القاهرة 22 اكتوبر 2014 الساعة 12:35 م
تعدّدتْ الروايات بين المؤرخين حول شخصية إيسوب المنسوب إليه كتابة العديد من القصص أغلب أبطالها من الحيوانات ، فالبعض ذكر أنه شخصية حقيقية ، والبعض رأى أنه شخصية وهمية وأنّ ((اليونانيين كانوا مولعين بنسبة الأعمال (القصصية) إلى مؤلف ما ، فإنْ لم يجدوا اخترعوا مؤلفـًا ، وهذا ما حدث فى مجموعة الحكايات الشعبية التى ردّدها الناس فى اليونان ، كما هى العادة عند جميع الشعوب وفى مختلف العصور،
ثمّ
نسبوها إلى شخصية خرافية اسمها إيسوب)) (د. إمام عبد الفتاح إمام فى مقدمته لكتاب "حكايات إيسوب"- دار المدى- عام 2000)
وكتب د. إمام أنه لم يجد ترجمة عربية لحكايات إيسوب ، وبعد أنْ كتب هذا كانت لديه الشجاعة الأدبية لأنْ يذكر ((علمتُ من الصديق الدكتور عبد الغفار مكاوى – الذى تفضّـل مشكورًا بقراءة هذه الحكايات – وأبدى الكثير من الملاحظات القيمة، أنها تـُرجمتْ فى أربعينات القرن العشرين بقلم المرحوم الدكتور مصطفى السقا))
ومن بين الأساطير التى نـُسبتْ حول شخصية إيسوب أنه بُعث حيًا بعد وفاته. واشترك فى معركة (ترموبيلى) التى حدثتْ عام 480 ق.م وكانت واحدة من المعارك الشهيرة فى الحروب بين الفرس واليونان. ومن بين الأساطير أيضًا (والتى يراها البعض أنها من الخرافات وليست من الأساطير) أنّ إيسوب كان من رأيه أنّ (النملة) كانت فى الأصل من بين البشر. وأصلها يرجع إلى فلاح لص تعوّد على سرقة القمح من جيرانه وتخزينه فى مخازنه ، فسخطه زيوس (كبير الآلهة) نملة. ولكنه بعد هذا المسخ لم يتخلص من عادته القديمة حول السرقة ، فظلّ يجمع حبات القمح من الحقول المُجاورة وتخزينها فى أماكن خاصة.
وكان المؤرخ اليونانى هيرودوت (المولود حوالى 489ق.م) يرى أنّ إيسوب شخصية حقيقية. وعاش فى القرن السادس قبل الميلاد ، وأنّ العصر الذى عاش فيه فهو عصر ملك مصر (أمازيس) أو عصر (كروسس) اليونانى وكان من رأى د. إمام ((ربما كان هناك بعض الخيوط المشتركة التى يمكن أنْ نستخلصها من هذه الروايات جميعًا منها أنّ إيسوب شخصية حقيقية ، والدليل هو ما ذكره المؤرخ اليونانى الشهير هيرودوت فى الكتاب الثانى من تاريخه حيث يقول وهو يتحدث عن فرعون مصر (من – كاو- رع) عن النبوءة الخاصة به وأنه لن يحكم إلا ست سنوات)) وبالرجوع إلى ما كتبه هيرودوت نقرأ ما يلى ((بعد موت ابنة الملك (من – كاو- رع) جاءه وحى من مدينة (بوتو) يُـخبره بأنه سيُعمّر ست سنين فقط ويموت فى السنة السابعة. فغضب الملك ، فسفــّـه الوحى والآله معًا. فلما سمع الملك أنّ مصيره قد تقرّر، أمر بصنع مصابيح عديدة كان يُشعلها عند مجىء الليل ، ويشرب ويتمتع بلذات الحياة دون انقطاع .. وعاش إثنتى عشرة سنة بعد كلام (الوحى) وهو ما يؤكد تكذيب الوحى)) (هيرودوت يتحدث عن مصر- ترجمة د. محمد صقر خفاجه- هيئة الكتاب المصرية- عام 87- ص260،
261)
ومن بين الذين ذكروا اسم إيسوب الفيلسوف أفلاطون على لسان سقراط فى محاورة (الدفاع) عندما قال سقراط أنه لجأ إلى استرجاع الحكايات الخرافية التى كتبها إيسوب لتمضية الوقت الذى قضاه فى السجن فى انتظار تنفيذ الحكم بإعدامه. والأرجح (كما قال د. إمام) أنه لم يكن يقرأ من كتاب وإنما كان يعتمد على الذاكرة. كذلك ذكره المؤلف المسرحى (أرستوفان) فى مسرحية (السلام) عندما اقتبس هذا النص ((ولكن ماذا يضير الخنفساء إنْ ركبتُ على ظهرها وطارتْ إلى السماء يا والدى ؟ إنها الكائن الحى المخلوق بأجنحة)) وعلى هذا النحو كان إيسوب يرى أنه يستطيع الوصول إلى الآلهة. ومن الذين ذكروا اسم إيسوب أيضًا الفيلسوف أرسطو فى فن الخطابة – الكتاب الثانى ، كما ذكره أكسينوفان.
ومن رأى د. إمام أنّ اسم إيسوب مستمد من بشرته الداكنة فكلمة إيسوب Aesop هى نفسها أثيوبى Aethop ورغم أنه كان مُـشوّه الخلقة (أفطس الأنف ، أحدب الظهر) فإنّ جانبه العقلى طغى على تشوه جسده ، وهذا الجانب العقلى هو الذى خلــّـده عبر التاريخ ، ورغم ذلك كان يُباع فى الأسواق ضمن منظومة العبودية التى كانت سائدة فى اليونان فى تلك الفترة التاريخية.
وكما كانت نشأته فيها الكثير من الأساطير، كذلك كانت قصة عتقه من العبودية. إذْ (وفقــًا للأسطوة) حدثتْ حادثة غريبة فى مدينة ساموس ، فقد حط نسر فوق (خاتم الدولة) وخطفه بين مخالبه وطار فى السماء ثم ألقاه فى صدر جارية ، فأصيبتْ المدينة بالذعر، ورأى أهلها أنه نذير كارثة سوف تحل عليهم . ودعا مجلس الحكماء إلى الانعقاد لدراسة تلك المشكلة. وبعد تفاصيل كثيرة وردتْ فى الأسطورة عن دور إيسوب فى تفسير ما حدث ، قال لمجلس الحكماء أنّ النسر طائر ملكى ، ومن ثم فهو يرمز إلى ملك عظيم وأما خاتم الدولة فهو إشارة إلى مدينتكم ساموس ، وأما إلقاء الخاتم فى صدر الجارية فهو يريد أنْ يقول لكم : إنه ليس ثمة قوة تعلو على قوته. ولهذا يُبشركم بأنكم سوف تفقدون حريتكم ، ما لم تحزموا أمركم وتـُعينوا منكم أميرًا يرسم لكم طريق الخلاص. سمع أهالى المدينة هذا التفسير العجيب ولم يُعلقوا عليه. لكن لم يمض سوى وقت قصير حتى وصل رسل الملك ويطالبونهم بدفع الجزية ، مع التهديد بالحرب والدمار إنْ لم يدفعوا. تناقش المجلس فى الأمر. مال أغلب الأعضاء إلى السلم (والمسالمة) مع العبودية ، خشية الدخول فى مخاطر الحرب. بينما رأى عدد قليل من أعضاء المجلس استشارة إيسوب الذى قال : كل إنسان فى هذه الدنيا أمامه طريقان : الأول طريق الحرية وهو ضيق وعر المدخل ، لكنه سهل وناعم بعد ذلك ، والثانى هو طريق العبودية الذى يبدو سهلا بسيطــًا فى البداية ، لكنه مليىء بالأشواك والصعاب التى لا تـُحتمل بعد ذلك. وعليكم أنْ تختاروا يا أهل ساموس)) وبعد استمعوا لكلام إيسوب ((أجمعوا على التمسك بحريتهم وأعادوا رسل ملك الدولة المُعادية خائبين . وبدأتْ طبول الحرب تدق . وعندما سمع كروسس (ملك المدينة المُـستهدفة) من رسله هذه القصة صمّم على أنْ يرى إيسوب . وهكذا كانت هذه الحادثة سببًا فى عتقه.
كان الثعلب أحد أبطال قصص إيسوب ، وقد ازدهرتْ القصص التى أبطالها حيوانات فى أوروبا فى العصور الوسطى ، فظهرتْ مجموعة (ملاحم الحيوانات) وهى قصة طويلة تدور حول الحيوان الذى يقوم بالبطولة وأشهرها مجموعة مرتبطة بالثعلب (رينار) الذى يرمز إلى دهاء الإنسان . وقد صاغ جوته هذه الحكاية فى ملحمة شعرية ساخرة طويلة بالاسم نفسه.
كما استغل الشاعر الإنجليزى أدموند سينسر (1552- 1599) فى عصر النهضة مادة هذه الحكايات فى قصة (الأم هيرد) وكذلك الشاعر والكاتب المسرحى الإنجليزى جون درايدن (1631- 1700) فى قصيدته (الإبل والنمرة) التى أحيتْ من جديد ملاحم الحيوان كإطار رمزى للمناقشات اللاهوتية الجادة . ووصل هذا الشكل إلى الذروة فى القرن السابع عشر فى فرنسا فى أعمال جان دى لافونتين (1621- 1695) عن حماقات البشر وغرورهم . وكانت حكايات لافونتين أول مجموعة من الحكايات الخرافية تتبع نموذج إيسوب . وظهرتْ فى مجلديْن فيما بين 1668- 1694، غير أنّ حكاياته الأخرى ظلتْ تـُجمع بعد ذلك طوال 25سنة. وفيها الكثير من السخرية من القضاء والبيروقراطية والكنيسة والطبقة البورجوازية. ومن رأى د. إمام عبد الفتاح إمام أنّ لافونتين كان ((يسخر من الحياة البشرية بأسرها)) وكان تأثير لافونتين عظيمًا فى أوروبا . أما خليفته فى الفترة الرومانسية التالية فهو الأديب الروسى (إيفان أندروفيتش كريلوف – 1768- 1844) الذى كتب الحكايات الخرافية. كما ترجم حكايات لافونتين إلى اللغة الروسية. وهناك أيضًا الكاتب الأمريكى الساخر جيمس جروفر ثرير (1894- 1961) الذى وُلد فى كولومبيا ومن أعماله (البومه فى أتيكا وألغاز أخرى) و(حكايات عصرنا) و(الرجال والنساء والكلاب) وكذلك الروائى الإنجليزى جورج أورويل وهو اسم مستعار ، أما اسمه الحقيقى فهو (أريك آرثر بلير- 1903- 1950) الذى كتب (الأسد ووحيد القرن) عام 1941 ثم نقد الشيوعية فى روايته الشهيرة (مزرعة الحيوان) عام 1945 التى صوّر فيها المجتمع السوفيتى فى عهد ستالين . وقد تمّ تحويل الرواية إلى فيلم كرتون للأطفال ، فيه الكثير من المتعة الممزوجة بالإبداع الراقى.
وانتهز هذه الفرصة لأتقدم بالشكر والتقدير للدكتور إمام عبد الفتاح إمام على ترجمته لحكايات إيسوب ، وكذلك على المعلومات المهمة التى ذكرها فى المقدمة.
000
وإذا كان كاتب القصص المنسوبة لإيسوب ، استخدم الحيوانات ، فقد سبقه جدودنا فى مصر القديمة فى العديد من القصص المُـدوّنة فى البرديات المحفوظة فى معظم متاحف العالم ، وهى قصص تجمع بين السخرية والحكمة على لسان الحيوانات ، أو لتجسيد الصراع بين الخير والشر، فى إسقاط واضح على علاقات البشر بعضهم ببعض ، وبينما كان المصريون القدماء واليونانيون القدماء يجعلون من الحيوانات أبطالا لقصصهم ، فإنّ أوروبا حتى القرن الثامن عشر بعد ميلاد المسيح ، كان فيها (محاكم لمحاكمة الحيوانات) على النحو الذى ذكره العالم جيمس فريزر فى كتابه (الفولكلور فى العهد القديم – الجزء الثالث) ومن يقرأ تفاصيل المحاكمات لا يسعه إلاّ أنْ يندهش من غفلية هؤلاء البشر الذين عاملوا الحيوانات على أنها كائنات عاقلة مثلها مثل الإنسان ، إذْ كانت تصدر (أحكام المحاكم) بشنق فرس ، أو بإعدام أنثى خنزير إلخ ، بل وصل الأمر لدرجة الحكم على بعض الجمادات مثل الحكم الذى صدر بجلد جرس كنيسة بروتستانتية فى دعوى أقامتها كنيسة كاثوليكية. وكانت المحاكمات تأخذ نفس إجراءات المحاكم (الطبيعية) من حيث وجود ممثل للأدعاء وممثل للدفاع عن الحيوانات ، فى مشاهد لم تخطر على بال مؤلفى مسرح اللا معقول.