القاهرة 30 اكتوبر 2014 الساعة 02:19 م
(عبر فكر ابن رشد معبراً عن حسه النقدى للعديد من الآراء والاتجاهات التى رأى أنها بعيدة عن العقل والمعقول، فنقد أفكار الصوفية وآراء الأشاعرة ووجهات نظر المقلدين والرجعيين وكان فى نقده معبراً عن كل ما هو عقلانى تنويرى ، مبتعداً تماماً عن ظلام الفكر ، كان ابن رشد عالماً وطبيباً بالاضافة الى كونه فيلسوفاً يؤمن بوجود علاقات ضرورية بين الأسباب والمسببات وبأن البرهان العقلى يعد أسمى صور الأدلة ، لقد قدم لنا هذا المفكر العملاق نسقاً فلسفياً محكماً يعد تعبيراً عن ثورة العقل وانتصاره ولهذا فهو جدير بان يدخل تاريخ الفكر الفلسفى من أوسع أبوابه . وبمناسبة ذكرى مرور ثمانية قرون على رحيله ، يدعو الدكتور" عاطف العراقى " فى كتابه (
ابن رشد فيلسوفاً عربياً بروح غربية ) جميع المشتغلين بدوائر الفلسفة فى جميع انحاء العالم الى الجمع بين مؤلفات ابن رشد وشروحه على ارسطو لأن من الخطا ان تقتصر فلسفة أى فيلسوف من فلاسفة العرب على ما تركه لنا من مؤلفات ونستبعد ما قام به من شروح على فلاسفة اليونان لأن يقيناً لو جمعنا بين المؤلفات والشروح لتوصلنا الى نتائج تختلف جوهرياً عن تلك النتائج العقيمة والتقليدية . )
يشيرالدكتور" عاطف العراقى " فى كتابه الى ان ابن رشد نشأ فى بيئة عقلية فجده كان من كبار الفقهاء وكذلك والده مما أدى الى تعمقه فى دراسة الفقة بدليل وضعه لكتابه ( بداية المجتهد ونهاية المقتصد فى الفقه ) وأصبح بذلك أوحد عصره فى علم الفقه الى جانب دراسته لعلم الكلام ولمذاهب الفلاسفة وللطب وبذلك تعمق فيلسوفنا فى دراسة ميادين عديدة تكاد تشمل كل العلوم والمعارف الموجودة فى عصره . وقد تعرض للنفى الى الأليسانة بالقرب من قرطبة بسبب تصوير بعض الفقهاء لمبادئه على انها كفر رغبة منهم فى الاستيلاء على الجو الفكرى وتصوير الدين وكأنه يتنافى مع الفلسفة .
ابن رشد ومكانته فى أوروبا
و يؤكد الدكتور" عاطف العراقى " فى كتابه على ان أهم وأعظم عمل قام به ابن رشد وجعله يحظى بهذه المكانة فى أوروبا هو شرحه أرسطو وتقديم فلسفة خالية من الشوائب والمتناقضات والتأويلات الفاسدة التى طالما وجدناها عند أسلافه من الفلاسفة ، لذلك يجب عدم الاقتصارعلى مؤلفاته التى لا تمثل غير جانب تقليدى فى فلسفته أما اذا أردنا الغوص وراء المعانى الحقيقية لفلسفته فلابد من الرجوع الى شروحه على أرسطو حيث نجد بينها نقداً حراً جريئاً للمتكلمين وغيرهم من مفكرى الاسلام مثل الفارابى وابن سينا ، الى جانب دعوته الى اللجوء الى القياس البرهانى ذات المبادئ العقلية والمنطقية التى لا يستطيع اى فيلسوف التخلى عنها فى بحثه فى قضايا الفلسفة ، وتجاوز ماعدا هذا من أساليب اقناعية وخطابية وجدلية خاصه بأصحاب علم الكلام والسوفسطائيين . ولمن يقول ان هذه الشروح لا تمثل وجهة نظر ابن رشد الحقيقية باعتبار ان المفكر حين يؤلف كتاباً يودعه أفكاره وحين يشرح كتاباً لغيره يوضح أفكار واضع الكتاب وليس افكاره ، نرد عليهم بان ابن رشد يختلف تماماً عن هذا لأنه أولاً يبدى اعجابه الشديد بارسطو بدليل انه يفضله على جميع الفلاسفة ، ثانياً تايده لمنهج أرسطو البرهانى وتبريره لأقواله فى أكثر نظرياته ، ولعل ظروف المجتمع فى عصر ابن رشد التى لم تكن تسمح بالتعبير الحر عن الأفكار هى التى جعلت مؤلفاته تعبر عن مجرد جوانب تقليدية من فلسفته .
المنهج النقدى والحوار بين الحضارات
ويفتخر الدكتور" عاطف العراقى " فى كتابه بالفيلسوف ابن رشد لأسباب عديدة من أهمها الحس النقدى الذى تميز به بصورة أكثر دقة وشمولاً ، ولعل توليه منصب القاضى الذى يقوم بالموازنة والمقارنة وترجيح رأى على الآخر يعد من عوامل بروز هذا الحس النقدى والانتقال منه الى الجانب البنائى الانشائى الايجابى ، هذا الى جانب نزعته التنويرية خاصة حين دعى الى الانفتاح على كل الثقافات والتيارات الاجنبية الخارجية وقبول الصواب من فلاسفة اليونان مع الشكر عليه والتنبيه على الخطأ ، هذا بالاضافة الى اتجاهه العلمى حيث كان عالماً وطبيباً ، واعتزازه بتأويل الآيات القرأنية الكريمة ، وبذلك اصبح ابن رشد اكبر عميد للفلسفة فى بلاد المشرق والمغرب معاً ،وصاحب دعوة تمجيد العقل واعلاء كلمته فوق كل كلمة ، لذلك آن الآوان لدراسة الفلسفه الرشدية والكشف عن فساد الفكرالظلام
ى والتقليدى والارهابى والتوجه نحو كل ما فيه خير لنا وللانسانية جمعاء .
الفلسفه الرشدية و انتصارالعقل
ويضيف الدكتور" عاطف العراقى " فى كتابه ان فلسفة ابن رشد تعد تعبيراً عن ثورة العقل وانتصاره اذ نرى ان المنهج العقلى الذى اتبعه فى فلسفته يقوم على اساس النقد لذلك أقام نقده لطائفة الحشوية الذين يريدون الوقوف عند ظاهرالآيات بحيث يجرمون التأويل العقلى على أساسين أولهما ان الانسان حيوان عاقل وحين يلغى الحشوية دور العقل فى تأويل الايات فانهم بهذا يلغون الانسانية ويسأوون بين الانسان العاقل والحيوان الغير عاقل ، وثانيهما ان الغاءهم للنظر العقلى لا يتفق مع آيات القرآن التى تحث على وجوب النظر والتفكير والاعتبار وهكذا استطاع ابن رشد بمنهجه النقدى الدعوة الى التأويل واقامته على أساس العقل . وبهذا المنهج ايضاً نقد منهج المتكلمين الجدلى الذى سارت عليه ال
فرق الكلامية سواء كانت من المعتزلة أو الاشاعرة وفند اراءهم فى مشكلات عديدة كالخير والشر ، القضاء والقدر ، و وجود الله .
الغزالى وتكفير الفلاسفة
ويذكرالدكتور" عاطف العراقى " فى كتابه ان الطريق الصوفى الذى يزعم أصحابه انه طريق يؤدى الى معرفة الله يتنافى مع الطريق العقلى لابن رشد ولعل هذا كان من الاسباب القوية التى دفعته الى نقد فكر الغزالى الذى يعبر عن الفكر الاشعرى الصوفى خاصة وان الغزالى حين ألف كتابه( تهافت الفلاسفة ) اى تساقط وانهيارآراء الفلاسفة تحدث عن عشرين مسألة من المسأل التى بحث فيها الفلاسفة وانتهى الى تكفيرهم ، مما ادى الى عرض ابن رشد فى كتابه ( تهافت التهافت ) لآراء الغزالى ونقدها وبهذا اظهر حقيقة رأى الفلاسفة التى تختلف عن فهم الغزالى الخاطئ لها والاشارة الى ان كان واجباً علي الغزالى الرجوع الى كتب الفلاسفة انفسهم وليس الاعتماد على فهم ابن سينا الخاطئ لأرسطو وليس على مذهب ارسطو الحقيقى ، ولعل هذا ما دفع ابن رشد الى نقد ابن سينا ايضاً لابتعاده عن الطريق العقلى وتخليص فلسفة أرسطو من العناصر الدخيلة عليها وتقديمها للعالم الاسلامى خالية من أخطاء وتأويل بعض المفسرين .
ابن رشد وفكرنا المعاصر
و يختتم الدكتور" عاطف العراقى " كتابه مستغرباً لاننا نبحث اليوم عن حلول للكثيرمن مشكلاتنا فى الوقت الذى قدم لنا فيه ابن رشد منذ ثمانية قرون المنهج الذى يساعدنا على حل المشكلات ، اننا نتحدث اليوم عن قضايا التنوير ، والتطرف والارهاب ، وقضايا الأصالة والمعاصرة غافليين عن تراث هذا المفكر العربى الكبير الذى يغرق فى بحر من الاهمال والنسيان ، وفى الوقت الذى تقدمت فيه اوربا لاهتمامها بفلسفة ابن رشد ، اصابنا التأخرنحن العرب لان النموذج كان عندنا يتمثل فى مجموعة من المفكرين التقليديين والذى يعبر فكرهم عن الرجوع الى الوراء والصعود الى الهاوية . لقد دعانا ابن رشد الى الاتخاذ بالعلم واسبابه ولو كنا قد وضعنا نصب أعيننا تلك الدعوة لكانت الأمة العربية تقدت تقدماً هائلاً فى مجال الفكر والثقافة بوجه عام وتحقق لها التنوير الذى لن يحدث الا اذا اعتقادنا بان الخير كل الخير فى النظرة المتفتحة التى تقوم على تقديس العقل وجعله معياراً لحياتنا الفكرية والاجتماعية .