القاهرة 23 اكتوبر 2014 الساعة 04:29 م
لقيتها فوق جسر على نهر،فأخذتني في دفء قلبها الراجف وجرت من رياح توقعتها حين رأت وجه النهر عكرا وهادرا. قبل أن أتحقق من ملمح العينين والشفتين دخلنا بين جموع الناس الذين تحدثوا بلهجات عدة ولغات مختلفة . هالني تعدد الأزياء .
اختلط علىّ العصر الذى أعيش فيه ، فأمسكت بيدها النحيفة مقلمة الأظافر ، بها رعشة باردة . أطبقتُ بقوة ، وانفلتنا إلى جسر آخر . ابتسمت ، لمعت نظارتها فضحكت عيناها ، فتحت معطفها فانتفض صدرها حياة ، وتنفسنا هواء النهر . انعكست عيونها في الشمس فضوت الشمس بلون لا أعرفه ، غير أنى رأيت شعرها الأسود المحمر أكثر احمرارا كأنه خلق وحيد ، ثم سألتني فجأة ما اسمك ؟ أخذتني اللحظة في دهشة إذ اكتشفت أن كلينا لم ير الآخر من قبل . قلت لها : لكن كل منا يعرف الآخر . أطبقت بيديها الباردتين على وجهي النحيف الساخن ، قالت : لست آخر . قلت لها : كنت في حجرة فوق سطح أنعم بحياة واسعة ، أكتب قصصا لا يقرؤها النقاد ، قالت : لكن جدتك قاسية . قلت : درجات السلم كانت عالية وقلبي الطفل يفرح بعنقود العنب ، ثم انقطعت عنى الحياة بدون وداع . أشارت إلى لوحة كبيرة للشهيد ، أكدت : بديعة الألوان . أضفت : ليست كاذبة . سألتني : ألا تحب المغامرة ؟ أجبت بأنني أخاف لأن القدر يترصدني ، وأردفت : أعرف أن الحياة ستتركني وترحل .. غير أنى لست راحلا عنها . كادت تدمع ، أخرجت مناديلها الورقية ، تبعثرت أرقام هواتفها . خلعت نظارتها فلم أر سوى عينين ، قالت بهدهدة : ليست مغامرة حب ، إنها مغامرة تذوق الطعام . جلسنا تحت شجرة لها رائحة اللوز قالت : ما رأيك في عيني ؟ لم أقل أنهما بديعتان وأنني بالتأكيد أعرف هذه البنت من زمن بعيد . وددت لو سألتها لماذا التقيت بها وكيف ؟ وما كنت أقصد غير أن أعبر من ضفة لأخرى عبر ذلك الجسر الذى لقيتها عليه . قالت : أتعرف .. كنت أسألك أسئلة هامة تاريخية وكنت أنت تعرد عليها كأنك تحفظ الإجابات ، كنت تنظر أنت في عيني أنا فأصبت القلب ونسيت أنا الأسئلة. انهمرت في البكاء ، مددت يدي مسحت بعض الدموع ، ثم مكثت في قلبي . لامست يدي وجهها بحنان لا أعرفه فيا ، همست : حنانيك . تلمست قرطها الفضي ، تحت ذقنها دفء غامض ، وفى الرقبة عقد من الفضة وحول المعصمين تلألأت الفضة . أنا طفل هذه الفضة، أحلم بالسباحة في مياهها . قالت : ستأكل الآن . كل أنواع الأكل التي أحضرت لم أعرفها في حياتي المملة ، بمهل استسغت الطعم والرائحة ، ثم أعطت لي خرزة " السلوانة" نقعتها تحت المطر ، وشربت من مائها ، تبادلنا مص الخرزة وأصبحنا أصدقاء .
كنا بأيام البرد ، ترتدي معطفا وأرتدي ملابس ثقيلة ، درجة الحرارة 4 ، الحرب توقفت والقصائد لم تتوقف . كانت لم تصح بعد من نزلة البرد ، وكنت لم أصح بعد من هموم حياتي الثقيلة ، ومن السماء رهام يداعبنا فنخلع نظارتينا.
ارتدت فستانا جديدا وجوربا ونام على صدرها طائر الفضة . ارتديت بدلة جديدة ، حذاء جديدا ، جوربا جديدا ، وقميصا جديدا ، وكنا لا نعرف أننا سنلتقي ولما رأت الدنيا على هذه الحال تنفست الصعداء ، قالت بفرح من هرب من قبضة أبيه : يمكننا الآن أن ننزل المدينة ، ونزلنا .
في البداية ارتعشت كطفل خائف في زحمة السوق تسرب إلىّ الدفء ، رفعت رأسي للفسيفساء العربية ، لكنها جرتني من يدي ودخلنا المحلات لنتفرج على صورنا المعكوسة في المرايا تبص علىّ وأبص عليها ، هل يمكن أن نظل أصدقاء ؟ إننا أصدقاء من زمان ، وضوت الفضة بابتسامة جذلة ، مشينا في السوق ذي البنايات العالية الذى يحاكى التاريخ القديم ، وحين انعطفنا بالكاد سمعت صرختها الهلعة ، قبضت على كتفها ، شددتها إلىّ تحولت إلى طفلة مذعورة فأخذتها في حضني . أشارت قائلة :ها هم .نظرت لم أر أحدا . رددت بصعوبة بالغة : ها هم . لم أر سوى مدية تضوي في زحام السوق بين السيقان والسراويل والجلابيب تضوي وتنطفئ . انحرفنا ودخلنا مشربا ، شربنا القهوة باللبن بدون سكر ، حكيت لها عن أطفال أعرفهم ولا أعرفهم وظللت أحكى عن يد طفل صغير رقيقة . دفأت يدها وتدفأ صدرها وتدفأ قلبي وغنت مطربة الشام أغنيات متوالية، غنينا بشجاعة كالجنود أغنياتنا العاطفية بحماس الأناشيد حتى انتهينا لمكان منعزل عن كل القارات . خلعت جوربها وقلبها ، وخلعت خوفي ، أسندت وجهها بين يديها وحدثتني عن الأبواب المغلقة والواحد الذى يقيم عليهن خوفا وصمتا ، وحط الليل بكل ثقله وارتجفنا .
أبلج الصبح فجلسنا في المشرب الزجاجي ، جلسنا بجوار الجدار الزجاجي، لم أشاهد أي شئ من خلاله لأنني كنت مشغولا بها . في لحظة ما مر شخص لم ينظر إلينا ، لم يكن بيده مدية ، غير أنى ارتبت في أمره وعندما تابعت من في المشرب رأيتهن كلهن نساء وينهنهن . تسحبنا وخرجنا ، اكتشفت فيما بعد أن المشرب لم يذع أي أغنية أن الطقس مال للدفء ، وان الماشين رموا بمعاطفهم على الطوار. قلت لها ساعات وسأرحل ، قالت : لا تتكلم عن الوداع ، ولتكن الساعات سنوات ، بلا أعياد ميلاد بلا أجراس ، ونحن لا نحب "بابا نويل" أعطيت لها بطاقة تهنئة لكل الأعوام القادمة على ورقة من بردى تضيئها ألوان عديدة وزهرة حمراء لم يلحظها سواي ، واتفقنا ، سألتني أنا الغريب عن قارتها: ماذا أبغى من بلاد غريبة ؟ قلت : أنفاسك تكفيني ، رنوة واحدة من عينيك ، انعكاس فضتك ستحط في القلب طائرا لن يبرحه . قالت : أنت طيب .
كانت الأشجار واقفة ، والهواء باردا والبنايات عالية والشوارع خالية ، كنا وحيدين سعيدين نبحث عن مكان . سألتني : هل يمكنك أن تعبر البحر ؟ قلت : نعم . أن تعبر السماء . قلت : نعم، قالت بسخرية أنت لا تعرف مشاكل جوازات السفر ، نحن البنات ربطنا إلى شجرة زرعها أبى لتظلل علينا ، كلهن استمتعن بالظل ، لكنني تعذبت ، لم أعد أحب حتى ثمار هذه الشجرة ، وهم تحولوا إلى خوذات حرب ، أو جاهرين بالشعر الكاذب . هل تبادلني العملة ؟ تبادلنا العملات ، اختلطت هذه التي فوقها نسر ونخل وهرم وقادة . جلسنا بجوار "المتنبي " نتكلم عن "ماركيز "، بينما المطر قد أغرقنا تماما ، وبينما الشوارع خالية جاء هو ركضا ركضا . انكمشت ، وتمنيت لو يأتي إلىّ وتفرغ الحكاية ، تحسستُ جواز سفري والطائر الفضي الذى حط في قلبي ، وانتظرته تحت المطر ، شعرتُ ببرودة النصل ، فردت ذراعي تشنجت أصابعي ، لكن صوت ركضه خفت وخفت ، أمسكت بيدها الباردة ، قالت : اختفى .. ألم أقل لك . تمتمت : لكننا لم أر المدية هذه المرة.
أخذتها في دفئي ، أخذتني في قدرتها الفائقة على نقل الحدث إلى نقيضه ، تمسح دمعتها لتضحك بصوت عال كأنها تشتاق للضحك ، تربت علىّ وتقول : لا تخف ليس هنا رجال . دخلنا المشرب ، في الحقيقة بحثنا عن حل يحتوينا بلا جدوى بحثنا عن مكان بلا نوافذ عبثا ، لأننا بالطبع لم نكن الوحيدين في هذا البلد ونحن نشقى في هذا البلد ، علينا أن نفرح باحتراس ، شربنا القهوة في المشرب الخالي ، هي خافت وظنت أنه مصيدة ، جاء النادل ، قدم لنا القهوة التي شربناها في ساعات طويلة.
لا أعرف بالضبط متى طلعت الشمس ، فقد هزني هاتف الفندق لننزل لنشاهد قمة الانتصار .. قم .. فقمت ، أخطرني الهاتف أن الساحة مزدحمة وأنهم يحملون الصور ، وأن مصير العالم سيتقرر في لحظات وعلينا أن نقتنص اللحظة ، فهربت بلا إفطار ، سألتها : لماذا يتبعونك ؟ ردت بدهشة : لا يتبعونني .. إنهم يتبعوننا . اخترقنا السوق الذى يشبه تماما الأسواق القديمة في الكتب القديمة ، وخرجت علينا روائح الزمن العربي . درجة الحرارة 16 وأنا في الشمس لا أخاف وأفرح كطفل حتى لو داهمني الموت . أكلنا في الشارع وشربنا المرطبات في الشارع وتبادلنا الآراء واتفقنا على أشياء محددة في الشارع .قالت : تعال لأعرفك عليه . كان يجلس في طيبته الموروثة ، حين رآني بش وجهه ، خرج من وراء الطاولة ، احتضنني وقبلني قال :أنه انتظرني زمنا طويلا وأنه حكى عنى لأبنائه جميعا . أنا الذى لا اعرفه أحببته ، نظرت في عينيها فرأيته أنيسا وليس منهم ، طلبنا الشاي ، وعندما انتهينا من الترحاب وجدتني محاطا بالتحف.. الشمعدان القديم ،والأطباق المرسوم فوقها ، والأكواب ، والوجوه المحطمة ، والساعات القديمة كانت تدق أحانا لا أعرفها بها نواح وشجن ، لف على ذراعي تعويذة من الفضة لتحميني ، كانت من قبل قد دافعت عن الوطن على ذراع قائد ، وإذا بها تحوطني من وراء وتحوط ركبتي بقلادة من فضة اختلط عليها التاريخ " حمورابى " يكتب قوانينه والفلاح الفصيح لا يطالب إلا بحماره وموحد القطرين كان يائسا .
ركزت على ركبتيها ، قربت من عيني زجاجة ذات عنق طويل لها لون البنفسج ، نزلت إلى الأرض ، ركزت أمامها فأضحى لون الزجاجة لون عينيها تهدج منها الصوت : ماذا ترى ؟ رأيتُ السفن في بحار خضراء ، مناديل البكاء ، النخيل مقطوع الرؤوس، والأطفال الذين أعرفهم طالعونى لوحوا لي بأيديهم ، يريدون رجوعي ، جذبوني من ياقة قميصي ، اهتزت نظارتي وتوترت ، قبلت أصغرهن ، لوحت لها بيد مرتعشة . قالت لي وأنفاسها تلفح الوجه : ماذا رأيت ؟ رأيت عينيك . كان الرجل ودودا ، صاح : افتح يديك ، وضع فيهما عملات لم أرها من قبل ، لكن عليها نفس الملوك الذين زوروا تاريخنا ونفس الأميرات اللاتي حكمن خيالاتنا قرونا طويلة ، الأرقام المقروءة وغير المقروءة ، كان لبعض العملات رنين ، ولبعضها صوت يئن قهرا لأنهم حين اعتدوا علينا اعتدوا عليها،ورمى أمامي بالخناجر المرصعة بالأحجار القديمة ، لم يخفق قلبي إلا من مدية مهملة تلمع بحذر.
خرجنا ، فاجأنا الصيف فخلعنا ملابسنا الثقيلة ، كانت بلوزتها شفافة من تحتها يظهر لون المشد وخطوطه المشدودة وملامح الجسد المنتشي ، فرحت بها كثيرا وضممتها حتى العرق . ركنت ظهرها للنخلة صنوان في بهجتيهما نظرت إلى معجزتها البسيطة في العينين والصمت ، تابعت شهيقها وزفيرها ، صعود صدرها الدقيق برغبة جامحة للحياة ، ظللت أرقبها حتى غفت ، ونامت ، قمت وعدلت رأسها على وسادة من عشب وزهرة واحدة لها رائحة الياسمين . لم ترمش ، مدتت رجليها ، شممت عطرها ، مسحت بيدي على شعرها الذى ارتجف ثم استكان ، مررت على صدرها وبطنها وساقيها، وخلعت عنها الصندل طيب الرائحة ، ودعكت أصابع قدميها برفق ، ثم انزلقت ونمت برأسي على بطنها ، رأيت السماء زرقاء ، أطل وجه فارس قديم ، تمثال من نحاس أكله الصدأ ، بلا درع بلا رأس الحصان ، جاء الصوت من بعيد يترنم " أي شيء في العيد أهدى إليك يا ملاكي ؟ " أي شيء .. يا ملاكي .. يا ملاكي في العيد .. أي شيء .. أهدى إليك .. يا .. ونمت .
كن حولي يلعبن في سرور ، ثمة ضجيج ، كنت مشتاقا أن أحدث البحر أحاديث خاصة ، يرمينني بلعبهن وعرائسهن وحلواهن أصبر على لأوائهن ، أفتح كتابي فأرى الحروف تنشد القواميس والجملة تشتاق التحقق ، وهن تشابكن في عراك ، أخطف الصغرى ، أضمها لنفشى وفى قلبي شوق للبحر . وقعت الثمرة فوق رأسي ، فتحت عيني فرأيت ذات السماء وراية صغيرة ترفرف لكنها هاوية ناحية الأرض . كانت هي تتنفس بانتظام ، تخرج منها رائحة الصيف ، خلعت حذائي ، فككت زرار البلوزة الأول ، وتوسدت الصدر الساخن الذى انتفض ، وسمعت هدير البحر ثم تجسد صراخا وبكاء . همست للأذن المستسلمة في فمي : لا تبكى يا صغيرتي العجوز ، وحين هم النوم أن يأخذني سمعت فزعة للعشب وتخبطا في سيقان الزروع . نهضت فرأيته يختبئ ، التقت عينانا لأول مرة ، قررت أن آكله . حافيا جريت ، اصطدمت بالنخيل والشجر والحكايات المرهبة ، قفزت من برك المياه ، آلمني الحصى ، وكانوا يتناولون الغداء على الحشائش بينهم تلك المرأة العارية ، قفزت من فوقهم مثيرا على رفاهيتهم غبارا ، قلت : من لي بسعف النخيل ، من لي بالعذراء؟ جاء صوته من بعيد صافيا : "جفنه علم الغزل .. ومن العشق ." وأنا أمسح عرقي أخذت لأنني تذكرت العينين مرة أخرى .أنا أعرف هذه العيون .
كانت نائمة تحلم بأنها تلعب بجوار شجرة الهال مع الأولاد ، لم أكن رفيقها في الحلم، ثم أتت أمها ، أسلمتها بيدها الطيبة لأبيها ليضربها .كانت نائمة وصندلها مازال تحت قدميها ، لها ملامح الغجر ، وملامح الشمال ، تحت خدعة تنفسها المنتظم أعرف أنها ستنفجر بلا أمل في لحظة سيشهدها التاريخ بدون احتشاد في أي ساحة . سألتني :هل سافرت ؟ هل ركبت الطائرة ؟ خطفت منى جواز سفري ، طالعت أختامه المدورة والمثلثة. رمت نظارتها ، ووضعت كفا على عين بألم . رجعتَُ للخلف ، وهى نائمة لم تكن سوى بعض الطيور قد حطت على رأسها وهدلت ، طير حاول فقأ عينها ، رجوته ألا يفعل لأنني المسكين أحب هذه المسكينة التي سأتركها في السماء .ابتسم الطير في خبث ردد قائلا : كنت أطمع في حبة عينها . وشق قلبي واختفى .
مشينا حافيين علي العشب الذى مسته الشمس فامتلك دفء الجسد . قالت :أننا في الربيع الآن . زينت رأسها بالزهور ، وفى الصدر تفتحت وردتان بأريج الياسمين ، ورأيت نفسي صبيا ورأيت نفسي شابا بدونها فانزعجت ، رأيتني في الأربعين . عندما أصبحت في الأربعين بحثت عن ظلي لأجلس فوقه أعد أيامي الباقية في انتظار اللحظة الأخيرة حين يمد لي الموت يده فأظنه سينقذني من تعاسة وحدتي فأسلم نفسي له . في الأربعين وأنا أبحث عن ظلي سألتني هي : ما اسمك ؟ كم عدد بناتك ؟ لماذا لا تموت في عواصم العالم ؟ ما هو طعم القرنفل ؟
اكتشفت الخرزات الملونة التي تملأ جيوبي ، عرفت أنني أخبئ البنات في صدري ولكل بنت سأصنع حقيبة من الخرز الملونة . سألتني عن فلسطين فبكيت ، غير أن الزمن أنصفني وتحولت كل الدموع الخائبة إلى حجارة ، غمزت لي كهرمانة بعين فتنة ، وحولها جرار الحكايات لا تنضب . فتحت كهرمانة بابها الزجاجي ، كانت لافتة مغلق تتأرجح ، دخلنا ، ابتسمت هي ، بل ندت عنها آهة ، ربما الفرح .. ربما الخوف . لم أفتح عنوة ، إنما رويدا رويدا دخلت المكان ، به دفء وراحة ، دارت وقالت : مكاني . كان مفروشا بالسجاجيد ، مضاءً بالقناديل ، مزدحما بالتاريخ وأبهى الصور ، تحرسها العيون الخشبية ، والمدافع الخشبية ، والشعر كان مرسوما ، ولما قرأت أول بيت اختفت .
بحثت عنها فلم أجدها ، كانت العجوز ذات الضحكة المخيفة تنتصب في منتصف المكان ، حذرتني : لا تحزن فهي كثيرا ما ستضيع منك .. ولا تفرح كثيرا حين تلقاها في الأيام السبعة فلسوف يتلوها جدب طويل . غبت أمام العجوز ، متى تلبس هي الفستان الأبيض وتكون خيولها بيضاء شموعها بيضاء ،هاجمتني الطائرات ، من عل كل الأشياء تافهة الجبال والبحار والدول . قلت للعجوز : أنا راجع .قبل أن أخرج قلت لنفسي المتألمة : ينبغي أن أودعها . كنت أكذب فقد بحثت عنها بحثا مريرا تحت الملابس ، وفى أصص الورد ، ووراء الصور ، وفى التليفزيون ، وفى جرار كهرمانة ، وعندما وجدتها جرت ، جريت . أنفسح المكان فنزلت كل الشخوص الخشبية ترقص وتغنى.. التفوا حولنا بألوانهم الزاهية ورائحة خشبهم العطرة ورائحة الزيوت ورائحة التراب ، أحضروا الدفوف والطشت النحاسي وإبريق المياه وسجادة الصوف ، أخذت الربابة وعزفت كيفما أتفق ، أخذتها منى وعزفت حزنا ما ، دخل الحلقة أسد ، جرت الشخوص مذعورة ما عدا هي التي استسلمت للخوف وأنا الذى لا يخاف وأنا معها . ركزت على ركبتي ، طأطأ الأسد رأسه ، كان مصنوعا من القماش ، له ملمس الحيوان . انظري إن له عيني فتاة ، عيون مكحلة ، كأن البنت ستخرج توا لملاقاة الحبيب الذى لن تجده حيث الرحيل هو طريق الرجال . أقعى الأسد تحت رجليها ، أصيبت برعشة، وفجأة رأيت سيدة سمينة تلمع التحف الخشبية بتتؤدة ، بيد مدربة تلقائية ، وبعين التصقت بنا ، أشرت لها على السيدة السمينة ، سألتها أن نشرب الشاي . قالت السيدة : لا يوجد وأضافت : أنني أراقب عقارب ساعتي المطفأة لأغلق المكان . شدت حقيبتها وشدتني من يدي وقالت : هيا بنا . أنا هذه المرة الذى رأيت المدية بين ثديي السيدة السمينة . ظلت تشدني حتى أخرجتني من برد لتضعني على حافة الربيع ، هتفت : الدنيا ريبع . لعلها غنت بكل ما حرمت من غناء . رأيتني شجرة مورقة مزهرة مثمرة قوية بين عشب وفراشات ، ورأيتها طائرا فضيا يحط كلما شاء و يطير في فضائه كلما أراد .
تهمس أنت معي دائما ، كنت هنا حين جاء كان يريد أن يخطفني ، ولكنك كنت بيننا ، أخذتها تحت ذراعي والزحام شديد ، يتخبط بنا الأهل والغرباء ، رأيتهم يسرقون بعضهم ، ويسطون على أوراق الآخرين ، يبيعون سر الوطن ورحيقه ، يدقون أجراس المزاد على آخر ما يملكون ، أخذتها تحت ذراعي ، أخذت هي تفرجنى على صورها : هذه أنا وأنا طفلة . خبطني الشيخ وتأفف . قالت : هذه أنا وأنا مراهقة . شممت عطرها ، في شفتيها شقاوة ما . قالت : هذه أنا وأنا جامعية ، وهذه أنا وأنا أنا . خبطت في صدرها سيدة عجوز ترتدي الملابس المزركشة ، العجوز لعنت وبصقت . قالت : هذه صورة قديمة لي وأخواتي ثلاث بنات صغيرات . أنزلت ذراعي ، حملقت في الصورة بدهشة ، إنني أعرفهن ، رأيتهن من قبل ، ساخت روحي لأن البنت الصغرى المرتدية فستانا منقوشا بالورد تمسك في يدها اليسرى مدية لامعة ، ظاهرة ولا تبين ، ضحكتها لم تكن صافية ، خبط فيّ فاصطدمت ببندقيته ، وقعت منه القلنسوة ، لم أهتز لأنني كنت مرعوبا من نظرات البنت الصغرى الممسكة بالمدية ، بإصبع يرتعش حاولت الإشارة إليها، قالت : هي أنا حين كنت في العاشرة ، وهذا خنجر كنت ألهو به ، على مقبضه تمددت الأفعى ، وكان هدية لأبى من بلاد اليمن . سألتني : أتعبت ؟ أجبت : لا . مشينا على مهل ، قالت عندي سيارة ، لكنى أود أن نتعرف على العالم بأقدامنا ، ثم أردفت : أنا الآن لا أخافهم.. هل تعرف معك لا أخاف . قلت : مع أن الطريق مغلق ومفتوح على السماء . مطت شفتها . تمتمت : هي ساعتنا الذهبية التي نعيش . نسيت تماما حكاية الصور . أمسكتها من يدها اليمنى فوجت بكل إصبع خاتما من خواتم الزواج. لم أدهش ولم يمسسني الأذى ، فقط كنت سأسأل فقالت قبل السؤال : هذه مجرد تجارب وحين أنّت أصابعي الخمسة اكتشفت أنى خدعت كل هذه المرات وكانت الخواتم قد ضاقت على أصابعي فلم أستطع الخلاص منها . انفعل وجهها وعقدت حاجبيها ، قالت بصوت حاد : لا تظن أنني تزوجت ، كما أنني لم أحب ، بحثت عنه فلم أجده ، وكانت النهايات مدهشة أما الموت فكان سجنا أو هربا أو قتلا . هب علينا الخريف ، واحتمينا بالسيارة ، تعرفت على ملامحها من جديد . طول قامتها ومحيط الخصر ، انتهزنا يوما مشمسا وشاهدنا بقايا الحضارات المعروضة في علب زجاجية ، ودخلت بها البناية الأثرية العالية ،الأروقة خالية وفصول الدروس شامخة ، نفسا لنفس أصبحنا . لا فرار منها . تمكن الطائر منى وصرخت باسمى ، وخرج اخناتون من النقوش يتلو : أيها الخالق لبذرة الحياة في النساء . مرت الثواني منذ لقيتها على جسر كمئات الأعوام و معرفة ملايين السنين و ما غرس في الروح من أنين . زعقت : يا حبيبي . كالتي تنادى في البرية ، دثرتني بردائها الوحيد ، وقفلت بابها علىّ تجفف عرقي سبع سنوات طوال. مرضت وحللت دمى فوجدتها فصيلتي . قالت العجوز : أن عمري قصير وأنها دم حياتي .
تفضي الطرقات الخالية إلى خلاء، وما توهمته سكونا قطعته أصوات لحيوانات شرسة ، لم أشأ القول . وقفت ، بصت في عيني ، وهمست بصوت لم يبرح قلبي حتى الآن : ستوحشني . للسيارة جنون خاص وظلمة ممتعة ، تتحول الكائنات لكائن واحد ونفس واحد ومصير واحد ، لم أكن أعرف عذوبتها هذه ولا ضحكتها هذه . تكاد السيارة تطير في السماء السوداء لترتطم بالمصابيح الصفر ، والموسيقى تهدر عالية . ماذا لو هوينا؟ ماذا يضير الشاة بعد ذبحها ، خلت الساحات والميادين . بهتت الصور ، ولا يلمع في الكون سوى لون أحمر شفاه ، وأصبح للحياة طعم الموت الجميل فاستسلمنا للسيارة التي تمضى وحدها من ظلمات لنور ، غير أنها شهقت عندما اصطدمت السيارة بالأرض ،وفتح الرجل الباب ، وطلبوا منى جواز السفر . مدت يدها هنيهة ، واختفت اختفاء نجمة واهنة وراء السحب . وهم أتموا معي الإجراءات بخشونة وفظاظة فتشوا جيوبي وصدري ، انتزعوا كل ما ملكت روحي . رموني في طائرة واسعة خالية صامتة ، ربطت حزامي وكألم قديم عاودني أحسست بشئ ما في ظهري أو صدري . مغمدة بعنف من زمن لا أدركه . عرفتُ ألمها ، غبتُ فوق السحاب . وفى القلب نقر طائر الفضة نقرتين . ثم فرد جناحيه ، ولم يطر .