القاهرة 28 اكتوبر 2014 الساعة 01:28 م
الثورة وليست الحركة.. الجمھورية الثالثة وليست الثانية
الجمهورية الأولى في التاريخ المصري بدأت بعد ثورة يوليو 1952
والجمهورية الثانية إستندت إلى شرعية حرب اكتوبر 1973
والجمهورية الثالثة تستند إلى شرعية ثورة 25 يناير 2011
( 1 مارس 2011 )
الحقيقة الكبرى في تاريخ مصر الحديث ، أن الشعب ھو صانع الأحداث ، حين قرر أن يقول كلمته ويمتلك مصيره ، ويفتح أفق المستقبل أمامه ، وفي لحظة تاريخية سوف تظل شاھدا على كتابة شھادة ميلاد مصر من جديد ، مع عودة الروح إلى الوطنية المصرية الجامعة ، وإستعادة أمل غاب طويلا وراء السحب الداكنة التي تكاثرت في سماء مصر .. وبعد أن خرج الشعب المصري كله، بأجياله ، وبطبقاته ، , وبطوائفه ، , يمسك بالشرعية في يده ، في ھذا المنعطف التاريخي ، يجسد
حلم خلاص مصر ، ويفرض إملاءاته لترتيبات المستقبل..
وأصحاب ھذه اللحظة التاريخية من شباب وجماھير شعب مصر، خرجوا من أجل ثورة كاملة، ويرى أو يريد الآخرون أن تكون مجرد حركة ، يريدونھا حركة احتجاج وتمرد على أوضاع قائمة، وليست ثورة للتغيير الشامل والعبور إلى العصر العالمي الجديد.. والحركة تنتھي بمجرد تصحيح أوضاع مرفوضة، أما الثورة فھي حركة متواصلة للتغيير والنھضة، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا .. والحركة محدودة الأھداف ، وتظل محصورة أو محاصرة في نطاق المطالب الإصلاحية وتنتھي عندھا. . أما الثورة فھي تغيير شامل وعام ، وتتجاوز تصحيح الأوضاع القائمة إلى ما ھو أبعد ، ومما يقتضي تحولات سياسية كبرى في الفكر والفعل ، وتحولات إجتماعية وإقتصادية ، وأن يستعيد الوطن الروح الوثابة التي تفتح أبواب المستقبل ، كما أن زمن الثورة متواصل بالتغيير.. ونفس الرؤية تقريبا ، طرحھا الآخرون مع ثورة 23 يوليو 1952 وقالوا إنھا حركة الضباط الأحرار للتطھير، ولكن رؤية عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين ، كانت رؤية ثاقبة ونافذة ــ وقتئذ ــ وتستشرف آفاق المستقبل ، حين أطلق على الحركة " ثورة" وھو ما حدث بالفعل على أرض مصر.. وبالضرورة فإن ما يتحقق بفعل الثورة يحتاج إلى سنوات ، ولكن انطلاق الثورة نفسھا يحتاج إلى لحظة تاريخية..
وحتى المشير طنطاوى نفسه ــ رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة ــ كان حائرا أمام المشهد ، وهو يسأل الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل : هل هذه ثورة أم بماذا تصفها ؟! وقال له : ما حدث "حالة ثورية " لكن لايوجد برنامج ولا قيادة ، ولابد من الإنتقال إلى وضع مختلف ، وأنت لاتملك الشرعية بل ضامن لها ، او مؤتمن عليها ، وفي لحظة ما ستقوم بتسليمها ..
وأصحاب ھذه اللحظة التاريخية من شباب وجماھير شعب مصر، ومع الخروج الكامل ولأول مرة في التاريخ الحديث ، وقالوا كلمتھم بصوت ھادر وقاطع ، كانت شرعية الملايين تفتح الطريق للتاريخ مع الجمھورية الثالثة ، وليست الجمھورية الثانية كما يرى أو يتصور البعض ، وھي رؤية لا تأخذ في تقديرھا الأبعاد الجديدة في الفكر السياسي الحديث لشكل المتغيرات التي تعيد تشكيل حاضرالمستقبل..
• والجمھورية الأولى في التاريخ المصري ، بدأت مع ثورة يوليو 1952 التي ارتكزت على مفھومين أساسيين ھما : تخليص الوطن من قيود الاستعمار والاستغلال ، ورد الاعتبار إلى الشخصية المصرية ، ثم بدأ التغيير الشامل والعام سياسيا واقتصاديا واجتماعيا .. وتحددت ملامح الجمھورية الأولى بعد سقوط الملكية ، وانھيار الفوارق الطبقية والاجتماعية الرھيبة ، والانحياز للفقراء ، وتصاعد حركة ودور الطبقة الوسطى ، وسيادة العدالة الاجتماعية ، وأن تمارس مصر دورھا الفاعل والنافذ في محيطھا العربي والأفريقي ، ويمتد التأثير إلى دول العالم الثالث ، ومع نھضة ثقافية وفنية ساھمت في تشكيل وجدان المواطن العربي.. والجمھورية الأولى التي إستندت إلى شرعية الثورة ، كان لھا منھجھا ورؤيتھا وفلسفتھا الاقتصادية والاجتماعية ، وثوابت ومواقف سياسية تحدد مسار العلاقات العربية والدولية..
• والجمھورية الثانية إستندت إلى شرعية حرب أكتوبر 1973 وإنحرفت 180 درجة عن مبادئ وثوابت ورؤية وفلسفة الجمھورية الأولى ، وحدثت التحويلة الكبرى باتجاھات مغايرة تماما ، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ، ومن فكر اقتصادي إشتراكي ، إلى فكر اقتصادي مختلط ، لا ھو رأسمالي ، ولا ھو اشتراكي ، وبدأ الانحياز واضحا لطبقة الأغنياء ، وتصدعت التركيبة الاجتماعية المصرية ، وإنھارت الطبقة الوسطى ، وغابت العدالة الاجتماعي ، وتراجع دور مصر العربي والإقليمي ، وحدث خلل كبير في الفكر السياسي المصري، ومن موقف عدم الانحياز إلى الانحياز للغرب ، وجاءت الخيارات السياسية تفتح الأبواب لتدخل الغرب ، وأن تختل رؤية المصالح الحيوية .. وتحددت ملامح الجمھورية الثانية بتغييرات شاملة للأوضاع الاقتصادية ، والمواقف السياسية ، والحالة الاجتماعية.. وشھدت الجمھورية الثانية ولادة التجربة الحزبية ، وھي أحزاب لم تولد ولادة طبيعية ، بل جاءت كلھا بولادة قيصرية ، ولأنھا ولدت في أحضان النظام فقد ظلت منھكة ، ولم تواتھا الفرصة أو لم تواتھا الشجاعة لإثبات وجودھا وفاعليتھا ... وفي العھد الثاني للجمھورية الثانية ( مع حكم مبارك ) كانت الصورة الحاكمة للجمھورية الثانية ، ھي جمھورية الفساد ، مع إستمرار صورة الحاكم " الفرعون " الذي لايرحل إلا بالموت !!
• والجمھورية الثالثة والتي تستند إلى شرعية " ثورة 25 يناير 2011 " لا تزال في مرحلة الولادة الجديدة ، وإن كانت ملامحھا قد حددتھا مطالب الشرعية الشعبية ، بالنظام الرئاسي البرلماني ، وتأسيس نظام دستوري ديمقراطي يحد من نفوذ السلطة التنفيذية على كل السلطات ويضمن كل الحريات الديمقراطية والاجتماعية للمصريين ، وھو ما لن يتحقق إلا بتغيير النظام الرئاسي أو النظام الجمھوري المختلط إلى الجمھورية البرلمانية ، ومع تحديد زمن ولاية الحاكم ، وإجراء إنتخابات تعددية حقيقية و نزيهة لإختيار الرئيس ، وهي بداية ترتيبات جديدة تفتح الطريق لوضع جديد ، ميلاد الجمهورية الثالثة .. بداية مرحلة جديدة في التاريخ المصري المعاصر مع الجمهورية الثالثة والتي بدأت بمؤشر له دلالاته ، بعد أن أصبح لدينا في مصر ولأول مرة "رئيس سابق " على قيد الحياة ..
وصحيح ھناك مخاوف من بوادر إنقضاض على الحق البازغ في مصر ، ومن ھجوم مضاد للثورة ،
أوالإلتفاف حول مطالب الثورة وإجھاضھا في نھاية المطاف ، ومن قوى لھا مطالبھا ومصالحھا من
زمن جمھورية الفساد ، ومن عوالق وطحالب إحترفت ثقافة النفاق والتزوير .. ولكني لا أتصور أنھا تستطيع تحدي إرادة الشعب الحر ، والحلم المقدس لمستقبل أفضل تستحقه مصر.