القاهرة 30 اكتوبر 2014 الساعة 01:38 م
قبل أحد السعف
كنت جالسة إلى طاولة المذاكرة، عندما أتت ماما إلى حجرتي ووضعت على سريري ملابسي المدرسية المكومة فوق ذراعها، بعد أن أحضرتها من فوق حبل الغسيل في الفناء الخلفي للمنزل، حيث قمت أنا بتعليقها في الصباح حتى تجف. جاجا وأنا نقوم في العادة بغسيل زيّنا المدرسي، وسيسي عليها غسيل بقية ملابسنا، ودائماً نغمر قطعة من نسيج القماش في ماء برغوة الصابون أولاً لنتأكد من ثبات لون الصباغة، بالرغم من معرفتنا بذلك، وكلانا نحرص على أن نقضي كل دقيقة من الثلاثين دقيقة التي خصصها لنا بابا لغسيل ملابس المدرسة.
- شكراً لك ماما.. كنت على وشك أن آتي بها
نهضتُ لأطوي ملابسي، فلم يكن من المناسب أن أدع شخصاً أكبر يقوم بأعمال بسيطة يمكنني القيام بها، وهي أعمال لم يكن لدى ماما أي مانع للقيام بها.
- رذاذ المطر قادم ولم أرد لها البلل
قالت وهي تجري يدها في زي مدرستي المكون من بلوزة رمادية وتنورة بدرجة لون بين الرمادي والأسود، تطول حتى تغطي باطن الساق.
- ستحصلين قريباً على أخ أو أخت
حدَّقتُ النظر إليها وهي جالسة على سريري وركبتاها متلاصقتان:
- ستحصلين على مولود؟
ابتسمتْ وهي لاتزال تجري يدها فوق تنورتي، وقالت:
- نعم
- متى؟
- في أكتوبر.. ذهبتُ إلى بارك لين أمس وراجعت طبيبي
- شكراً لله
قلت ما يتعين على جاجا وأنا قوله، وما يتوقعه بابا منا أن نقوله.
- نعم
في شيء من تردد، أبعدتْ ماما يدها عن تنورتي.
- الله هو القدير.. بعد ولادتك وبعد أن أجهضت أكثر من مرة، بدأ القرويون يهمسون إلى والدك ويرسلون أناساً إليه ليحثونه على إنجاب أطفال من امرأة أخرى، لكن والدك ظل معي ومعنا ولم يفعل مثل مستر إيزيندو الذي أنجبت له زوجته الثانية الكثير من الأطفال، وكان مصير زوجته الأولى وأطفالها خارج المنزل بلا مأوى
في المعتاد لم تكن تتحدث كثيراً في المرة الواحدة، لكن تتحدث قليلاً قليلاً بنفس الطريقة التي يتغذى بها الطائر.
نعم، يستحق بابا الثناء لأنه اختار ألا يكون له أبناء من امرأة أخرى، ولأنه اختار ألا تكون له زوجة ثانية.. ولأن بابا كان مختلفاً، فلم أكن أرغب في أن تقوم ماما بمقارنته بمستر إيزيندو أو بأي أحد آخر، فذلك يقلل من شأنه ويحط من قدره.
- ذهبوا في القول أيضاً أن شخصاً ما قد استعان بقوة غيبية حتى لا يكتمل نمو الجنين داخل رحمي
هزَّتْ ماما رأسها وابتسمت تلك الابتسامة التي تغطي وجهها كله عندما تتحدث عن أناس يعتقدون في عالم الأرواح، أو عن أقارب يقترحون عليها أن تستشير طبيبة تمارس السحر، أو عن حكايات تتردد حول خصلات شعر وعظام حيوان تلف في قطعة قماش وتدفن في الفناء الأمامي للشخص المستهدف بعمل فيه ضرر وأذى أو صد نجاح أو تقدم.
- إنهم لا يعلمون أن الله له وسائل تخفى على البشر
- نعم
أمسكتُ بملابسي التي حرصتُ على أن تتوازى حوافها المطوية.. "الله له وسائل تخفى على البشر". لم أكن أعلم رغبتها في مولود منذ أجهضت آخر مرة قبل ستة أشهر تقريباً، ولم أفكر فيها وبابا معاً في السرير الأكبر من المعتاد الذي يجمعهما.. وعندما فكرت في المشاعر التي تربطهما، خطر على ذهني كيف أن بابا في يوم قداس الأحد يضمها بذراعيه بحنان بعد أن تتصافح أيديهما.
- أحوالك في المدرسة على ما يرام؟
سألتْ وهي تهم بالنهوض السؤال نفسه الذي سألتني إياه من قبل.
- نعم
- نعدُّ أنا وسيسي طعاماً للأخوات اللاتي سيحضرن بعد قليل
قالت ثم هبطت الدرج وأنا في أثرها لكي أضع ملابسي المطوية فوق الطاولة بمدخل الرواق لتقوم سيسي بكيّها.
سرعان ما حضرت الأخوات، وبدأن ينشدن أغنياتهن بلغة الاجبو بمصاحبة تصفيق شديد بالأيدي وصل صداه إلى الطابق الثاني، وسيستمر إنشادهن لنحو نصف ساعة، ثم تتدخل ماما وتقاطعهن بصوتها الخفيض الذي لا يكاد يبلغ أعلى الدرج، حتى لو كان باب حجرتي مفتوحاً، لتخبرهن أنها أعدت لهن "شيئاً بسيطاً". عندما تبدأ سيسي في إحضار أطباق الطعام الكبيرة المسطحة تحمل الدجاج المقلي ومزيج الفاصوليا الجافة والبصل والفلفل بعد طهيه بالبخار والأرز بالخضروات، يصدر عن الأخوات عتاب رقيق لماما.
- ما هذا يا أخت بياتريس؟.. لماذا فعلت هذا؟.. ألم نكتف بما قدم لنا في منازل الأخوات الأخريات؟.. لم يكن ضرورياً كل هذا، حقيقة
- مجِّدوا الرب
ينطلق صوت حاد يؤكد على حروف الكلمة الأولى، ويطيل من أمد حروفها بأقصى ما في وسعه.. وتستجيب الأخوات "هللويا" بصوت يخترق صداه حوائط حجرتي وتهتز له قطع الأثاث الزجاجية في حجرة المعيشة. ثم بعد ذلك تشرع الأخوات في الصلاة طالبات من الله أن يبارك في الأخت بياتريس وكرمها وفي أعمال خير عديدة تقوم بها. بعدئذ تتصاعد أصوات الشوك والملاعق المعدنية عند قرعها الأطباق، فيصل مدى رجع صداها إلى خارج المنزل.
بينما يقمن بأداء صلاة الطعام، سمعتُ جاجا يصعد درجات السلم قفزاً، فلأن بابا لم يكن بالمنزل، كنت أعلم أنه سيأتي إلى حجرتي أولاً قبل أن يذهب إلى حجرته ليغير ملابسه كعادته أثناء وجود بابا.
- كيف حالك؟
سألته لدى دخوله مرتدياً زيه المدرسي المكون من شورت أزرق وقميص أبيض عليه شارة سان نيكولاس على صدره الأيسر ولاتزال آثار خطوط المكواة ظاهرة على القميص من الأمام والخلف، فهو قد اختير بالانتخاب أكثر فتيان المدرسة أناقة العام الماضي، ويومها احتضنه بابا بقوة جعلت جاجا يعتقد أن ظهره قد انكسر.
- على ما يرام
وقف إلى جانب طاولة المذاكرة وقلَّب بإهمال صفحات كتاب "المدخل إلى التكنولوجيا" المفتوح أمامي..
- ماذا تناولت في الغداء؟
قالت عينا جاجا انه كان يرغب لو تناولنا الغداء معاً.
كان سائقنا كيفن يأتي أولاً ليأخذني من مدرسة "فتيات القلب المقدس" بعد انتهاء اليوم الدراسي، ثم نذهب لإحضار جاجا من مدرسة سان نيكولاس، وعندما نعود إلى المنزل نتناول الغداء معاً. لكن جاجا الآن يحضر برنامج الطالب الموهوب عقب انتهائه من دروس يومه الدراسي. ولأن بابا قام بعمل تغيير في جدول جاجا، فلم يعد بمقدوري انتظاره لتناول الغداء معه، فعليّ أن أتناول غدائي، ثم أحصل على إغفاءة القيلولة، ثم أبدأ مذاكرتي في الوقت الذي يأتي فيه جاجا إلى المنزل.
مازال جاجا يعرف ما أتناوله على الغداء كل يوم، فلدينا قائمة طعام مثبتة على حائط المطبخ تقوم ماما بتغييرها مرتين في الشهر، ومع ذلك فهو يسألني السؤال ذاته، وفي معظم الأحيان يسألني أيضاً أسئلة أخرى إجاباتها نعرفها كلانا، في حين أننا لا نسأل تلك الأسئلة التي لا نريد أن نعرف إجابات لها.
- لدي ثلاثة واجبات عليّ أن أنتهي منها
قال وهو يستدير ليذهب إلى حجرته.
- ماما حامل
عاد وجلس على حافة سريري..
- هي أخبرتك؟
- نعم.. ستلد في أكتوبر
أغلق عينيه لفترة ثم فتحهما..
- سنعتني به.. سوف نحميه منه
كنت أعلم أن بابا هو من يعنيه، لكن لم أقل شيئاً عن حماية الرضيع.. سألته:
- كيف علمت أنه سيكون هو وليس هي؟
- أشعر بذلك، ماذا ترين أنت؟
- أنا لا أعرف
جلس على سريري لفترة أطول قبل أن يهبط الدرج لتناول الغداء. دفعتُ كتابي جانباً وتطلعت محدقة في جدول اليوم الملصق على الحائط فوقي. كامبيلي، اسم مكتوب بحروف بارزة أعلى ورقة بيضاء مثل الحروف البارزة المكتوب بها اسم جاجا بالجدول الملصق فوق طاولة المذاكرة في حجرته. تساءلتُ عن الوقت الذي سيستغرقه بابا حتى يقدم على وضع جدول للرضيع شقيقي الجديد، وعما إذا كان سيقدم على ذلك فور ولادته أو ينتظر حتى يقف على قدميه.
النظام الذي يحبه بابا يتمثل في الجداول، وفي دقة كتابتها، وفي الحبر الأسود، والشطب بالقلم على اليوم المنتهي، والفصل بين وقتي المذاكرة وإغفاءة القيلولة، وبين إغفاءة القيلولة والفترة المخصصة للعائلة، وبين فترتي العائلة وتناول الطعام، وبين وقت تناول الطعام وأداء الصلاة، وبين وقت الصلاة والذهاب إلى النوم. كانت هذه الجداول تخضع لمراجعته من وقت لآخر، فيزيد وقت المذاكرة عن فترة إغفاءة القيلولة خلال العام الدراسي، ويزيد من الوقت المخصص للعائلة والفترة المخصصة لقراءة الصحف ولعب الشطرنج والاستماع إلى الراديو في فترة الاجازة.
في يوم السبت التالي لليوم الذي وقع فيه الانقلاب، وأثناء الوقت المخصص للعائلة، وعلى إثر الهزيمة التي أوقعها بابا بجاجا فوق رقعة الشطرنج، سمعنا عبر جهاز الراديو موسيقى عسكرية ذات ألحان مهيبة جعلتنا نتوقف عما كنا فيه ونصيخ السمع. بلهجة إقليم الهاوسا، أعلن ضابط برتبة لواء عن وقوع انقلاب وتشكيل حكومة جديدة، وعن إبلاغنا في وقت لاحق اسم رئيس حكومتنا الجديد.
دفع برقعة الشطرنج جانباً وذهب ليتحدث في هاتف مكتبه، وانتظرناه جاجا وماما وأنا في صمت. كان يتحدث إلى "إد كوكر" رئيس التحرير، ربما ليخبره شيئاً عن الانقلاب. بعد أن عاد إلينا، وبينما كان يتحدث عن الانقلاب ونتناول عصير المانجو الذي صبته لنا سيسي في أقداح زجاجية طويلة، بدا وجهه حزيناً وبدت شفتاه المستطيلتان متدليتين.
- انقلابات تفضي إلى انقلابات
تحدث عن الانقلابات الدموية التي وقعت في الستينيات وانتهت بحرب أهلية، بعد وقت قليل من مغادرته نيجيريا للدراسة في إنجلترا، وعن الانقلابات التي يقوم فيها رجال عسكريون بالإطاحة برجال عسكريين آخرين، لأنهم في استطاعتهم القيام بذلك، ولأن رؤوسهم جميعاً تلعب بها خمر السلطة.
بالطبع، أخبرنا بابا عن فساد رجال السياسة وعن القصص العديدة التي كتبتها صحيفة "ذي ستاندرد" حول وزراء بالحكومة قاموا بتهريب الأموال إلى حسابات سرية في بنوك أجنبية، تلك الأموال المخصصة لدفع رواتب مدرسي المدارس ولشق الطرق.
- حكم العسكر ليس هو ما نحن النيجيريون في حاجة إليه، وإنما نحن في حاجة إلى الديمقراطية الحقيقية
طريقة نطقه لعبارة الديمقراطية الحقيقية أوحت لنا بأهميتها، لكن مع ذلك بدا معظم ما قاله مهماً، بينما هو يميل إلى الخلف وينظر إلى أعلى ويتحدث وكأنه يبحث عن شيء ما في الهواء.
كنت أركز النظر في حركة شفتيه وأنسى نفسي أحياناً، وفي أحيان أخرى أجدني أريد أن أظل هكذا إلى الأبد، استمع إلى صوته وإلى الأشياء المهمة التي يقولها.. نفس الشيء كنت أستشعره عندما يبتسم وينفتح وجهه مثل ثمرة جوز هند تنفتح عن لحمها الأبيض الناصع.
في اليوم التالي لوقوع الانقلاب، وقبل أن نغادر لنلحق بأمسية منح البركة في كنيسة سان آجنيز، جلسنا في حجرة المعيشة وقرأنا الصحف التي يحصل كل منا على أربع نسخ منها كان البائع يأتي بها إلى المنزل كل صباح بناءً على طلب بابا. قرأنا أولاً صحيفة "ذي ستاندرد" لأنها الوحيدة التي بها افتتاحية مهمة تدعو الحكومة العسكرية الجديدة إلى الإسراع بوضع خطة لإعادة الديمقراطية في نيجيريا. بصوت عال قرأ بابا مقالاً في صحيفة "نيجيريا توداي" وعمود رأي لكاتب آخر أصرَّ بأن الوقت قد حان لوجود رئيس عسكري بعد أن أصبح رجال السياسة خارج نطاق السيطرة وأضحى الاقتصاد في مأزق.
- صحيفة "ذي ستاندرد" لا تكتب أبداً مثل هذا الكلام
قال بابا وهو يلقي بالصحيفة من يده..
- من الخطأ أن تخاطب الرجل بالرئيس
قال جاجا: "الصواب هو رئيس الحكومة"
ابتسم بابا، وتمنيت لو أنني سبقت جاجا فيما قال.
- افتتاحية صحيفة "ذي ستاندرد" جيدة
قالت ماما. أضاف بابا رافعاً يده في زهو أثناء تصفحه صحيفة أخرى:
- ببساطة، "كوكر" هو الأفضل
- تغيير الحرس.. أي عنوان هذا.. إنهم خائفون جميعاً، لذا يكتبون عن فساد الحكومة المدنية، وكأن لسان حالهم يقول إن الحكومة العسكرية لن تكون فاسدة.. هذه البلاد تسلك طريق الانحدار
- الله سيحفظنا
قلت وأنا أعلم أن بابا سيحب قولي هذا.
- نعم، نعم
قال بابا وهو يهز رأسه إلى أسفل، ثم فرد ذراعيه وأمسك يدي وعندئذ أحسست بطعم السكر في فمي.