القاهرة 22 سبتمبر 2014 الساعة 02:04 م
عندما نتحدث عن نجيب محفوظ ،فإننا لا نتحدث عن مرحلة فارقة فى تاريخ الأدب المصرى المعاصر فحسب ،إنما أيضا نتحدث عن مدرسة سينمائية وضعت أركان ما يسمى بسينما الواقعية .
وعندما نتحدث عن السينما فنحن لا نستطيع إنكار العلاقة القوية بين السينما و الأدب. و الأمانة العلمية تتطلب منا الاعتراف بأن كاميرا
السينما لا تستطيع الاستغناء عن النص الأدبى و التجربة خير دليل وبرهان، فعندما نرصد مسيرة السينما المصرية على مدى السبعون عاما الماضية، نجد إنها بدأت فى التدهور عندما اختفى النص الأدبى من ساحة الفن السينمائى، لتحل محله نصوص أخرى كتبت بغير أقلام الأدباء، فجاء معظمها ضحلا باهت الشخصيات
لا يحتوى على إبداع حقيقى، و إنما يقدم حواديت مستهلكة لخدمة شباك التذاكر، و خدمة مرحلة النجم الأوحد.
ومرحلة النجم الأوحد كانت أحد العناصر التى تسببت فى حالة الانيميا التى أصابت الفيلم المصرى، بعد أن فقد عنصرا هاما من عناصر قوته، كان يتمثل فى التكاتف الإبداعى الذى ينتج عن اشتراك أكثر من نجم فى الفيلم، و فى الحقيقة إن فكرة النجم الأوحد كانت فكرة صعبة التنفيذ فى ظل وجود النص الأدبى، الذى يقوم على مجموعة من الشخصيات تم رسمها و تجسيدها ببراعة و إبداع، لتمثل هيكل الرواية حيث تنتج الأحداث من تفاعل أولئك الأشخاص مع معطيات الواقع الذى يعيشون فيه و البيئة المحيطة بهم، لذلك كانت تلك النصوص الأدبية هى المادة الخام الأولية التى تقدم فيما بعد منتجا سينمائيا، على قدر عال من الجودة. و قد كانت روايات نجيب محفوظ أحد المناجم الكبيرة الغنية التى استخرجت منها السينما المصرية ماساتها، التى قدمتها للعالم بعد أن صقلتها وبلورتها فى شكل صور مرئية وشخصيات حية متحركة على شاشة العرض .
عندما تصدى مخرجنا الكبير " هنرى بركات " لإخراج رواية "دعاء الكروان" لعميد الأدب العربى، حذره الدكتور طه حسين من أن الرواية لا تصلح للسينما، لأنها خالية من الصور. و بالفعل كانت الرواية تحتوى على الكثير من الحوار الذاتى للشخصية المحورية، ولكن عبقرية هنرى بركات تغلبت على تلك العقبة السينمائية التى قد تؤثر على إيقاع الفيلم فتهبط به إلى الرتابة و الملل. و بينما كان الدكتور طه حسين يميل إلى التأمل و ا
لحوار الذاتى فى رواياته، كان نجيب محفوظ على طرف نقيض منه فرواياته كانت تحتك برحى الواقع، وكانت شخصياته تتفاعل مع الأحداث بعنف وسرعة فكانت غنية
بالصور السينمائية على اختلاف موضوعاتها و تنوعها.
كما أن أدب نجيب محفوظ إمتاز بالتأريخ للحقبة أو للفترة الزمنية التى تدور بها أحداث الرواية، لذلك تلامست رواياته دائما مع السياسة، بل نستطيع أن نقول إن نجيب محفوظ كان يصطدم دائما بالسياسة، كجزء لا يتجزء من عملية تسجيل و تأريخ الظروف و البيئة المحيطة بالرواية. و يظهر هذا تقريبا فى جميع رواياته التى قدمها للسينما، ففى القاهرة 30 كانت الظروف السياسية التى تمر بها مصر عقب إلغاء دستور 1923 ،تسير فى خط موازى للخط الدرامى و الإنسانى فى الرواية، بينما فى الكرنك ، و ثرثرة فوق النيل.. كان الظروف السياسية التى تمر بها مصر عقب النكسة فى بؤرة الرواية ، فبينما تصدى فى الكرنك لحكم الحديد و النار الذى كانت تمارسه مراكز القوى، تعرض فى ثرثرة فوق النيل لحالة الترهل التى أصابت المجتمع المصرى بعد نكسة 1967، و فى الحقيقة فإن كلا الفيلمين وخاصة ثرثرة فوق النيل قام بتشريح المجتمع المصرى و نظام الحكم و انتقادهم انتقادا عنيفا، وهكذا كان الحال فى ميرامار الذى سار فى نفس الاتجاه .
لم تكن السياسة هى العامل الغنى الوحيد فى روايات نجيب محفوظ، الذى أهلها لتعبر بأمانة عن الواقع المصرى فى مختلف مراحله، و لكن كان هناك عامل آخر أن تلك الأفلام كانت تجسد نبض المجتمع المصرى، عاداته و تقاليده أماله و مخاوفه فكان الشارع المصرى بل الحارة المصرية، قاسما مشتركا أعظم فى جميع روايات أديبنا الكبير، فمثلا فى الثلاثية يتعرض الكاتب إلى عمق البيت المصرى فى عشرينيات القرن الماضى، فنرى فى أول مشهد فى فيلم "بين القصرين " مائدة الإفطار اليومية فى منزل" السيد أحمد عبد الجواد" فنرى الأب يجلس و يأكل أولا محفوفا بالخوف و المهابة، ثم يليه الأبناء الذكور ثم البنات. ونراه يرسم صورة الأب فى البيت المصرى فى تلك الفترة التى شهدت أحداث ثورة 1919، فيظهر الأب هو السيد الأمر الناهى المطاع فى المنزل ،و هو أيضا المنزه عن الخطأ المعصوم من الحساب حتى لو ارتكب الموبقات .و يستمر نجيب محفوظ فى التعريف بالمجتمع المصرى فى تلك الفترة التى شهدها هو شخصيا، فقد ولد أديبنا الكبير عام 1911 مما جعله يتأثر بهذا المجتمع و يستمر فى رصد التغيرات التى يمر بها على مدى باقى أجزاء الثلاثية " قصر الشوق وبعده السكرية " .
عندما نفذ نجيب محفوظ إلى قلب المجتمع المصرى ناقدا و مؤرخا، كان مهتما بجزء خاص جدا و هام جدا من هذا المجتمع، لم ينتبه اليه هذا الانتباه الجم و لم يوليه تلك العناية التى أولاها له سواه من الكتاب، هذا الجزء هو " الحرافيش " أو الفقراء و المهمشين الذىن يشكلوا شريحة عريضة من المجتمع المصرى، و الذين يبحثون عن الحاكم العادل الذى يصوره نجيب محفوظ فى صورة الفتوة، الذى يكون دائما ظالما فى بداية الفيلم ثم يأتى الحرافيش بعد ذلك بقيادة واحد من سلالة " الناجى " ليسقطوه ،و ينصبوا بدلا منه الفتوة العادل الذى خرج من وسطهم.
و هى دائما كانت إرهاصات لقوة الغلابة و المهمشين من أبناء الشعب المصرى، و قدرتهم على تغيير مقدرات الأمة.." تلك الفكرة" و هى الصراع بين الظلم و العدل بين الحق و الباطل كانت معينا لا ينضب ومادة لا تنفذ، لذلك الصراع الإنسانى المتجذر فى أعماق التاريخ الإنسانى ، والذى كان سببا فى قيام معظم الثورات إن لم يكن جميعها، ذلك الصراع جعل من أعمال نجيب محفوظ مادة دسمة للسينما، داعبت خيال المخرجين و المشاهدين على حد سواء. فمن منا ليس طرفا فى ذلك الصراع سواء من قمته أو فى قاعه! و من ذلك الصراع تطل علينا أفلام هى علامات فى تاريخ السينما المصرية مثل " الحرافيش ، التوت و النبوت ، شهد الملكة ، المطارد ، الشيطان يعظ ، الجوع " .
هناك جانب آخر فى كلمات أديبنا الكبير، فى أفكاره و إرهاصاته هو التمرد ذلك الجانب الذى يحمل قوة هائلة، كانت هى الوقود الذى حرك عجلة إنتاجه الأدبى بقوة جعلته أحد معالم مصر كالأهرام و معبد الكرنك سواء بسواء .ترى هل كان ذلك الرجل الهادئ المدقق المتمهل الباحث فى التفاصيل متمردا ؟ ذلك السؤال يجيبنا عليه سعيد مهران" شكرى سرحان " فى اللص و الكلاب ، ذلك الفتى الفقير الذى صدق كلمات صديقه الصحفى الرنانة عن تطبيق العدالة الاجتماعية، عن طريق سرقة الأغنياء حتى أوقع به و سجن ليخرج بعد ذلك منتقما ، أم هو جعفر الراوى" نور الشريف " فى " قلب الليل " ذلك الفتى سليل أسرة الراوى الشريفة، الذى يطيح بكل ما أعده له جده الراوى الكبير " فريد شوقى " من مستقبل زاهر فى رحاب العلم و الايمان ليذهب فيتزوج بمراوانة الفتاة الغجرية ، أم هو شطا الحجرى " نور الشريف " فى الشيطان يعظ الذى يتمرد على معلمه و فتوة الحارة، فيخطف خطيبته و يتزوجها . كان التمرد هو الأخر مادة سينمائية ثرية فى أدب نجيب محفوظ .
هنا يجب أن نتوقف و نتمهل و نحترس، فنحن امام سلاح أديبنا الكبير الذى اشهره فى وجه العالم لينتزع به جائزة نوبل الشهيرة من ملايين من الأدباء حول العالم ، ذلك السلاح السرى هو "شخصيات نجيب محفوظ " و فى الحقيقة بان شخصيات نجيب محفوظ تحتاج الى كتاب من عدة أجزاء، حتى نستطيع أن نوفيها حقها فى البحث و الدراسة، و لكننا هنا نكتفى بعرض بسيط متواضع لمهارة" أديب نوبل " فى نحت تلك الشخصيات ثلاثية الأبعاد بمهارة و دقة و عمق قد لا تتكرر ثانية فى أديب أخر . هى تلك المهارة التى قدمت أكثر من عشرين فيلما من اقوى الأفلام التى انتجتها الألة السينمائية فى فترات الازدهار .
فى القاهرة 30 ينحت لنا نجيب محفوظ تمثال للتناقض و الانقسام هو شخصية محجوب عبد الدايم " حمدى احمد " الذى يظهر فى أول الفيلم فى صورة انتهازية مقززة، و فى وسط الكثير من عبارات " طظ " المجيدة التى استخدمتها الشخصية مرات عديدة للدلالة على انعدام المنظومة القيمية، لديه تلك التى اورثتها له نشأته الريفية، و لكنه فى الجزء الثانى من الفيلم نفاجئ به يدخل فى صراع مع كل تلك القيم و المبادئ بل و الحب أيضا و هو الذى كفر بكل هذا فى الجزء الأول من الفيلم حتى انه عندما يحتدم ذلك الصراع داخله يدخل فى حوار داخلى مع نفسه قائلا " ايه يا حضرة السكرتير !طول عمرك كفران بك حاجة ، تقوم يتجى دلوقت تحب و تغير و تضعف " نجيب محفوظ فى رسمه لتلك الشخصية المعقدة يفاجئها بما كانت تظنه ليس فيها من مورث قيمى يظهر فجأة على السطح عندما يشعر بالحب الذى كان يكفر به طوال الرواية .
و فى بداية و نهاية يبدع فى رسم كافة الشخصيات، و لكن شخصيتان كاد يبلغ بهما حد الكمال ،هما شخصية حسنين " عمر الشريف " و نفيسة " سناء جميل " فهو يبدع فى رسم شخصية انتهازية كافرة بكل قيم الأخلاق ، و مبداها الغاية تبرر الوسيلة و هى ليست بصورة صريحة كمحجوب عبد الدايم، و لكنها بصورة مستترة فهو يقبل من أخيه المجرم أن يدفع له رسوم الدراسة بالكلية الحربية، رغم انه يعلم مصدر ذلك المال الحرام ،و بعد ان يصبح ضابطا يبدء فى طعن الجميع من الخلف، فيتنصل من خطوبة جارته التى قبل به اباها و هو معدم، ثم يتبرأ من أخيه المجرم بعد ان يطارده البوليس مع ان ماله الحرام هو الذى مكنه من أن يصبح ضابطا، حتى انهما فى حوار بينهما يطلب فيه حسنين منه التوبة، فيجيبه أنه على استعداد شريطة أن يخلع هو بدلة الضابط و يبدأن سويا حياة جديدة و يرفض بالطبع .أما نفيسة الأخت التى لا تتمتع بالمال أو الجمال ،و التى تسقط فى فخ الغواية بسبب الفقر و الحرمان، فهو يستمر فى أخذ النقود منها و التى تعطيها له عن طيب خاطر من كدها و عرقها ،و أحيانا من الغواية التى احترفتها فى النهاية، و لكنه لا يشفق عليها عندما تسقط، و يقبض عليها البوليس فى شقة مشبوهة، فيطلب منها أن تضحى بحياتها حتى لا يناله شئ من عارها، و ينسى فى تلك اللحظة رابطة الدم و كل الحنان و الحب الذى اسبغته عليه، و لكن ضميره يستيقظ فى النهاية و لكن بعد فوات الأوان و انتحار نفيسة ،فيشعر بمدى حقارته فيلقى بنفسه فى المياه خلف شقيقته .
شخصيات نجيب محفوظ جميعها فى غاية الثراء و العمق و من الصعب جدا ان نتمكن من تحليلها و اكنها تبقى فى وجداننا فهى حقيقية و ليست سينمائية نتعامل معها و نتلامس معها فى حياتنا اليومية فمن منا لم يقابل شخص انتهازى مثل حسنين أو انسانة بائسة مثل نفيسة او وصولى كمحجوب او متمرد كشطا الحجرى و او طموح كحميدة فى زقاق المدق و غيرها من الشخصيات الكثيرة التى عاشت بين اوراقه ثم انتقلت الى وجداننا بعد ذلك حينما استغلتها السينما المصرية فى صنع افلام خالدة .
كانت روايات نجيب محفوظ و مازالت مادة سينمائية غنية، لامتلائها بالصراع و الشخصيات الحية و الصور السينمائية ،فهى روايات تمثل الشارع و الحارة و البيت المصرى، لذا فهى تحفل بالحركة و التناقض و العمق الانسانى و الفكرى، و هى ايضا ذلك السهل الممتنع الذى يفهمه الجميع على اختلاف ثقافاتهم و اعماقهم، فهى كالبحر تستطيع أن تسبح فوق سطحه كما يفعل رجل الشارع البسيط محدود الثقافة، أو تغوص الى اعماقه كما الشخص المثقف الناقد الفاحص . نعم كان نجيب محفوظ بحرا و لا يزال تصطخب امواجه فى رواياته وشخوصه، التى تتحرك و تتصارع فى حراك دائم لا ينتهى فالبحار لا تموت .