القاهرة 21 اكتوبر 2014 الساعة 03:49 م
عندما نتحدث عن حال السينما المصرية، يجب اولا أن نعرف ما هى السينما و ما هى المعطيات التى يتكون منها هذا الفن، الذى يعتبر القوة الناعمة التى يمكنها أن تستخدم لدمار المجتمع، أو للارتفاع به للتقدم و الرقى الفكرى و الاقتصادى، فهى فى بعض الأحيان تحمل رسالات ايديولوجية، تعكس توجهات الدول التى تقوم بها هذه الصناعة، فمثلا السينما الأمريكية غالبا ما تعرض الشرق الأوسط فى افلامها على انه صحراء، و بدو و جمال، و أناس يعيشون على الفطرة. فمثلا فى فيلم من سلسلة افلام " جيمس بوند " الشهيرة و هو فيلم " الشيطان الذى أحبنى " و الذى انتج عام 1977، تظهر مصر و كأنها فى القرن الخامس عشر، و هى التوليفة التى ما تزال عالقة فى اذهان الغرب عن مصر و دول الشرق الأوسط بصفة عامة، و هى الجمال و الصحراء .و هى تعكس توجه بعض الدول التى تضخ اموالا فى هذه الصناعة ،لتحقيق توجه ايديولوجى بابقاء الشرق الأوسط فى اذهان المتفرج الغربى بؤرة للتخلف و البدائية، لتبرير ما تقوم به هذه الدول من محاولات للسيطرة و الهيمنة على دول الشرق الأوسط للاستيلاء على ثرواته .
و هو أيضا الذى تم فى مصر بصورة مغايرة فى الستينيات ،حيث ظهرت افلام تهاجم الاقطاع و الاستعمار، الذين تخلصت منهما الثورة عام 1952 و من اهمها فيلم" رد قلبى " الذى انتج عام 1957، بطولة مريم فخر الدين و شكرى سرحان و من اخراج عز الدين ذو الفقار، و الذى أظهر قسوة و بشاعة الاقطاع و الطبقية، من خلال الحدوتة التقليدية للفارق الطبقى و هى حدوتة الجناينى و بنت السلطان. و كيف أن فكر الاقطاع و الطبقية و صل الى حد محاولة قتل ابن الجناينى جزاء حبه لابنة الباشا، بجعله يمتطى فرسا جامحا كاد يتسبب بقتله، و كيف أن الباشا اراد ايداع الريس عبد الواحد الجناينى " حسين رياض " مستشفى الأمراض العقلية، لأنه ظن به الجنون عندما تقدم لطلب ابنته لأبنه "على " شكرى سرحان الذى كان فى ذلك الجزء من الفيلم ضابطا فى الجيش المصرى، و الذى لم يعد ابن الجناينى بل أصبح ذلك الرجل الذى يحمل على كتفيه شعار الجيش المصرى، الذى يرفعه فوق كل المناصب و الأموال. و لكن الفيلم هنا يظهر انعدام الحس الوطنى عند تلك الطبقة التى جاءت الى مصر معدمة، لا تملك شيئا فعاشوا فى امان و اثروا من خيرها، و مع ذلك كان يعيرون المصريين اصحاب الأرض بأنهم فلاحيين. ذلك كان توجه سياسى فى ذلك الوقت، لاظهار كيف ان ثورة يوليو أعزت المصريين بعد مذلة، و جعلتهم اسياد ارضهم بدلا من أن كانوا عبيدا للمستعمر، و لهذا فالسينما الموجهة يمكن ان تكون اداة بناء كفيلم رد قلبى، أو أداة هدم مثل تلك الأفلام التى يتم فيها تشويه صورة العرب .
و عندما نحاول دراسة اسباب انهيار السينما المصرية، يجب أولا أن نعرف ما هو الفيلم السينمائى . فالفيلم هو منتج مثله مثل أى منتج ،أو سلعة تقوم على عدة محاور. و هى ادوات الانتاج أو رأس المال الذى يتمثل فى الاستوديوهات، و الألات و غيرها ثم عملية الانتاج نفسها، و ما يلزم لها من الأمور اللوجستية .ثم تأتى عملية التسويق و هى العملية التى تتحكم فى عرض السلعة، و الترويج لها و هى التوزيع الداخلى و الخارجى للفيلم ،و دور العرض التى تباع فيها تلك السلعة .
و لكن عندما ينهار السوق ،و يحجم المستهلك عن الشراء تنهار الصناعة و تموت. و هذا هو ما حدث للسينما المصرية فقد انهار سوق الفيلم المصرى عندما بدا المستهلك يحجم تدريجيا عن الشراء، فلم تعد السينما هى اداة الترفيه عن الاسرة .و اصبح رب الأسرة يستعيضها " بالفوود كورت " و هو عبارة عن تجمع لتوكيلات الوجبات الجاهزة الموجودة، بالمولات التجارية الضخمة فهو يصحب اسرته للتجول فى المول التجارى بمحلاته المتنوعة، و التى تعرض مختلف السلع، ثم يدخل لتناول الطعام فى تلك الأماكن رغم ان نفس المول يوجد به دور عرض سينمائى، لذا دعونا نطرح هذا السؤال ما الذى جعل رب الأسرة يحيد عن دار العرض و يدخل الى المطعم ؟
المتتبع لمسيرة السينما المصرية يجد انها واكبت البدايات الاولى للسينما العالمية خطو بخطوة، و سارت معها قدما بقدم منذ عام1896 فقد تم اول عرض سينمائى ،بمقهى زوانى بمدينة الاسكندرية فى يناير من نفس العام ،اى بعد شهر فقط من عرضه بباريس، عاصمة الفن فى العالم و تلاه عرض ثانى فى القاهرة، فى 28 من نفس الشهر، ثم كان العرض الثالث فى مدينة بورسعيد فى عام 1898.و على نفس النهج سارت السينما تتقدم باطراد فى طريق الاجادة و الاحتراف، فغزت الأفلام المصرية المهرجانات العالمية مثل كان و برلين و موسكو ،و بينما كانت السينما تنتج عشرات الأفلام الروائية الطويلة فى السنة ،هذا بجانب السينما التسجيلية، و كانت دور العرض تنتشر فى كل المحافظات و المراكز ،تقلص عدد الأفلام المنتجة فى السنة الى عشرة افلام على الأكثر، و اصبحت دور السينما تتركز فى القاهرة فى المولات التجارية، و منطقة وسط البلد بينما تعد على اصابع اليد فى المحافظات الأخرى .
عندما يحجم المستهلك عن شراء سلعة ما، فيجب ان نعرف ان تلك السلعة لم تعد تشبع احيتاجاته. و تطبيقا للنظرية الاقتصادية فى التسويق فالمستهلك يشترى السلعة عندما يتساوى لديه السعر و المنفعة لتلك السلعة، و نحن هنا اصبحنا امام سلعة غالية الثمن و قليلة المنفعة، فقيمة تذكرة السينما اصبحت مرتفعة بينما صار الفيلم نفسه "رخيصا " و معنى كلمة رخيصا ان ميزانية الانتاج اصبحت رقما ينتج سلعة رديئة، و فيما عدا افلام تعد على اصابع اليد الواحدة، فان الانتاج قليل التكلفة و الذى لا يعنى فيه باختيار النص و عناصر الفيلم الاخرى من تمثيل و اخراج و غيرها ، صار ذلك الانتاج سلعة رديئة تقدم لمستهلك الفن الردئ، و هو شريحة ضئيلة من قطاع مستهلكى السينما بينما توارى القطاع الكبير من مستهلكى السينما، بعد أن صار الفيلم المصرى فى معظم حالاته، يحمل فى طياته الكثير من الاسفاف، الذى اعطى لتلك الطبقة انطباعا سلبيا عن السينما، فأحجمت عن شراء تلك السلعة ،و خاصة فى ظل منافس عملاق و هو الدراما التلفزيونية، التى صارت الضيف الحاضر دائما فى منزل العائلة المصرية، و بينما تعددت مصادرها و أنواعها من مسلسلات تركيا و سورية و لاتينية ، يتوارى الفيلم المصرى العليل أمام هذا الطوفان .
و بينما تتعرض صناعة السينما الهزيلة الى ذلك الهجوم الكاسح من الدراما نجد أن ضوارى اخرى تنهش فى جسدها المحتضر، و منها قراصنة الأفلام الذين يقومون بالحصول على الفيلم ،و هو مازال فى دار العرض بطريقة أو بأخرى، أو ان يقوم احد الأشخاص بتصويره خلسة بالموبيل من داخل دار العرض، و يقوم بعرضه بعد ذلك على شبكة الانترنت. و بينما الفيلم يعرض فى دور السينما نجد الاسطوانة الخاصة به تباع فى كل مكان، و هو ما يضرب الصناعة المترنحة فى مقتل، و رغم وجود القانون الذى يحمى حقوق الملكية الفكرية و حقوق العرض، فانه غير مفعل على أرض الواقع لذا فالفيلم يعرض فى دور العرض و سط دعوات جهة الانتاج ألا تتم سرقته .
و لكن هناك سؤال يفرض نفسه ؟ألا يتعرض الفيلم الأمريكى الى نفس المشاكل من منافسة الدراما التليفزيونية و القرصنة و غيرها ،و بينما انهارت الصناعة فى مصر نجدها تزداد ازدهارا فى الولايات المتحدة، و تولد و تنمو فى دول اخرى كايران مثلا، و بينما صار هناك عملاق هندى يسمى "بوليوود " تطور عن السينما الهندية العريقة، التى استطاعت الصمود و النمو حتى صارت تنافس السينما الأمريكية فى حجم الانتاج .
ان السر فى ذلك يكمن فى الكيانات الكبيرة، فعندما تتعرض صناعة ما لمنافسة شرسة.. فان الاندماج بين الكيانات الصغيرة فى اتحاد كبير يمدها بالقوة للمنافسة و التحدى، بينما تسحق الكيانات الصغيرة كل على حدى امام المنافسة القوية، يضاف الى هذا التكنولوجيا الحديثة و الأجيال الجديدة من الأفلام التى تستخدم تقنية الجرافيك، و الثرى دايمنشن، فمثلا لماذا اكتسح الفيلم الأمريكى " افاتار" السوق المصرى، و حقق ايرادات كبيرة و من قبله فيلم " ملك الخواتم " و غيرها. ان السر يكمن فى هذا العالم السحرى الذى تخلقه تلك الأفلام ، و الذى يأخذ المشاهد بعيدا عن واقع الحياة الصعبة التى تطحن الجميع فى رحاها ،و من فلك المشاكل اليومية الذى يدور فيها. أما ان تقدم فيلم عن العشوائيات فهى امامنا طوال اليوم، سواء فى سلوك الأشخاص او فى الأماكن أو عن السجون أو عن البلطجة ، انها تلك الفكرة الفاشلة الممجوجة ،بمواجهة المشاهد المصرى المسكين بكل ما يكره بحجة الواقعية الواهية، التى صارت الاجابة النمطية عن كل الفشل و الاسفاف، الذى يقدم فى السينما المصرية. و لكن فى ظل غياب دور الدولة و استمرار كيانات الانتاج الصغيرة الذى توارى معظمها عن الساحة خوفا من الخسارة ،فانه لا أمل فى أن تنهض صناعة السينما أو تتطور .
و يأتى السؤال ايضا هو كيف نملأ مقاعد دور العرض القليلة الشاغرة ، كيف نعيد جمهور السينما الحقيقى الذواقة الى دور السينما، التى هجرها لوقت طويل ،فعندما تجعل شخصا ما يرتدى ملابسه، و يقتطع من رزقه ووقت راحته، و خاصة فى ظل الاختناقات المرورية المرعبة، التى تعيشها القاهرة لينزل الى دار العرض ليشاهد أحد الأفلام، فانك تحتاج الى حافز قوى يدفع المشاهد. و هذا الحافز هو الفيلم نفسه، و لكن هذه المشكلة مشكلة مزدوجة فان معظم الأفلام الحالية لا تقدم الحافز ،الا لشريحة بعينها ضئيلة بالمقارنة بجمهور السينما الحقيقى فى فترة مثل الستينيات و السبعينات مثلا، و الذى صار غير موجود بالفعل، لذا فنحن فى اشكالية انهيار القيمة الثقافية لدى المشاهد المصرى .
لذلك فالمعادلة السينمائية المصرية، أو المعضلة السينمائية لا يمكن حلها الا بعملية اصلاح متوازية لجميع مشاكلها من القرصنة، و تقلص عدد دور العرض و زيادة سعر التذكرة، و هيمنة السينما التجارية على الصناعة و اختفاء دور الدولة من الساحة السينمائية، و اندماج للكيانات الصغيرة ودخول مؤسسات مالية و بنوك، للاستثمار فى صناعة السينما بتمويل بناء الاستوديوهات و دور العرض، و استيراد الألات و المعدات الحديثة و تمويل تكلفة التكنولوجيا الحديثة ،و مسايرة احدث الاكتشافات فى عالم التقنية البصرية، و النهوض بالثقافة المصرية التى هى حجر الأساس فى كل تقدم فنى أو اقتصادى، و فى النهاية يحدونا الأمل فى أن تعود السينما المصرية العريقة الى سابق عهدها، و تلحق بالركب الذى تخلفت عنه سنينا طويلة .