القاهرة 17 نوفمبر 2014 الساعة 04:26 م
دخول شاعر أو ملحن مجال الأغنية والاقتراب من أسوارها لأول مرة والانضمام إلى صفوف مبدعيها من كبار الشعراء والملحنين ليس سهلا ً وربما يكون صعبا ً للغاية خاصة إذا كان هذا الشاعر أو الملحن من أبناء المحافظات النائية وبعيدا ً عن أضواء القاهرة وصحافتها وكتابها ونقادها ومفكريها ولا تربطه علاقات برموز الفكر والثقافة حتى لو كان صاحب موهبة يشهد لها كل أصدقائه وبعض المبدعين الذين يتابعون إبداعاته فى هذا المجال وأن الطريق الوحيد لدخوله هذا المجال هو التوجه إلى مبنى الإذاعة المصرية العتيق فى شارع الشريفين ومقابلة المسئول الأول عن الموسيقى والغناء هناك وهو الرائد الموسيقى المبدع محمد حسن الشجاعى الذى قدم للساحة الغنائية نجومها الكبار
وشهدت الأغنية أزهى فترات إزدهارها فى عهده واشتهر زمانه بين كل النقاد المصريين والعرب بأنه زمن الفن الجميل وهو فنان جاد لا يجامل ولا يحابى أحد ولديه القدرة إذا استمع إلى بعض من أشعارك أن يكتشف مستوى أعمالك ويفتح الباب أمامك خاصة إذا كنت شاعرا ً واعدا ً وتستحق أن يكون لك إنتاج غنائى يرقى إلى مستوى المختارات الإذاعية التى كان يطلق عليها فى هذا الزمن وهنا يحيلك إلى لجنة نصوص الأغانى التى كان يرأسها الشاعران الكبيران أحمد رامى ومحمود حسن اسماعيل ويمثل جيل الشعراء الشبان فى هذه اللجنة الشاعر فاروق شوشة وهى التى تقرر ما إذا كان النص الغنائى الذى تقدمت به يجاز أو يحتاج إلى تعديل بعض شطراته أو به خلل فى الأوزان أو ضعف الفكرة فيعتذر عنه أو تعطيك اللجنة فرصة لمحاولة أخرى بعد ثلاثة أشهر وهكذا كانت هذه اللجنة فى مثل المصفاة التى تنتقى الأعمال الجادة والراقية فقط التى تخرج إلى طريق النور وتضاف إلى الخريطة الغنائية للإذاعة.
أما الطريق الأسهل لكل شاعر أو ملحن يريد الدخول فى هذا المجال كما قال لى بعض المتخصصين والمسئولين فى الإذاعة أن يعرض إنتاجه على بعض الملحنين الكبار فى البداية ويستطيع هذا الملحن إذا أعجبه نص الأغنية أن يتقدم به إلى لجنة النصوص بالإذاعة وإذا تمت إجازته يعرض على الأستاذ الشجاعى الذى يختار الصوت الذى يؤدى هذا اللحن والكلام ويتناسب معه .
وكان معهد الموسيقى العربية فى شارع رمسيس منارة الفن والإبداع الحقيقية فى هذا الزمن ونصحنى بعض الزملاء للذهاب لهذا المعهد للإلتقاء هناك بكبار الشعراء والملحنين الذين يجتمعون فى كل ليلة فى حديقته الواسعة الغناء قبل أن تتحول إلى مسرح جلال الشرقاوى وفى غرف هذا المعهد تجرى بروفات الأغانى التى سيتم تسجيلها للإذاعة فهناك غرفة يشغلها السنباطى وأخرى يشغلها محمد الموجى وثالثها يشغلها محمود الشريف ورابعها يشغلها كمال الطويل وغيرهم مع المطربين
والمطربات الذين يختارونهم لهذه الأغانى بمصاحبة الفرق الموسيقية التى كان أشهرها الفرقة الماسية بقيادة أحمد فؤاد حسن والذهبية بقيادة صلاح عرام وفرقة عبدالعظيم حليم المتخصصة فى أغانى شادية وكان هذا المعهد يجمع فى هذه الأوقات كبار المطربين والمطربات عبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد وورده ونجاح سلام وسعاد محمد وصباح وشهر زاد ومحمد قنديل وعبد المطلب ومحمد رشدى ومحرم فؤاد وماهر العطار وعبداللطيف التلبانى ومحمد العزبى وغيرهم. أما البروفة النهائية لكل ملحن فتجرى على مسرح المعهد بحضور الجمهور والطلبة والطالبات قبل التسجيل باستوديوهات الإذاعة.
وفى هذه الحديقة وفى ركن من أركانها كان يجلس الشاعر الرقيق والوسيم حسين السيد وكنت أعشق كل ما يكتبه فى حب الوطن خاصة أشعاره وأغانيه لثورة يوليو 52 وكنت أعتبره واحدا ً من أكبر شعراء جيله صاحب المشوار الطويل والشاعر الملاكى للموسيقار عبدالوهاب وكنت أحفظ له كثيرا ً من أغانيه للثورة مثل رائعته « الجيل الصاعد « وكذلك أغنيته « صوت الجماهير « و « المارد العربى « لفريد الأطرش ولا أنسى « دقت ساعة العمل الثورى .. بكفاح الأحرار .. الثوار هم الشعب .. الأحرار هم الشعب .. عارفين المشوار « وهى الأغنية التى مضى على إنتاجها أكثر من خمسة وخمسين عاما ً وعندما طلب الرئيس عبدالفتاح السيسى فى إحدى خطبه من الشعب مضاعفة العمل والإنتاج كطريق وحيد لتقدم المجتمع وتحقيق أهداف ثورة يونيو 2013 وجدت الإذاعة والتليفزيون أن هذه الأغنية تتناسب مع دعوة الرئيس وغيرها من الأغانى التى أبدعها الشاعر الكبير حسين السيد ، وجدت نفسى أجلس إلى جواره وأعرفه بنفسى كشاعر شاب وجدت منه كل ترحيب وتشجيع وبعد تناول فنجان الشاى معه طلب منى قراءة بعض النصوص التى كتبتها مؤخرا ً فقرأت له أغنية بعنوان
« شهرين وشوية « وأسمعته المذهب الذى استراح له وطلب منى إعادة قراءته مرة أخرى وإكمال نص الأغنية التى أعجبته ويقول مطلعها « شهرين وشوية .. ياحبيبى .. شهرين وشوية .. شهرين والشمس ما طلعتشى .. أبدا ً فى عنية .. من يوم ما مشيت .. زعلان منى .. من يوم ما سافرت .. بعيد عنى .. وحنينى وراك .. بيبكينى .. ويبكى عليه .. وشهرين وشوية .. ياحبيبى « ووجدت الأستاذ حسين السيد بعد الانتهاء من قراءة هذا النص قال لى انتظر سيأتى حالا ً ملحن شاب اسمه محمد سلطان وأقترح عليه أن يلحنها للفنانة فايزة أحمد الذى كان تزوج منها حديثا ً وبالفعل جاء سلطان وأسمعته النص مرة أخرى وأعطيته نسخة من كلمات الأغنية التى عرضها غلى الفنانة فايزة أحمد وأعجبتها بالفعل، وفى اليوم التالى ذهب سلطان إلى الإذاعة وقدم النص للأستاذ الشجاعى الذى أحاله إلى اللجنة وأجازته بالفعل وتم تسجيل الأغنية لتكون بداية إنطلاقى كشاعر وتتوالى بعد ذلك أغنيات اخرى كتبتها للإذاعة ... وكان الشاعر حسين السيد رحمه الله محبا ً ومشجعا ً للشعراء الشبان ليأخذوا دورهم كشعراء من خلال الإذاعة والتليفزيون إيمانا ً منه بمبدأ تواصل الأجيال فى الفن دون أن يحتكر لنفسه أصوات المشاهيرمن المطربين والمطربات لتتغنى بأغانيه وحده فقط ، وفى أحيان كثيرةً كان يرشح شعراء جدد ليتغنى بأعمالهم كبار المطربين والمطربات وهو نفس ما فعله حسين السيد مع زميلى الشاعر الراحل محمد حمزة الذى غنت له فايزه احمد فى نفس العام أغنية « رشوا الفل مع الياسمين « من ألحان محمد سلطان أيضا ً. أما زميلى الشاعر الراحل عبدالسلام أمين الذى تحول من كتابة الأغنية إلى كتابة السيناريو وهو صاحب المسلسل الشهير « عمر بن عبدالعزيز» والأوبريتات الوطنية العديدة كان يروى لى تعاطف جيل الرواد الكبار من شعرائنا معه وكيف كانوا يتبنون كثيراً من أغانيه وترشيحها لكبار المطربن والمطربات لكى يتغنوا بها ولعل أغنيته الشهيرة التى غناها له عبداللطيف التلبانى فى نفس العام الذى ظهرت فيه أسماؤنا أنا والشاعر محمد حمزة، وكان وراء شهرة عبدالسلام أمين كشاعر غنائى شعراء كبار من جيل الرواد ولا زلت أذكر رائعته « اللى روحى معاه .. مستحيل أنساه .. وإن قدرت أخبى .. العيون ما تخبى .. وإن هربت بقلبى .. لى روح شايفاه « . ولم يكن حسين السيد وحده الذى كان يتبنى الشعراء الشبان ويدفع بهم إلى عالم الشهرة فقد فعل ذلك أيضا ً مرسى جميل عزيز وعبدالفتاح مصطفى ومأمون الشناوى الذى فتح أمامى أبواباً كثيرة على طريق الشهرة فى الأغنية العاطفيةً والوطنية ايضا ً وكثيرا ً ما كان يقرأ نصا ً من كلماتى تنشره الصحف ويتصل بى ليبلغنى بأنه رشح المطربة فلانه أو المطرب فلان لهذه الأغنية رغم أنه كان قادرا ً على كتابة أجمل الكلمات لهذا المطرب أو تلك المطربة ولكنه كشاعر كبير كان يفضل شاعرا ً جديدا ً على نفسه ليفتح الأبواب أمامه وأذكر له رحمه الله أن إحدى الشركات الخاصة بإنتاج الأغنية وكان يعمل مستشارا ً فنياً لها وفى بداية تأسيسها رصد له صاحبها مبلغ عشرة آلاف جنيه لبدء العملية الإنتاجية وطلب منه أن تكون الأغنية الأولى بصوت الفنانة شادية والثانية بصوت المطرب فهد بلان القادم على التو إلى القاهرة وكان ذلك فى بداية السبعينيات وترك له حرية اختيار الشاعر الذى يكتب الكلمات وايضا ً الملحن الذى يضع الألحان ووجدت الشاعر الكبيريتصل بى لمقابلته بمكتبه بالشركة وذهبت فى الموعد وبعد تناول القهوة قال لى أنا اخترتك لكتابة هاتين الأغنيتين كشاعر كما اخترت الملحن خالد الأمير لتلحينهما وشكرت له هذا التكليف وهذا الاختيار من بين كل الشعراء الذين يعرفهم علما ً بأنه كان من الممكن أن يكتب الأغنيتين بنفسه كشاعر كبير له وزنه ويحقق نجاح أكثر ولكنه أراد أن يتيح الفرصة لشاعر واعد كما قال لى فشكرته على ذلك واعتبرته شرف لى أن يكلفنى شاعر كبير بهذه المهمة مؤكدا ثقته فى أن ما سأكتبه سيحقق نجاحاً كبيراً وهو ما حدث بالفعل حيث حققت أغنيتى لفهد بلان « ركبنا على الحصان « أكبر نسبة مبيعات فى مصروالوطن العربى وأصبحت من الأغنيات ذات الشهرة الواسعة فى الإذاعة والتليفزيون وهو نفس ما حدث أيضا ً لأغنيتى للفنانة القديرة شادية « لو القلوب ياحبيبى ارتاحوا.. كان يجرى إيه « من شهرة واسعة وأكبر نسبة مبيعات وتم تصوير الأغنيتين تليفزيونياً وحققا نجاحا ً كبيرا فى حفلات ليالى التليفزيون واضواء المدينة وعندما عاد فهد بلان إلى القاهرة بعد غياب طويل دعته نقابة الصحفيين لإقامة حفل تغنى فيه بهذه الأغنية وحققت نجاحا ً كبيرا ً وهكذا فعل الشاعر الكبير مأمون الشناوى نفس ما فعله معى الشاعر الكبير حسين السيد - رحم الله الإثنين - بقدر ما قدموه للأغنية من تألق وازدهار وستظل أغانيهما العاطفية والوطنية فى وجدان الجماهير المصرية والعربية وترددها إلى أبد الأبدين . وأخيرا ً إذا كانت انطلاقتى الأولى كشاعر بوقفة مخلصة معى من الشاعر الكبير حسين السيد الذى فتح لى أبواب المستقبل فقد كانت انطلاقتى الثانية بدعم كبير من الشاعر مأمون الشناوى الذى سيكون لى مع مسيرتهما الغنائية التى امتدت لأكثر من ستين عاماً وتغنى بأشعارهما كبار المطربين المصريين والعرب حكايات أخرى فى حلقات قادمة .