القاهرة 23 اكتوبر 2014 الساعة 01:42 م
قبل نهاية النصف الأول من عام ..1973 أي قبل اندلاع معركة النصر. في أكتوبر 73 ببضعة أشهر قليلة.. قام الفريق "سعد الدين الشاذلي" رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية. وقتها.. "بزيارة سرية للغاية".. للجزائر.. كنت في ذلك التاريخ أعمل مراسلاً صحفياً لوكالة الأنباء المصرية أ.ش.أ. بالجزائر وشمال إفريقيا.. وكما تسلل "الفريق الشاذلي" إلي العاصمة الجزائرية دون ان يعلم أحد من الصحافة والإعلام بوصوله ووجوده.. تسلل إليّ الخبر. في البداية. دون تفاصيل.. فبدأت علي الفور فك تفاصيله وأسراره.. وبعد ساعات قليلة كنت أمام "الفريق".. وجهاً لوجه. بمقر إقامته السري بإحدي "الفلل" البعيدة عن الأنظار.. فوجئ الرجل بوجودي.. لكنني أتذكر جيداً انه سعد بالمفاجأة فقد ربطتنا علاقة طيبة.. منذ بداية الستينيات حيث ذهب.. والمشير أحمد إسماعيل إلي الكونغو.. في مهمتين مختلفتين. فور حصول "الكونغو كينشاسا" علي استقلالها وتولي "لومومبا".. السلطة.. امتد اللقاء فترة طويلة.. وفتحت مع الفريق كل ما كان يعتمل في ذهني.. بل وذهن المصريين جميعاً.. من حيرة وتساؤلات وعلامات استفهام لا تنتهي.. المثير للدهشة وقتها.. ان رئيس الأركان لم تفارقه الابتسامة.. ولم تبتعد عنه. روحه الطيبة.. واستقبل كل ما طرحته عليه من أسئلة. وعلامات استفهام وتعجب.. بسعة صدر وسماحة كاملة.. ذلك رغم دقة التوقيت وصعوبته.. ورغم المناخ المليء. بالشكوك والتوجس. والترقب.. *** والسؤال: ما سبب العودة إلي هذه الحكاية.. وهذا التاريخ.. وهذا اللقاء. الذي مر عليه أكثر من أربعين عاماً.. الجواب.. ببساطة هو أن المناخ والظروف تكاد تكون قريبة أو متشابهة. * يومها.. كان قد مر علي البلاد أكثر من ثلاث سنوات.. منذ قبول مبادرة روجرز في يوليو عام ..1970 وظلت تعيش في حالة "اللاسلم واللاحرب".. الضباط والجنود في الخنادق.. وفي أوضاع غاية في القسوة.. الشعب بجميع طوائفه. في حالة تعبئة وتقشف شديد.. مدن القناة. وقراها ونجوعها من شمال الخط في بورسعيد إلي جنوبه. بالسويس.. تم تهجيرها بالكامل.. الخيام. ومعسكرات الإيواء منتشرة في كل أنحاء مصر. مستقبلة المهجرين والأسر التي قررت الابتعاد بالأبناء عن خطوط المواجهة. بصرف النظر عن كونها ساخنة.. أو باردة.. معني هذا الكلام.. وغرض هذه العودة إلي عام 73 وقبل اندلاع الحرب بشهور قليلة.. المعني والغرض هو أن تشابهاً كبيراً.. بين ما نحن عليه اليوم وما كنا عليه عام ..73 يومها سألت الفريق سعد الشاذلي: إلي متي ستتركوننا نحن شعب مصر علي هذه الحال.. "لا سلم".. "ولا حرب".. بينما كل إمكانيات الوطن وموارده. وجهوده مسخرة للحرب.. للتحرير؟! وأضفت: هل معقول ان تجند البلاد أكثر من 2 مليون شاب.. تدربهم وتسلحهم. وتطعمهم وتؤيهم.. بينما قرار الحرب في علم الغيب.. وبينما كل هذه التعبئة لا عائد من ورائها.. أذهلني وقتها.. استمرار "سماحة".. الفريق الشاذلي .. وفاجأني بطول باله وصبره علي ما قلت.. وسأل: هل صحيح ان هناك 2 مليون مصري.. تحت السلاح..؟! وان هذا العدد الضخم.. مجهز. ومسلح. ومدرب استعداداً للمعركة؟ وأضاف: هل تعلم ان القوات الإسرائيلية المواجهة لقواتنا.. والمستعدة لخوض الحرب ضدنا.. يبلغ عددها أربعة أو خمسة أضعاف عدد قواتنا المعدة للقتال وخوض معركة التحرير..؟! وهل تعلم.. ان الأسلحة الصغيرة والكبيرة. التي تحت إمرة وتصرف القوات الإسرائيلية.. تمثل أضعافاً مضاعفة لعدد ولحجم الأسلحة التي بحوزة الجيش المصري..؟! قاطعت "الفريق الشاذلي".. متسائلاً: پهل معني هذا.. وأمام هذا الخلل المفزع في حجم القوات وعددهم.. وفي التسليح. أننا لن نخوض حرب التحرير التي ينتظرها الشعب..؟ أم أننا سنخوض حرباً "انتحارية".. نتيجتها معروفة ومصيرنا فيها مقرر سلفاً.. وما علينا إلا أن نبرأ ذمتنا بقرار الحرب..؟! عند هذه النقطة.. خرج الفريق الشاذلي عن صبره وحلمه بعض الشيء.. تجسدت في تعبيرات وجهه.. وفي كلماته.. لهجة مختلفة تماماً.. ظهر جلياً.. أمامي.. إنسان آخر.. ظهر قائد مصري همام.. قال.. بكل حزم وعزم وقوة.. ما وضعته أمامك من حقائق ومعلومات عن "العدو".. ليست إلا الحوافز الحقيقية التي تتمثلها القوات المسلحة المصرية.. نحن نعرف جنودنا.. ونعرف عزمهم.. ونعرف قوتهم وقدرتهم رغم التفاوت فيپالعدد.. وفي التسليح والتجهيز. والدعم الخارجي. الأمريكي الأوروبي.. وأؤكد لك ان القوات المصرية.. سوف تحسم المعركة لصالحها.. ومع اللحظات الأولي.. وإذا كانت هناك حسابات مغايرة أو مختلفة عند الغير.. فهذا شأنهم. ودخل "الفريق".. يومها.. فيپالعديد من التفاصيل. والشروح والمعلومات.. بلغة القائد "الواثق".. من نفسه.. ومن زملائه من القادة .. ومن جماهير الضباط والجنود الذين سيخوض بهم المعركة.. هذه القصة. وغيرها.. مع الشاذلي.. ومع الفريق عبد رب النبي حافظ. وغيرهما من القادة العظام.. والذين كان لي حظ. لقائهم والتحدث إليهم.. قبل 6 أكتوبر ..73 وبعد أكتوبر ..73 هذه القصص.. ساعدتني علي تفهم وإدراك حجم المؤامرات والضغوط التي مورست ضد مصر.. قبل حرب أكتوبر.. وأثناء حرب أكتوبر.. وبعد حرب أكتوبر.. بل وحتي اليوم.. لقد كشفت حرب أكتوبر معدن الشعب المصري.. وكشفت نتائجها قدراته.. الظاهرة من هذه القدرات.. والخفي منها وأعتقد ان هذا "الاكتشاف".. لهذه القدرات.. هو السر الكامن وراء هذا الإصرار.. "غير الشريف".. للضغط علي مصر.. ضغطاً سياسياً.. واقتصادياً.. واجتماعياً.. وإنسانياً.. وعسكرياً.. ذلك حتي لا تتهيأ لمصر. مناسبة جديدة تعبر فيها عن نفسها.. وتبرز فيها قدراتها من جديد.. ومن لا يصدق هذا.. فعليه أن يتأمل الموقف الآن.. وقبل الآن.. قبل 6 أكتوبر ..1973 كان التخطيط.. أن يغرسوا في نفوس وعقول وقلوب شعب مصر.. أن هزيمة 1967 هي المؤشر والبرهان لحجم مصر ومكانة مصر.. وخاب الظن.. الآن يحاولون .. وبجميع الوسائل أن يزرعوا في نفوس المصريين. عجزهم وعدم قدرتهم.. * الملفت.. أن مصر قبل أكتوبر 1973 كانت قد قبلت بالسلام والحل السلمي طريقاً للتسوية. لكن الغباء والحقد والكراهية لمصر أغرتهم بالتراجع فكانت الحرب.. وكان النصر للمصريين.. * الآن.. مصر.. لا تعادي أحداً ولا تهاجم أحداً. ولا تبغي شيئاً غير مشروع من أحد.. مصر تريد الحرية. العدالة الاجتماعية. والكرامة الإنسانية. والتعاون الشريف. والخلاق مع الجميع.. لكنهم.. وبسوء النية المترسخ في قلوبهم لا يريدون لمصر .. الخروج من الأزمة.. ومن الحصار.. ومن الإرهاب الذي وضعوها فيه. وأحاطوها به. طوال السنوات الأربعين الماضية.. وإذا كانت الهمة المصرية.. التي قلبت الحسابات في أكتوبر ..1973 قد كشفت غباءهم.. فأنا علي يقين.. أن التهيئة والاستعداد. والإصرار الذي يتجمع عند الشعب المصريپاليوم.. سرعان ما سينطلق ويحقق.. وفي القريب العاجل.. نصراً سياسياً واقتصادياً. واجتماعياً. وإنسانياً.. ليؤكد مرة أخري.. ان مصر وشعب مصر يمكن أن يصبر بعض الوقت.. ولكن ليس أبداً كل الوقت.. وأظن اللحظة.. قريبة.. رغم الإجرام والإرهاب والتحالف الحقير بين مخططي الخارج.. ومنفذي الداخل. من العملاء والمرتشين.. والحاقدين.
|