القاهرة 30 اكتوبر 2014 الساعة 11:02 ص
هل يورث المبدع حين يموت تاريخه وموهبته والحق في استخدامهما، إضافة إلى تركته المادية والمالية، إلى ورثته الشرعيين، لا سيما إلى أبنائه؟ وفي معنى آخر، إذا كان من حق الأبناء - أو غيرهم من الأقارب - وراثة المبدع الراحل من الناحية المادية - حقوق إبداعه، مكتبته وأدواته الإبداعية وصولاً إلى منزله وكل ما يمت إلى الأمور الدنيوية بصلة -، هل يحق لهم أن يزعموا الحق في وراثة الباقي: روح الأعمال الإبداعية نفسها، المواضيع، التاريخ والذكريات، ناهيك بالحق الحصري في الكتابة عن الراحل، أو تحقيق أعمال فنية عنه، وصولاً إلى منع الآخرين من ذلك؟ اعتاد هذا النوع من الأسئلة أن يفتح سجالات كثيرة، تصل في بعض الأحيان إلى المحاكم وتخلق عداوات ومواقف... بل تهديدات بالتدمير والقتل في بعض الأحيان. ومثل هذا نشهده كثيراً منذ زمن في عالمنا العربي، مع اشتداد حمى اهتمام السينما والتلفزة - خصوصاً - بسير بعض الكبار الذين مروا في تاريخنا - جبران أو أسمهان أو مي زيادة مثلاً -، وبروز مشكلات دائمة مع الأهل والورثة الذين يتنطحون وقد سال لعابهم غالباً، معلنين أنهم أصحاب الحق وسلطة السماح والمنع، مع أننا نعرف أن معظم المبدعين الذين تطرح أسماؤهم في هذا المجال، غالباً ما كانوا ضحايا عائلاتهم قبل أن يكونوا ضحايا أي فن أو أي مجتمع. طبعاً الحديث عن هذا الموضوع يطول، ونحن ما أشرنا إليه هنا إلا كي نعود نحو قرنين ونصف القرن إلى الوراء حيث تطالعنا قضية من هذا النوع، لم تصل إلى المحاكم يومها، لكنها أثارت اشمئزاز الرأي العام، الأدبي، من دون أن تكون قضية حقوقية. فهي لم تَعْدُ، في ذلك الحين، كونها مسألة فكرية. ولكن مسألة فكرية ذات وزن. والمسألة تتعلق بالكاتب المسرحي جان راسين، لكن صاحبها هو ابن هذا الكاتب، لوي راسين، الذي أصدر عام 1747، وبعد موت أبيه الكبير بنحو نصف قرن، كتاباً سماه «مذكرات لوي راسين»... لكنه كان في الحقيقة كتاب مذكرات عن جان راسين، الأب الذي بالكاد كان الابن عرفه أو عايشه، إذ كان طفلاً حين رحل. ومع هذا أصر الابن يومها على أنه إنما يؤلف كتابه عن جان راسين وأن الكتاب «مملوء بالحقائق التي لا يملكها أحد غيري»، هو الذي قال عن نفسه حين اشتد الجدال: «فليقل الآخرون ما يشاؤون، أما أنا فإنني مؤرخ صادق... وهذا الكتاب سيجعل الناس الشرفاء يقدرونني حق تقدير». ولم يكن هذا صحيحاً... لأن الحياة الأدبية الفرنسية كلها وقفت في ذلك الحين ضد الكتاب معتبرة إياه موتاً ثانياً للكاتب المسرحي الذي يفخر به الفرنسيون فخر الإنكليز بشكسبير.
> يحمل كتاب لوي راسين عنواناً ثانوياً هو: «تحتوي هذه المذكرات على بعض الخصوصيات المتعلقة بحياة جان راسين وأعماله». غير أن هذا التعريف لا يجب أن يخدع أحداً. فالكتاب لم يكن في نهاية الأمر سوى كتابات عائلية وجدانية بالكاد تبدو علمية أو ذات علاقة حقيقية بأدب راسين وكتاباته المسرحية. ومن هنا وقف النقاد والمؤرخون بقوة ضد هذا الكتاب، غير أن بعض الأكثر إنصافاً من بينهم لم يعجزوا عن أن يجدوا في النص روحاً رأوا أنها تكاد تكون منتمية حقاً إلى روح راسين الأب، وعبّر عنها الابن بلغة شفافة تجعل الكتاب يُقرأ بشغف من دون أن يتوخى منه قارئه أية إطلاله حقيقية على أدب راسين. بل وصل البعض إلى القول أنه إذا كان معظم الذين درسوا راسين وتعمقوا في مسرحياته، انتهى بهم الأمر إلى تصويره على أنه كاتب موضوعي عقلاني يفتقر إلى الروح والعاطفة، فإذا بكتاب ابنه هذا يأتي ليكشف عنه إنساناً ذا روح وعاطفة، حتى من دون أن يربط هذين بكتابة من الواضح أن الابن لم يفقه منها شيئاً. من هنا قال كثر يومها أن قراءة هذا الكتاب تصبح ضرورية لمن اختتم قراءته لراسين فأدرك من خلالها تجديداته المسرحية وعلاقة المسرح بالتاريخ، لكنه ظل يبحث عن الكاتب في ثناياها فلم يجده... وها هو واجده الآن في النص الذي نتحدث عنه هنا.
> هو إذاً، كتاب عائلي صيغ بنبرة ألفة عائلية، وبحب كبير لرجل صوره الكتاب طيباً مع عائلته يعطيها من الوقت ما تحتاج، ولا يحاول أن يشغل بالها بهمومه العملية أو الإدارية أو الإبداعية. ولعل ما يلفت النظر، حقاً، في هذا الكتاب، هو أمثَلة الكاتب لأبيه إلى درجة أنه غض الطرف عن أية خبريات أو حكايات قد تطاول سمعته، كما أنه أعطاه الحق كل الحق في كل المنازعات التي بقيت في التاريخ ذكرياتها، وكان من الطبيعي للمؤرخين الموضوعيين، سواء كانوا من مناصري راسين أو من مناوئيه، أن يوزعوا الحق والمسؤوليات حين يتحدثون عنها. هنا، في هذا المجال، رأى لويس راسين أن من حقه أن يؤكد أن أباه «دائماً على حق». وكان هذا الأمر طبيعياً فالابن لا يمكنه أبداً أن يرى أن أباه كان يمكن أن يكون مخطئاً، حتى بعد عشرات السنين من القضية المثارة. وهذا ينطبق أيضاً على مقاطع كثيرة من مراسلات جان راسين التي نشرها الابن في ثنايا كتابه، حيث نراه يختصر تلك المراسلات ويشطب منها ما يريد شطبه. وفي هذا السياق أيضاً، لن نجد في «المذكرات» هذه أي ذكر لبعض علاقات راسين، التي كانت معلومة للجميع في زمنه، ومنها بخاصة علاقته مع السيدة دوبارك والسيدة شامسليه. وكأن الابن رأى أنه حين يغض النظر عن هذه الأمور فإنه «يبيّض» صفحة أبيه، غير مدرك أن السكوت عن أمور ومسائل معروفة إلى هذا الحد، يفقد الكتاب كله صدقيته. ومن هنا إذا كان الكتاب قد طُبع وقُرئ، فإنه لا يطبع ويقرأ إلا كنص طريف ممتع ربما يصح القول إنه عن شخص خيالي اخترعته مخيلة الابن، لا أكثر ولا أقل... ذلك أن جان راسين في كتاب «المذكرات» هذا هو شخص مختلف كل الاختلاف عن جان راسين الكاتب الذي نعرف.
> ومع هذا كله يبقى أن بعض أجمل صفحات هذا الكتاب، إنما هي تلك التي ينقل فيها لويس عن أبيه، وربما بقدر كبير من الأمانة - هذه المرة - رأي هذا الأخير في أعماله نفسها، وما جرى على لسانه من حديث عنها، أو عن ردود الفعل التي جابهت عرضها حين عرضت. وهذه الصفحات تأتي هنا لتكمل ما يعرفه الباحثون عن آراء راسين من خلال رسائله المعروفة والمنشورة، والتي كان يحرص في معظمها على تسجيل مثل تلك الآراء. ونذكر هنا أن لويس ينقل الآراء غالباً عن أفراد آخرين من الأسرة. ومن ذلك ما يقوله مثلاً في إحدى الصفحات من أن أبيه كان يقول لأخيه الأكبر: «أنا لا أخفيك أن المرء حين يكون خائضاً حمى الكتابة، لا يكون دائماً راضياً عن نفسه... ولكن بعد ذلك حين يصل عمله إلى الآخرين، لا يطلب منهم سوى التصفيق. إنه ليحدث لي كثيراً، يا بني، أنني أحزن لأقل نقد يوجه إليّ، ومهما كان سوء مستوى كاتبه، أكثر بكثير مما أفرح لكل ضروب التقريظ التي أنالها».
> إذاً، يبرز أمامنا جان راسين (1639 - 1699)، في هذا الكتاب، شخصاً أكثر حميمية، من ذاك البارد الذي تظهره الدراسات التاريخية. ولعل هنا يكمن العنصر الأساس والأجمل في هذا الكتاب الذي وضعه لويس راسين (1692 - 1763)، ابنه الذي لم يكن تجاوز السابعة من عمره حين مات الأب. ونعرف أن جان راسين يعتبر إلى جانب كورناي وموليير، أحد الثلاثة الذين جعلوا للمسرح الفرنسي كيانه في زمن لويس الرابع عشر، راسين وكورناي في الدراما، وموليير في الكوميديا طبعاً. ومن أهم أعمال جان راسين: «اندرماك» و «فيدرا» و «استير» و «بريتانيكوس» و «ميتريدات»، بين أعمال أخرى لا تزال تعتبر حتى يومنا هذا من شوامخ الكتابات المسرحية في تاريخ فن الخشبة.