القاهرة 23 اكتوبر 2014 الساعة 04:23 م
لقد تابعت على مدى سنوات عديدة كتابات عبد الله خليفة من خلال عموده اليومي ومن خلال رواياته المنشورة وكنت أحرص على ذلك دائما أن اقرأها قبل قراءتي السياسية في الصحف، وربما التقينا بصورة عرضية في بعض المناسبات وإن لم يسعدن الحظ بالتحاور معه شخصيا ولكن هذا لم يقلل من إعجابي وحرصي على قراءة كتاباته الفكرية بوجه خاص ولاحظت أنه ككاتب وكإنسان يتسم بثلاث سمات مهمة وفريدة خاصة في عصرنا الرديء الذي نعيشه في الكتابة من اليمين واليسار والمتأسلمين على حد سواء وهذه السمات الثلاث هي :
الأولى: إلمامه الكبير بالتاريخ والثقافة العربية والإسلامية، ولذلك كانت كتاباته عنها تتسم بالموضوعية والعقلانية مع استخدام المنهج اليساري في تفسير التاريخ، وهو أكثر المناهج موضوعية، ولم يتلوث عبد الله خليفة بالإيديولوجية الساذجة أو بالانتهازية، كما حدث لكثيرين، ولعل أهم ما يميز عبد الله خليفة في كتاباته الدقة العلمية وسعة الإطلاع والمعرفة الواسعة والأمانة في العرض وإتباع منهج التحليل العلمي اليساري.
وهذا يذكرنا بالعصر اليساري الوطني الجميل في مصر والعالم العربي الذي ينطبق عليه القول المأثور " تموت الحرة ولا تأكل بثدييها" هذا العصر الذي حمل اسم اليسار الوطني النزيه والأصيل الذي شهد شخصيات أمثال أحمد عباس صالح وعبد الرحمن الشرقاوي ولطفي الخولي وجمال حمدان وغيرهم كثيرون في مصر والوطن العربي أمثال البعثي المتميز منيف الرزاز والذي كانت لي حوارات معه أثناء عملي بسفارة مصر بالأردن في أواخر ستينات القرن الماضي وكنت أزوره في منزله.
الثانية: الإيمان بالوطن وهذا أيضا من الصفات الجميلة لليسار الوطني، وليس اليسار الذي كان يدور في الفلك السوفيتي أو الصيني آنذاك، وكان إيمانه ضعيفا بوطنه، أما يسار اليوم فهو يدور في الفلك الليبرالي الأمريكي أو في فلك رجال الدين المغيب معظمهم عن جوهر الدين، ومن ثم فإنهم يتحاورن بالسياسة الوقتية الانتهازية ،و يتنادون بحقوق الإنسان دون إيمان حقيقي ودون عمق ودون أصالة وموضوعية، وإنما كتعبير يستهدف الحصول على الأموال من الخارج و السير في أجندتهم الأجنبية سواء في مصر أو في دول عربية عديدة، ولذلك أصبحوا من الأثرياء أو من قادة الإعلام والفكر الليبرالي في هذا العصر الردىء أو عصر والمتأسلمين الساعين للسلطة.
لم يكن عبد الله خليفة من هؤلاء المسبحين باسم تيارات دينية أو تيارات سياسية تجعله غريبا في وطنه بل عاش ومات ابن هذه البلاد، البار بوطنه وأهله، والمخلص لفكره، والمؤمن بالتحليل الاجتماعي للتاريخ. وقد أبدع في ذلك من خلال تحليله الفكري أو رواياته الاجتماعية التي تذكرنا بروايات نجيب محفوظ و تشارلز ديكنز وغيرهما، وكان عبد الله خليفة بعيدا في نفس الوقت عن النفاق السياسي للتقرب من السلطة، ولهذا فهو من الفصيلة النادرة للمفكرين والأدباء، وموته يعد خسارة كبرى لليسار الشريف والوطني النزيه.
الثالثة: إن عمق فكر عبد الله خليفة الديني و الوطني أعطاه شجاعة في الكتابة والتعبير عن الرأي، ويتجلى ذلك في رواياته عمر بن الخطاب شهيداً، و عثمان بن عفان شهيداً، وعلي بن ابي طالب شهيداً، وكتب عن محمد ثائرا. وهو الثائر الحقيقي لأنه لم يطلب منصبا ولا مالا ولا جاها ورفض العروض التي قُدمت له من قريش، كما لم يتاجر بوطنه أو يتخلى عنه بل أعلن صراحة عند هجرته من مكة قائلا " والله إنك لأحب بلاد الله إلّي وأحب بلاد الله إلي الله، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت". هذا هو ما اسميه "الثائر الحقيقي"، إنه ثائر بالعلم وثائر بالإيمان، وداعية للحق، مؤمنا بوطنه، وليس ثائرا بالسلاح الضعيف في مجاهل الأرض العربية، أو بالمال الأجنبي الحرام، أو ثائرا سعيا لمنصب كما قال أحد المتأسلمين " إما أن أحكم مصر أو أحرقها" إن هذا الزمن الذي نعيش فيه هو من أسوأ الأزمنة والذي يتم فيه تشويه صورة الإسلام، وصورة الثورة، وخلط المفاهيم والقيم وتشويهها، ولقد كان الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله على حق في قولته المشهورة " إن الثائر يثور كالبركان، ثم يهدأ لبناء الأوطان" فليس هناك مفهوم للثائر أفضل من ذلك التوصيف الدقيق، ولذلك عندما ثار فلاديمير لينين تحول بعد ذلك إلى بناء الوطن في روسيا، ورفض مفهوم الثورة الدائمة أو الثورة العالمية بخلاف حالتي تروتسكي أو حالة ماوتسي تونج اللذين أعلنا ثورة دائمة، فذهب تروتسكي للأدغال في أمريكا الجنوبية ومات طريدا بلا أثر أو تأثير، أما ماوتسي تونج فقد دمر بلاده بالثورة الثقافية وسيطرت عليه زوجته وقادته وبلاده للهلاك بعد أن حررها وناضل من أجلها زهرة عمره وشبابه، بينما الثائر الحقيقي مثل دنج سياو بنج كان زعيما وطنيا مخلصا وصاحب رؤية سليمة واضُطهد، ثم عاد في لحظة مناسبة وساعده في ذلك وحماه ثائر آخر هو شوان لأي الذي كان ثائرا عاقلا وحكيما رغم علمه ومكانته الدولية ودوره السياسي والوطني عبر السنين فقد عاش في ظل ماوتسي تونج وحمى نفسه من غضبه الانفعالي كما حمى بعض رفاقه وكذلك مثل حالة سعد بن أبي وقاص وحالة عبد الله بن عمر بن الخطاب وغيرهما الذين اعتزلوا الفتنة رغم أنهم من المبشرين بالجنة ومن ذوي الجهاد في سبيل الله فقد حاربوا وجاهدوا بدون مطمع، ولم تغرهم الدنيا ولم يستطع أحد أن يتلاعب بمشاعرهم من المنافقين، أو من حسني النية الذين يحيطون بالحكام في كل عصر وزمان .
إن كتابات وفكر عبد الله خليفة البوفلاسة من أفضل الكتابات التحليلية السياسية الاجتماعية التي قرأتها وهي على غرار كتاب "اليمين واليسار في الإسلام" لأحمد عباس صالح، أو كتابات عبد الرحمن الشرقاوي "الحسين ثائرا، والحسين شهيدا"، وكتابات ودراسات محمد عمارة عن اليسار في الإسلام في المرحلة الأولي من حياته ولقد نشر عبد الله خليفة روايات عن رأس الحسين وغيره من أعلام الإسلام وكذلك وروايات عن مصر وعبد الناصر وغيًر هؤلاء الأعلام كثيرا، وقد تنوعت كتابات عبد الله خليفة ما بين التحليل الاجتماعي للتاريخ الإسلامي والعربي وللتاريخ الاجتماعي في البحرين ورغم أنه كان ينشر مقالاته في الصحف، فإنها اتسمت بالعمق والوضوح كما إتسم أسلوبه بالسلاسة والبعد عن التقعر في الألفاظ والمصطلحات التي يستخدمها بعض المتحذلقين الإيديولوجيين، كما شملت الرواية، وكنت استمتع بما أقرا من هذه الكتابات، كانت شجاعته دائما في قول الحق، وقول ما يؤمن به. وينبغي أن أشير إلى إن عبد الله خليفةأاخذ قسطا من تعليمه في مصر في العصر الذهبي الحديث لفكر مصر السياسي الوطني اليساري. رحم الله الفقيد رحمة واسعة وأثابه جزاء ما قدم من علم ومعرفة وفكر لوطنه ولأمته العربية.