القاهرة 23 سبتمبر 2014 الساعة 12:44 م
«فلتؤمن بملتون ودرايدن وبوب/ ولتكفر بوردزورث وكولريدج وساذبي/ فالأول مجنون لا أمل البتة في شفائه/ والثاني مخمور، والثالث غريب طنّان اللفظ/ وقد يصعب عليك التعامل مع شعر كراب/ ونبع هيبوكرين المقدس وقد نضب بعض الشيء في شعر كامبل/ لا تسرق من شعر صموئيل روجرز ولا ترتكب/ أي مغازلة لربة شعر مور/ لا تمدّن عينيك الى ربة شعر السيد ساذبي/ أو الى حصانه المجنح أو الى أي شيء يملكه/ لا تشهد زوراً مثل صاحبات الجوارب الزرقاء/ (ومنهن واحدة مولعة كل الولع بهذا)/ لا تكتب، إن شئنا الإيجاز، إلا ما اختاره أنا/ هذا هو النقد الحقيقي، ولك أن تقبل العقاب صاغراً / على النحو الذي ترضاه، أو لا تقبل/ فإن لم تفعل، فأقسم بالله ان أفرضه عليك!». هذه السطور مستقاة من الصفحات الأخيرة للنشيد الأول، في قصيدة للورد بايرون تحمل اسم «دون جوان»، وتتحدث عن زير النساء الشهير، بالطبع. غير ان هذه السطور تبدو لنا وكأنها نص في النقد الأدبي، و- الشعري خصوصاً -، وهي كذلك بالطبع... لأن بايرون، من خلال هذه القصيدة الطويلة، لم يكتف بأن يقدم لنا حياة دون جوان ومغامراته، بل فتح قصيدته على ألوان عدة من الفكر والشعر والفلسفة والتاريخ وحكاية المغامرات، بحيث انتهى الأمر بهذا الأفّاق وزير النساء الى ان يكون لديه، مجرد ذريعة ومفتاح لعمل ملحمي يكاد يكون وعاء لكل معارف عصره وأفكاره وعلومه. أو هذا - على الأقل - ما يمكن تلمسه، على الأقل» من خلال الجزء الأول من «دون جوان، ملحمة ساخرة» الجزء الذي نقله الى العربية وقدم له د. محمد عناني في نصّ مسهب جمّ الفوائد، وصدر في أكثر من أربعمئة صفحة من القطع الكبير عن «مكتبة الأسرة» القاهرية. علماً أن هذه الصفحات الأربعمئة التي لا تضم سوى الأناشيد الأربعة الأولى من قصيدة بايرون، لا تشكل أكثر من ثلث القصيدة. فبايرون، حين «اكتشف» شخصية دون جوان وشاء أن يكتب عنها، رأى أن ألوف الأبيات لا تكفي للتوغل في حكاية تلك الشخصية. ومن هنا فإننا، مع هذه الترجمة المتميزة، لا نزال على رغم الصفحات الكثيرة وألوف الأبيات، في بداية رحلة دون جوان مع الحياة ومع الترحال والمغامرات.
> غير أننا، منذ هذه البداية، ندرك فوراً أن عمل بايرون هذا، حول «دون جوان»: يختلف عن كل ما كان الأدباء والشعراء قد كتبوه حول تلك الشخصية، بل يختلف بشكل خاص عن النص الأشهر في هذا المجال، الذي منه اقتبس الكاتب الفرنسي المسرحي موليير مسرحيته المعروفة التي عاد موتسارت واقتبس من نصّ بُني على أساسها النصّ الغنائي الذي تحول لديه الى واحدة من أعظم وأشهر الأوبرات في تاريخ هذا الفن. إذاً على رغم شهرة الأوبرا، فإن ما «نظمه» بايرون من حول شخصيتها الرئيسة يبدو مختلفاً كلياً عن شخصيتها. وليس هذا فقط لأن بايرون اختار أن يقول من خلال «بطله» أشياء كثيرة تتجاوز هذا البطل وحكايته، بل لأنه أيضاً رسم لـ «دون جوانه» ملامح جديدة تماماً... أهمها أن دون جوان لم يعد هنا ذلك المغامر زير النساء فاسد الأخلاق، الذي تقول لنا اسطورته انه لم يكن ليتوقف عن اغواء النساء ثم هجرهن بكل صفاقة، بل صار بين يدي بايرون، فتى جذاباً ارستقراطياً، تسعى النساء أنفسهن الى اغوائه، ومنذ كان يافعاً، بحيث يصبح هو الضحية، في أكثر الأحيان. وفي هذا الاطار كان «دون جوان» لورد بايرون، نقطة انعطافية في تاريخ فهم هذه الشخصية والتعامل الفني والشعبي معها. بل في الحقيقة وحتى خارج هذا الإطار الرابط بين المسرحية الأصلية والقصيدة البايرونية، يمكننا ان نقول اليوم بسهولة واطمئنان، ان هذه «الملحمة الساخرة» كما دوّنها الشاعر الإنكليزي الكبير، تعتبر نقطة انعطافية في تاريخ الشعر... حتى وإن كان صاحبها لم يعش حتى يراها منشورة بكاملها، أي بأناشيدها الـ16. فهي نشرت في العام 1826، بعدما كانت أجزاء منها نشرت متفرقة خلال حياة بايرون الذي رحل عن عالمنا في العام 1824.
> دون جوان، في ملحمة لورد بايرون، هو فتى من عائلة نبيلة في اشبيلية، يتيم الأب، يحدث له وهو في السادسة عشرة من عمره، أن تفتن صديقة لأمه بجماله وتغويه، فتغضب الأم حين يتناهى ذلك الى علمها، وترسله ليعيش في الخارج بعيداً من تلك الإغراءات التي أحسّت أنها ستتكاثر من حول الفتى ولا سيما من جانب صديقاتها... غير ان السفينة التي يسافر دون جوان على متنها تغرق، ليجد الفتى نفسه في جزيرة يونانية، تعثر عليه فيها الصبية هايدي الجميلة، وهي ابنة لقرصان يفرض سلطته على تلك الجزيرة... وتعتني به هايدي هذه وتغرم به... بل توقعه في غرامها، حين يكون أبوها قد ذهب في رحلة قرصنة ثم خيّل الى الجميع انه مات... بيد أن القرصان يعود ويفاجئ هايدي وجوان، فلا يكون منه أمام غضبه إلا أن يربط الفتى بالأغلال ويرميه فوق سفينة من سفن القراصنة. وإذ تجن هايدي ثم تموت متأثرة بحزنها، يباع جوان كعبد الى سلطانة من الأستانة هي غولبيار، التي تغرم به بدورها... لكنها لم تكن الوحيدة في قصرها المنيف، إذ انها سرعان ما تفاجئه في خلوة غير متوقعة مع بعض الجواري فتعتقله وتهدد بقتله في ثورة غضبها... لكنه يتمكن من الهرب حيث يلتجئ الى القوات الروسية التي كانت تحاصر القسطنطينية. وهو إذ يشارك في القتال يبلى بلاء حسناً، ما يجعل القائد يبعث به، مع رسالة، الى سانت بطرسبرغ، حيث ينال حظوة لدى كاترينا الثانية التي لفرط ما تثق به، ترسله في بعثة ديبلوماسية الى البلاط الانكليزي في لندن... وهنا يكمن، بالنسبة الى لورد بايرون على الأقل، بيت القصيد، إذ انه من خلال الحياة التي يعيشها دون جوان في العاصمة الانكليزية، يتمكن الشاعر من رسم صورة شديدة السخرية والمرارة، للحياة الاجتماعية والسياسية في انكلترا، وبخاصة من خلال الصور الشعرية التي يرسمها الراوي، الذي هو، حيناً، الشاعر نفسه، وفي بعض الأحيان نبيل اسباني، وفي أحيان أخرى شخصية رجل انكليزي عاش ردحاً من الزمن في اسبانيا ويتقن الاسبانية -. لقد أتت معظم تلك الصور من الكاريكاتورية، الى درجة يبدو واضحاً معها ان لورد بايرون لم يغر بوضع هذا العمل الطويل والرائع، عن دون جوان إلا لكي يصل الى هنا.
> وعلى هذا النحو لا يعود ثمة من دون جوان الأصلي (كما نعرفه لدى موليير، أو لدى موتسارت، أو لدى الاسباني انطونيو دي تسامورا أو حتى لدى غرابّي، وغيرهم) سوى القليل. وهذا، بالتأكيد، ما جعل المفكر والكاتب الألماني الكبير غوته، لا يبخل بالمديح على هذا العمل، من دون أن يسهى عن باله، أن بايرون أكثر من الاستعارات فيه، بحيث يبدو العمل في جانب منه، أشبه بأنطولوجيا لا تمت الى دون جوان نفسه بصلة.
> مهما يكن من أمر، فإن «ملحمة دون جوان الساخرة» هذه تعتبر، ومن جانب كثر من دارسي أعماله وحياته، مأثرة لورد جورج غوردون بايرون (1788 - 1824) الأدبية الكبرى، حتى وإن كان، هو، قد شاء منها، أول الأمر أن تبدو على شكل تصفية حسابات بينه وبين مجايليه وسابقيه من شعراء الانكليز، الذين يعود اليهم ساخراً منتقداً، مراراً وتكراراً في الكثير من فصول الملحمة وفقراتها وأناشيدها، ناهيك بما في هذا العمل من استعراض لـ «عضلات» الشاعر في مجال البراعة في ابتكار الصور والكنايات ونثر المعلومات، والتغلغل في داخل عواطف شخصياته، وكل ذلك في لغة تهكمية ساخرة، مملوءة بالعواطف والمواقف الانسانية والسياسية والفكرية في آن معاً، ولا يبدو هذا، على أي حال، مستغرباً من صاحب أعمال مثل «تشايلد هارولد» و «الكافر» و «القرصان» و «لارا».