القاهرة 20 اكتوبر 2014 الساعة 12:35 م
فتحت صحيفة «لوموند» الفرنسية صفحاتها أمام كاتبين صديقين سمّتهما «إسرائيليين» وعهدت إليهما كتابة رسائل راحا يتبادلانها واحد من تل أبيب وآخر من منفاه الأميركي. هذه المراسلة الأدبية على صفحات الجرائد ليست جديدة، ولطالما تراسل كتّاب علانية ورافق قراؤهم رسائلهم في حينها. لكنّ اللافت هنا، أن أحد الكاتبين إسرائيلي يهودي، وثانيهما إسرائيلي عربي، كما عبرت الصحيفة. الأول يدعى إتكار كيريت والثاني سيد قشوع، وهو فلسطيني اختار العبرية لغة ثانية يكتب بها ويعبر. وهذا الكاتب الشاب نجح أيما نجاح في إجادة العبرية منازلاً الإسرائيليين في «عقر» لغتهم التي تمكنوا من إحيائها رسمياً منذ إعلان دولتهم على أرض فلسطين المغتصبة. روائي موهوب، تمكّن من تطويع لغة «الآخر» كما لو أنها لغته الأم، وكتب بها حال الانفصام التي عاشها بصفته فلسطينياً مقتلعاً وإن داخل وطنه.
قد لا يُفاجأ القارئ بهذه الصداقة المتينة التي تربط بين هذين الكاتبين اللذين يلتقيان حول هويتهما اللغوية، وحول انتمائهما «اليساري» ودعوتهما إلى إحلال السلام بين «الشعبين»، وإلى إقامة دولتين متجاورتين وسواها من الأوهام والأكاذيب التي تساهم «الآلة» الإسرائيلية الجهنمية في صنعها. في رسائله إلى صديقه الإسرائيلي اليهودي يعرب «الكاتب الإسرائيلي العربي» (بحسب الصحيفة) سيد قشوع عن يأسه من السلام المزمع بين الشعبين، ويصف حرب غزة الأخيرة بـ»اللعينة». وعندما يقرر هجرة إسرائيل (لا فلسطين) بعد إحراق الفتى الفلسطيني في القدس، يصف إسرائيل في إحدى رسائله بـ»المكان المرعب» ويبرر هجرته القسرية إلى أميركا بـ»إبعاد عائلته عن رائحة البارود والدم». وهو بات على يقين أن مستقبل الفلسطينيين الذين يحملون الهوية الإسرائيلية لن يكون جيداً ومواطنتهم لم تتحقق حتى الآن في ظل تنامي العنصرية الإسرائيلية وسياسة الاستيطان والعزل. هذه المآخذ التي يأخذها جهاراً على إسرائيل ليست غريبة البتة عن الخطاب اليساري الإسرائيلي الذي ينتقد الدولة العبرية ويوجه إليها التهم. بل إنّ قشوع يبدو أقل قسوة من بعض اليساريين الذين يبالغون في نقدهم هذه الدولة. تُرى ألا يستحق حرق الفتى الفلسطيني على أيدي بضعة نازيين إسرائيليين وقفة إدانة جريئة؟ ألا تستحق وحشية الأعمال العسكرية الإسرائيلية ضد غزة وأهلها، صرخة تدوي في الصحافة التي يُعدّ قشوع أحد نجومها؟ يأسف كاتبنا على مغادرته إسرائيل في أوج نجاحه و»مجده» كما يعبر، في الإعلام الإسرائيلي، المكتوب والمرئي. ويخاطب صديقه قائلاً: «تعلم أنني أشبه بنجم»... لكنّ هذا النجم شعر، عندما غادر إسرائيل، أنه «لاجئ هرب لينقذ نفسه والعائلة».
يشعر قارئ هذه الرسائل في صحيفة «لوموند» أنّ هذه المراسلة تتم بين كاتبين إسرائيليين، يساريين وتقدميين، أكثر مما هي بين كاتب فلسطيني وإسرائيلي، بين كاتب ينتمي إلى طبقة الضحية وآخر إلى طبقة الجزار. ومآخذ سيد قشوع على إسرائيل مآخذ معلنة ومستهلكة، وتبدو كأنها تنتمي إلى خطاب الأمم المتحدة وبعثات السلام الدولي. يبرر قشوع موقفه «الهادئ» برفضه ما يسميه الالتزام السياسي أو النضالي. وهو قال مرة للصحيفة نفسها في شأن عدم التزامه القضايا السياسية الملحة: «في الأدب أكره هذه الطريقة في الالتزام. أنا يساري ووجهة نظري السياسية أعبر عنها في مقالاتي الصحافية».
أما أخطر ما أورده سيد قشوع في رسائله فهو قضية اعتناقه العبرية لغة تعبير وكتابة، قضية «الثنائية» اللغوية التي فُرضت عليه منذ الأعوام الأولى، ولم يخترها طوعاً. يسأل صديقه انطلاقاً من منفاه الأميركي: «ماذا يمكنني أن أفعل هنا من دون العبرية، اللغة الوحيدة التي أقدر أن أكتب بها؟». وقد ساوره الخوف في أن يهجر العبرية ليتبنى لغة أخرى «غريبة» هي الإنكليزية. فالعبرية هي التي تصون ذاكرة اللغة العربية التي تظل لديه بمثابة اللغة الأم ولو لم يكتب بها. لو اختار الإنكليزية فهو، كما يعبر، ما كان ليفقد لغته العبرية أو لغته بالتبني فقط، بل سيفقد أيضاً لغته العربية التي كانت اللغة الأم. لا أعتقد أن كاتباً «ثنائي» اللغة بلغ مبلغ سيد قشوع في مديح اللغة المتبناة وهي العبرية، بصفتها لغة الحياة والوجود، لا أوجين يونسكو ولا ميلان كونديرا ولا كاتب ياسين ولا أغوتا كريستوف ولا... هؤلاء اختاروا لغة «الآخر» من دون أن يكون هذا الآخر عدوا بل كان صديقاً في الغالب، أما كاتبنا فاختار لغة الآخر الذي هو العدو، العدو الذي احتل الأرض ودمر الذاكرة وأحرق الهوية واللغة الأم. لكنّ لغة العدو كانت هي السبيل لبلوغ حال من العالمية ما كانت اللغة الأم لتوفرها للكاتب الفلسطيني الأصل.