما وهي تستدير نحونا إلى الخلف "انظروا بعيداً". لكن جاجا وأنا كنا في تلك الأثناء ننظر إلى الجثة الغارقة في دمائها. تحدث بابا عن رجال الشرطة وعن وضعهم الكتل الخشبية الضخمة كحواجز للطرق على الرغم من خطورتها على راكبي السيارات، حتى يمكنهم استعمال المناطق ذات الشجيرات الخفيضة كثيفة الأغصان لإخفاء الأموال التي يغتصبونها من المسافرين. لم أكن في حقيقة الأمر أصغي إلى بابا، فقد كنت أفكر في الرجل الذي كان يرتدي الجينز الأزرق ولقي مصرعه، وأتساءل عن الوجهة التي كان يقصدها، وعن الشيء الذي كان سيقوم به هناك.
***
بعد يومين تحدث بابا هاتفياً بالعمة افيوما، وربما لم يكن قد هاتفها لو لم يتحادثا في ذلك اليوم، وربما أيضاً لم يكن قد سمح لنا بالذهاب إلى نسوكا، وأصبح كل شيء على حاله.
كان اليوم عيد ايبيفاني، يوم الالتزام المقدس، لذلك لم يذهب بابا إلى العمل، وذهبنا إلى قداس الصباح. وبالرغم من أننا لا نذهب عادة لزيارة الأب بينيديكت في أيام الالتزام المقدسة، فقد ذهبنا إلى منزله بعد القداس، وهناك طلب بابا من الأب بينيديكت أن يسمع اعترافنا. ربما لم نذهب إلى أبا لأن بابا لم يرغب في الاعتراف بلغة الاجبو، بالإضافة إلى قوله ان قس الأبرشية في أبا لم يكن على قدر كاف من الكنسية، وأن المشكلة التي يعاني منها النيجيريون تكمن في خطأ أولوياتنا، لأننا نهتم كثيراً جداً ببناء الكنائس الضخمة والتماثيل الفخمة على عكس البيض الذين لا يفعلون ذلك أبداً.
في منزل الأب بينيديكت، جلسنا ماما وجاجا وأنا في حجرة المعيشة، نقرأ الجرائد والمجلات المبعثرة فوق طاولة منخفضة تشبه الكفن، وكأنها وضعت لغرض البيع. خرج بابا من حجرة المكتب المجاورة التي كان يتحدث فيها إلى الأب بينيديكت، وطلب منا أن نستعد للاعتراف بعده، وبالرغم من أن بابا أغلق من خلفه باب حجرة المكتب بقوة فقد سمعتُ صوته وتدفق كلماته الواحدة بعد الأخرى في دمدمة لا تتوقف مثل دمدمة محرك سيارة.
دخلتْ ماما حجرة المكتب وظل الباب مفتوحاً محدثاً صوت طقطقة صعّب عليّ سماع صوتها. وعند خروج جاجا بعد وقت قصير وهو يرسم علامة الصليب على صدره وكأنه كان يتعجل خروجه من الحجرة، سألته بعيني إذا كان قد تذكَّر كذبته التي تتصل بالجد نوكوو، فهز رأسه، وعند دخولي الحجرة التي لا تكاد تتسع لمكتب ومقعدين، دفعتُ الباب بقوة لأتأكد من إغلاقه.
- باركني يا أبي واسأل الرب أن يغفر آثامي
وأنا في شوق للاعتراف، جلستُ على حافة المقعد، يفصل بيني أنا النادمة التائبة وبين القس ستارة خضراء.. رغبتُ في أن أجثو على قدمي وأن أحمي وجهي بملف ورقي من مكتب الأب بينيديكت لأن الاعتراف وجهاً لوجه جعلني أفكر في قرب يوم الحساب الذي أشعر أنني غير مستعدة له.
- نعم، كامبيلي
قال الأب بينيديكت جالساً على مقعده في وضع عمودي، يلامس بأصابعه ثوبه الطويل الأرجواني الفضفاض، وأنا أحدق بثبات في الحائط تحت صورة البابا ذات الإطار، عليها توقيع بحروف كتبت في عجلة، قلت:
- مرت ثلاثة أسابيع منذ آخر اعتراف لي.. هذه آثامي.. مرة لم ألتزم بعدم تناولي طعام ثقيل قبل القداس بنصف ساعة، وفقدت تركيزي أثناء الصلاة ثلاث مرات.. وبسبب ما قلته وكل ما نسيت قوله، ألتمس العفو والمغفرة من يديك ويدي الرب
تحرك الأب بينيديكت من مقعده:
- استمري.. أنت تعلمين أن من الإثم أمام الروح القدس إخفاء شيء ما عند الاعتراف
- نعم، يا أبي
- استمري إذن
أدرتُ بصري لكي ألقي بنظرة عجلى عليه.. عيناه خضراوان قاتمتان بلون جلد أفعى، كنت قد شاهدتها مرة تزحف بالقرب من شجيرات الكركديه الكثيفة الأغصان بالفناء، وقال عنها البستاني أنها من أفعى الحدائق التي لا تؤذي.
- كامبيلي، يجب أن تعترفي بكل آثامك
- نعم يا أبي
- من الخطأ أن تخفي شيئاً عن الرب.. سأعطيك لحظة للتفكير
هززتُ رأسي، وحدقت ثانية في الحائط.. أهناك شيء ما فعلته ويعلمه الأب بينيديكت ولا أعلمه؟.. أخيراً قلت:
- أمضيت أكثر من 15 دقيقة بمنزل جدي الوثني
- هل تناولت أي طعام أعدَّه أضحية لإلاهه؟
- لا يا أبي
- هل شاركت في أية طقوس وثنية؟
- لا يا أبي.. لكنني نظرت إلى الأقنعة
- هلاستمتعت بالنظر إليها؟
نظرتُ إلى الصورة على الحائط وتساءلتُ عما إذا كان البابا هو من وضع توقيعه بنفسه عليها.
- نعم يا أبي
- أنت تدركين أن من الخطأ الشعور بمتعة الفرجة على طقوس وثنية خرافية، لأنها البوابة المؤدية إلى الجحيم.. هل تفهمين هذا؟
- نعم يا أبي
- عليك بذل جهد واع من أجل منع أي شخص من أن يجد متعة في تلك الطقوس الوثنية
- نعميا أبي
- حسناً، رددي إذن صلاة التوبة والندم
وبينما كنت أردد صلوات الندم والتوبة، غمغم الأب بينيديكت بكلمات مباركة لي، ثم رسم علامة الصليب. وخرجتُ من حجرة مكتبه لأجد بابا وماما جالسين على الأريكة وقد انحنى رأساهما، فجلست إلى جانب جاجا، ثم أحنيت رأسي وواصلت ترديد صلاة التائب.
ونحن في طريقنا إلى المنزل، تحدث بابا بصوت مرتفع وقال:
- جميعنا أطهار الآن، حتى إذا ما نادانا الرب إليه، نذهب مباشرة إلى السماء
كان مبتسماً، عيناه تلمعان، ويده تنقر برقة على عجلة القيادة.. وظل مبتسماً إلى ما بعد عودتنا إلى المنزل وحتى أثناء حديثه الهاتفي إلى العمة افيوما
- لقد ناقشت الأمر مع الأب بينيديكت ويقول إن الأطفال يمكنهم الذهاب إلى أوكبي، لكن يجب أن يكون واضحاً أن ما يحدث هناك لم تقم الكنيسة بإثبات صحته ومصداقيته
- .....
- سيأخذهما كيفن السائق
- ......
- ربما ليس غداً، وإنما بعد الغد
- ......
- حسناً، حسناً.. وهو كذلك.. يباركك الرب أنت وأولادك.. وداعاً
وضع سماعة الهاتف في مكانها والتفت إلينا:
- ستغادران غداً، ولذلك اصعدا إلى الطابق العلوي، وجهزا أنفسكما وأشياءكما
- نعم، بابا
قلت وجاجا في صوت واحد، ثم قالت ماما:
- لا يجب أن يزورا العمة افيوما وأيديهما خاوية
حدَّق بابا في وجهها وكأن ما قالته أثار دهشته
- سنضع بعض الطعام في السيارة بالطبع.. أرز وبطاطا
- ذكرتْ لي افيوما أن أسطوانات الغاز يحصلون عليها في نسوكا بشق الأنفس
- أسطوانات الغاز؟
- نعم.. غاز لمواقد طهي الطعام.. قالت إنها تستعمل الآن موقد الكيروسين.. أتذكر قصة الكيروسين المغشوش الذي يفجر المواقد ويقتل الناس؟.. ربما يمكنك إرسال أسطوانة أو اثنتين إليها من المصنع
- أهذا ماخططت له أنت وافيوما؟
- هذا مجرد اقتراح مني ولك أنت القرار
دقق بابا في وجه ماما لفترة
- حسناً
ثم التفت إلينا جاجا وأنا:
- اصعدا ورتبا حاجياتكما.. يمكنكما أخذ عشرين دقيقة لذلك من الوقت المخصص لمذاكرة دروسكما
ببطء صعدنا الدرج الحلزوني، وأنا أفكر وربما هو يفكر أيضاً في أنه للمرة الأولى في حياتنا سننام خارج المنزل بدون وجود بابا معنا.
- جاجا، هل تريد الذهاب إلى نسوكا؟
- نعم
قال وعيناه قالتا أنه يعلم أنني أيضاً أريد ذلك، ولم أجد الكلمات في لغة عيوننا لكي أخبره عما شعرت به عندما أفكر في بضعة أيام نقضيها معاً بدون صوت بابا وبدون وقع أقدامه على الدرج.