القاهرة 14 اكتوبر 2014 الساعة 03:15 م
تهتم الدول عادة بمشاركة قادتها في الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبارها منتدى سنوي يتحدث فيه قادة العالم عن مشاكله وعن قضايا بلادهم ورؤاهم.
ولقد كانت مشاركة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في هذه الدورة بالغة الأهمية وضرورية في ظل ما تتعرض لها دول مماثلة ولعل تلك التحديات مرجعها عدة اعتبارات منها:
الأول: إن عبدالفتاح السيسي قام بحركته كوزير للدفاع بإحساس وطني بالغ الأهمية حيث بخبرته العسكرية وبحسه الوطني، وبما لديه من معلومات عندما كان مديرا للمخابرات الحربية أدر ك أن ثمة فريقاً من السياسيين الطامحين والمتطلعين للسلطة يسعى لإخراج مصر عن هويتها التي عاشتها عبر آلاف السنين وهي هوية معتدلة متسامحة متوازنة تؤمن بوطنها وبلادها وترتبط بأمتها العربية والإفريقية وتتحرك في إطار ثقافتها وعقيدتها الإسلامية الصحيحة التي عبر عنها القرآن الكريم في الإيمان بالوطن قبل أي شيء آخر ولذلك أقسم الله سبحانه وتعالى بذلك في سورة البلد" لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ " هذه الآيات الأربع القصيرة توضح مدى ارتباط الإنسان بموطنه الذي ولد وترعرع فيه وهو ما اصطلح على تسميته برابطة الدم أو بالوطن الأم، ويتصل بذلك مصطلح اللغة الأم. ثم أكد النبي محمد عبدالله صلى الله عليه وسلم عند الهجرة على هذا المفهوم عندما نظر نحو مكة وخاطبها بقوله "والله إنك لأحب البلاد إلى وأحب البلاد إلى الله، ولولا إن قومك أخرجوني أي اجبروني من الناحية العملية على الهجرة ما خرجت". أما بعض الجمعيات التي تطلق على نفسها جمعيات أو حركات إسلامية فهي لا تؤمن بمفهوم الوطن بل تنظر للأمر بمنظور مختلف يأخذ كلمة " الأمة" التي جاءت في القرآن ويحرفها عن مضمونها ويخلط بين مفهوم الأمة، والتي هي الجماعة بل أحيانا تطلق الأمة على فرد واحد لقوله تعالى " إن إبراهيم كان أمة" أما مفهوم الدولة الذي يرتبط حديثا بمفهوم الوطن فهو مفهوم عميق، وإن اختلف تفسيره ففي العصر الجاهلي كان يرتبط بالقبيلة وكانت الحروب تدور بين الدول بين القبائل واليوم الحروب تدور وكذلك السلام يحدث بين الدول الوطنية.
أقول إن السيسي أدرك الخطر الذي يتعرض له المصريون كشعب متدين قبل الإسلام وقبل المسيحية وقبل اليهودية بل قبل مختلف الأديان، وأساطير مصر القديمة تدل على ذلك. ولا علاقة بين مفهوم الوطن القديم أو الحديث، وبين مفهوم الأمة لا سياسيا ولا قانونيا سوى علاقة فضفاضة أتركها بعض السياسيين لمآرب خاصة بهم. لقد أصبحت مصر المتسامحة المعتدلة في خطر بل وقبل أن يدرك السيسي ذلك أدركه شعب مصر الذي خرج متظاهرا بأكثر من ثلاثين مليوناً أي أكثر ممن صوت في الانتخابات إلي جاءت بالدكتور محمد مرسي رئيسا للبلاد والتي صوت فيها 25 مليوناً قُسمت بين الرئيس ومنافسه بفارق بضعة آلاف من الأصوات ومن ثم جاء تحرك السيسي استجابة لنداء الوطن والشعب بمفهومه السياسي والتاريخي العريق في شعب مصر التي عرفت التوحيد منذ عهد اخناتون قبل الأديان السماوية .
الثاني: إن مصر بحكم موقعها الاستراتيجي المحوري وبحكم تراثها الحضاري رفضت السيطرة الأجنبية، سواء وهي واقعة اسما تحت الحكم الاستعماري للدولة العثمانية باسم الإسلام، أو هي واقعة تحت الحكم الاستعماري الأوروبي باسم نشر الحضارة. ولذلك فرض شعب مصر محمد على رئيسا ضد إرادة الدولة العثمانية وثار الجيش المصري في عام 1952 بقيادة جمال عبدالناصر، ومُنى كل من محمد علي وعبدالناصر بنكبات رغم ما حققه كلاهما من انجازات، ولكن الأهم هو المحصلة أو الدرس. المحصلة هي أن شعب مصر قادر على تحقيق المعجزات والدرس هو أن التحديات العالمية والإقليمية كبيرة وتحتاج لتعاون الشعب والقيادة لفهم الإستراتيجية الإقليمية والإستراتيجية العالمية. وكانت الدولة العثمانية هي التي أُطلق عليها الرجل أوربا المريض، ومع ذلك احتفظت بسيادة أسمية على مصر التي كانت مستقلة منذ محمد علي ورافضة للتبعية. وتواجه الاستعمار الأوروبي المتنامي سواء من فرنسا أو بريطانيا ثم من غيرها مع مضي السنين وتغير مراكز القوى.
الثالث: هو الحكمة التي أعلنها وأكد عليها المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود ووصى بها أولادة كما وصى سيدنا يعقوب بنيه بأخيهم يوسف وهي وصية تعني الاهتمام بمصر وشعبها وتؤكد التعاون السعودي المصري وهي وصية ترتبط بجوهر الإسلام وحفظ آل سعود وصية والدهم في حين لم يحافظ أبناء يعقوب على وصيته ونستذكر في هذا الصدد أن النبي محمد (ص) أوصى بقبط مصر أي شعب مصر آنذاك خيرا مؤكدا أن له معهم نسبا وصهرا أي السيدتين هاجر أم إسماعيل الذي ينسب إليه العرب العدنانيون ومارية القبطية التي هي أم ولده الذكر الوحيد إبراهيم، والذي توفي طفلا وبكاه النبي بحرارة قائلا إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وأنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضى ربنا " فالرحمة والعاطفة الأبوية من سمات النبي وترتبط بطبيعة الإنسان ومن ثم فإن الرابطة السعودية المصرية هي رابطة تاريخية ودينية وحضارية وترتبط أيضا بالأنساب العربية، ومن هنا تقدير مصر وشعبها وقيادتها لموقف المملكة العربية السعودية وأشقائها من دول مجلس التعاون ونذكر هنا أن كلمة سمو الشيخ عبدالله بن زايد وزير خارجية الإمارات أكد رفض بلاده للتدخل في الشؤون الداخلية لمصر ،وأكد أيضا نفس الموقف وزير خارجية مملكة البحرين الشيخ خالد بن احمد بن محمد آل خليفة في كلمته في الأمم المتحدة.
الرابع: ما تعرض ومازال يتعرض له شعب مصر ودولتها وقياداتها من ظلم وغبن حيث ندد أحد الرؤساء بمشاركة الرئيس المصري غير مدرك أن مصر دولة مؤسسة للأمم المتحدة وأن قياداتها منتخبة من شعبها، وإن الرئيس المصري أنقذ بلاده من هوة سحيقة كادت تتردى فيها، ولكن مقابل هذا الكلام من رئيس تلك الدولة، فإننا ندعو الجميع لقراءة خطاب الرئيس السيسي الذي تحدث عن بلاده وعن مشروعها الحضاري لتعمير منطقة قناة السويس وبناء قناة جديدة وعبر عن حرصه على سلامة الوطن وتعالى رئيس مصر، كشأن مصر دائما، عن الصغائر التي يتفوه بها المرضى عقليا من رؤوساء دول لا تعرف لها هوية وهم رؤوساء. ويبحثون عن لعب أدوارا لا يستطيعون القيام بها ولا يفهمون أبعادها.
الخامس: شارك شعب مصر المقيم في أرض المهجر بالولايات المتحدة وكندا في مظاهرات رفيعة المستوى أمام الأمم المتحدة يوم خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسي وكانت مظاهرات راقية بها أغاني وأناشيد في حب الوطن وتحيا لمصر، ولافتات بعيدة عن السفاسف، وهكذا شعب مصر في أرض الوطن أو في دار المهجر هو ابن هذه الأرض الطيبة وسلوكه سلوكاً راقياً وحضارياً.
تلك بعض تأملات حول مشاركة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وهي مشاركة حظيت باهتمام عالمي كبير وتصفيق عريض في قاعة الأمم المتحدة واحترام وتقدير مختلف الدول ذات الرشد السياسي والعقلانية السياسية كما حرصت أجهزة إعلامية أمريكية على إجراء مقابلات مع عبدالفتاح السيسي، والتقى به الرئيس الأمريكي اوباما الذي أعاد النظر في مواقفة من أحداث مصر، والذي أردك الأهمية الإستراتيجية لمصر ودورها الحضاري الذي ارتبط بالإسلام والأزهر الشريف كما يرتبط بالمسيحية وكنيستها العريقة، التي هي من أقدم الكنائس والتي تم تأسيسها عام 70 بعد الميلاد، وإن مصر احتضنت الأديان جميعا، ولجا إليها آل يعقوب وشارك في حكمها يوسف الصديق، وولد على أرضها النبي موسى، كما جاء إليها النبي عيسى المسيح وأمه فرارا من اضطهاد الرومان، كما أوصى بها النبي محمد خيرا إن مصر هي مهد الأديان ومهد الحضارة رغم صغر حجمها في العصر الحديث ومحدودية قوتها مقارنة بقوى عظمى ولكنها في العصر الفرعوني كانت أحد القوى العظمى المعدودة على أصابع اليد الواحدة آنذاك. ومصر بشعبها وقيادتها سوف تستعيد مكانتها ودورها العربي والإفريقي والإسلامي والعالمي رغم كل التحديات ورغم مؤامرات دول هو قادتها لها أغراضا مريضة.