القاهرة 17 سبتمبر 2014 الساعة 12:16 م
كتب: حسام ابراهيم
يقول "المفكربالصورة" سعيد مرزوق: "لكل إنسان قدره وكان الفن قدري", وهي عبارة كاشفة
لقصة حياة عاشقالفن السابع الذي فقدته الثقافة المصرية مؤخرا كشخص, غير أن إبداعاته
البصرية الفنيةستبقى سواء على مستوى معاهد السينما في مصر والعالم العربي
أو الجماهير العاشقةللشاشة الكبيرة.
وسعيد مرزوق الذيولد عام 1940 تحمل أعباء المسؤولية وهو صغير السن لإعالة والدته
وأخوته الأربعةبعد وفاة والده خريج الأزهر والمفتش بوزارة التربية والتعليم, فيما
تفتحت عيناه علىالسينما منذ طفولته حيث كان منزله متاخما لاستديو مصر, فيما يمكن
وصفه بأنه"مفكر مصري كبير ومثقف رفيع المستوى تجلى فكره وثقافته بالصورة".
ويمكن تلمس بعضمفاتيح شخصية سعيد مرزوق في قوله للناقد السينمائي طارق الشناوي:
التحقت بكلية الحقوقوكنت في السنة الثانية بالكلية عند وفاة أبي ووجدت نفسي فجأة
مسؤولا عن أسرةبحكم كوني اكبر أخوتي وكانت ظروفا قاسية سببت عدم استكمالي لدراستي,
فقد كان لابد واناعمل فالتحقت بعمل في الإذاعة بمكافأة شهرية", فيما بدأت شهرته
الإذاعية بالمقدماتالموسيقية التي صنعها للبرامج ثم موسيقى المقدمة والنهاية
لبعض المسلسلات.
واتسعت شهرة سعيدمرزوق حتى تجاوزت مبنى الإذاعة القديم في شارع الشريفين الى الوسط
السينمائي ليرسلله المخرج كمال الشيخ طالبا منه وضع الموسيقى التصويرية لفيلم
"الليلة الأخيرة",ودخل عالم التلفزيون مع عمله لفترة بالصحافة في مجلة "الكواكب",
وهو في كل ذلكاحد الشباب المثقف من المنتمين لجيل ثورة 23 يوليو التي تفتح وعيه
عليها وعلى قائدهاجمال عبدالناصر.
وصاحب "اريدحلا", و"المذنبون", و"زوجتي والكلب", جمع بين "السينماالفنية", و"السينما
الجماهيرية",أو بين نظريتي "الفن للفن " و"الفن للمجتمع", ليبرهن على انه يمتلك
الحس الجمالي بقدرما يستجيب للنبض الجماهيري ويجيد مخاطبة النخب ورجل الشارع
معا بلغة الصورة,فيما بدأت علاقته بالفن السابع ككاتب سيناريو وحوار لفيلم "اعترافات
امرأة", مناخراج سعد عرفة, وجاء فيلم "زوجتي والكلب" كباكورة عمله كمخرج
سينمائي.
والذين عرفوا سعيدمرزوق عن قرب يؤكدون انه كان يحمل قلب طفل اخضر وابعد ما يكون عن
الغرور الذي قديتصوره البعض ممن لم يعرفوا عاشق الصورة والرجل الذي كانت السينما
ملعبه الحقيقيوفازت كل افلامه بجوائز سينمائية ووصف بمخرج "الشغب السياسي", بعد
فيلم "المذنبون"كما حصل على جائزة النقاد العالميين.
وفي كتاب"سعيد مرزوق عاشق السينما", يقول الناقد السينمائي طارق الشناوي "انالعلاقات
الانسانية لسعيدمرزوق ربما كانت "نقطة ضعفه وهي بالتحديد كعب اخيل الذي يحاول
ان ينفذ من خلالهمن يريد ان يطعنه في شرفه الفني", موضحا ان هذا الفنان "حالة
فنية خاصة"ولهذا فانه لا يقيم جسورا انسانية لحماية هذه الموهبة ولا يلقي بالا
لتجمعات سينمائية
تصنع منه بطلاعلى الورق ومخرجا لا يشق له غبار وتحيل هزائمه الفنية الى انتصارات
زائفة.
وفي هذا الكتابالصادر عن سلسلة "آفاق السينما"يضيف طارق الشناوي: "لم أجد أصدق من
هذا الفنان وهويعترف: "لم ارض الا عن افلام البدايات", برغم التقدير الشعبي والنقدي
الذي حظيت به أفلامهالأخيرة لكنه يريد ان يكون صادقا في إحساسه ولا يضخم من
حجم إنجازه الفني"لديه دائما عين أخرى يقظة تبحث عن الكمال وتنشده ولهذا لا يرضى
ولن يرضى لأن جذوةالإبداع بداخله لا تعرف الشبع".
ويرى طارق الشناويأن سعيد مرزوق هو أكثر المخرجين المصريين امتلاكا لروح التجريب
في السينما, لافتاإلى أن أغلب التجريبيين في العالم "كان بداخلهم دائما فنان تشكيلي
يريد أن يكون نفسه",فيما وصفه الناقد السينمائي مجدي الطيب في كتاب أصدره المهرجان
القومي للسينماالمصرية عام 2013 بأنه "فيلسوف الصورة".
وإذا كان سعيدمرزوق قد استهل مسيرته كمخرج لأعمال الفيديو بالتلفزيون بمسلسل "ابن
سينا", فهوقد تأثر ثقافيا بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وعملاق الفكر العربي
عباس محمود العقاد,فيما ينقل عنه طارق الشناوي قوله: "في اعتقادي أن المخرج
يجب أن تشمل معرفتهكثيرا من المجالات أن لم يكن كل المجالات".
ويتناول طارق الشناويالفيلم التسجيلي الذي أخرجه سعيد مرزوق عقب عدوان 1967 بعنوان
"أعداء الحرية",معتبرا أن العمق في هذا الفيلم الذي حصل على الجائزة الثانية في
مهرجان ليبزج السينمائيبعد منافسة على الجائزة الأولى مع كلود ليلوش, جاء بفضل
تمرد المخرج علىالروح السينمائية السائدة.
وأردف قائلا فيكتابه : "لا أعتقد انه كان يقصد هذا التمرد بقدر ما أراد ان يكون نفسه..
فعندما يعتمل شيءبداخله يحيله إلى صورة ويكتشف بعد ذلك ان هذه الصورة السينمائية
يقرأها العالمبكل اللغات", منوها بأن فيلم "أعداء الحرية" يحتفظ بقيمته رغم
مرور كل هذه السنوات"بروح التجريب والتمرد والخصوصية", وهذه هي قيمته التي لا
يمحوها الزمن,بل يزيدها تألقا ورسوخا.
وبعد رحيل الزعيمجمال عبد الناصر عام 1970 يقدم سعيد مرزوق الفيلم التسجيلي "دموع
السلام" ليعبرعن الزعيم الخالد قيمة وقامة, مكانا ومكانة وحياة في حياة الأمة العربية.
وإذا كانت روحالتجريب في السينما المصرية ممكنة في الأفلام التسجيلية فإنها في السينما
الروائية تصبحنوعا من التحدي لا يجرؤ عليه احد في ظل قوانين السوق- كما يقول
طارق الشناوي-إلا أن سعيد مرزوق فعلها مرتين في فيلمي "زوجتي والكلب", و"الخوف",
وكانا من بطولةالراحلة العظيمة سعاد حسني والفنان المثقف نور الشريف.
وقال الكاتب الراحللطفي الخولي ان سعيد مرزوق قدم في فيلم "الخوف" الإنسان الذي نحس
به مختفيا تحتجلودنا جميعا بصور مختلفة ويشلنا الخوف عن تعريته, فيما يبدو صاحب
فيلم "أغنيةالموت" بحاجة لدراسات ثقافية كاشفة بعمق لمدى إسهامه الكبير في رحلة
السينما المصريةوالتفكير الابداعي بالصورة".
وضمن الملاحظاتالدالة لطارق الشناوي في هذا الكتاب أن "الفلاش باك" أو العودة للماضي,
وسيلة دائمة فيأفلام سعيد مرزوق, بل أحيانا تكون أحداث الفيلم كلها قائمة على
الفلاش باك كمافعل في فيلمه الشهير "المذنبون", غير أن هذه الوسيلة في رؤيته
السينمائية لاتصبح مجرد حكي عن الماضي وإنما يصنع من خلالها "حالة" في نسيج فيلمه.
ومخرج فيلم"المغتصبون", و"أيام الرعب", كان يضع عينه اللاقطة على قضايا مجتمعهلينير
الطريق أمام الشعبالذي انتمى له وأحبه, وهو قد باح لطارق الشناوي أثناء اعداد
هذا الكتاب بأنكل ما كان يحيط به في طفولته المبكرة بمنطقة "نزلة السمان", قد
أثر في تكوين شخصيته,فضلا عن تكوينه الفني, كما يعتقد أن كل إنسان يرتبط ارتباطا
وثيقا بما يعايشهمن أصوات في طفولته, وهو ما صنع ما يمكن وصفه بحالة "الشجن النبيل"في
شخصية عاشق السينما.
وإذا كان راهناللحظة المصرية في صناعة الدراما يثير تساؤلات مثل: كيف عجزت الثورة
المصرية عن التأثيرعلى الدراما? ولماذا بقى المشهد السينمائى والتلفزيوني الدرامي
المصرى بعد ثورة25 يناير دون تغيير?, فغن تأمل مسيرة الراحل سعيد مرزوق صاحب
مسلسل "صقرقريش", و"حكاية وراء كل باب", ربما يقدم بعض الإجابات المفيدة لتجاوز
الأزمة الراهنة.
ويوما ما قيل بحقفي سياق مقاومة التطبيع ان مصر لا يمكن ان تخشى من الثقافة الإسرائيلية
وان العكس هو الصحيحبحكم التفوق الحضاري- الثقافي المصري وأصالته الضاربة
في جذور التاريخ,ولا جدال أن الدراما المصورة المصرية كانت دوما صاحبة السبق في
تلك المنطقة, وهيالتي تستند على مخزون ابداعي هائل لفنانين في حجم المخرج سعيد
مرزوق صاحب فيلم"إنقاذ ما يمكن إنقاذه" الذي كان في الحقيقة "تعبيرا جماليا في مكافحة
الفساد والتحذيرمن مخاطر الإرهاب".
ومن هنا يقول المطربالجزائري الأصل والعالمي الشهرة "الشاب خالد" أن مصر هي المدرسة
الكبيرة التي يتعلممنها كل المطربين والفنانين العرب", منوها بأنه "تعلم الكثير
من الموسيقى المصريةخلال مسيرته الفنية, فيما يمكن القول دون أدني تزيد أن اسم
سعيد مرزوق يدخلبثقة في قائمة اعظم مخرجي السينما المصرية عبر تاريخها المديد
الذي تجاوز المائةعام.
فسعيد مرزوق صاحب"هدى ومعالي الوزير", و"المرأة والساطور", و"آي آي",والذي كان يقول
ان "المغامرةهي متعة الفنان", كان يحمل إعجابا كبيرا بالمخرج الراحل نيازي مصطفى
ويصفه بأنه منأعظم رجال السينما في مصر, غير انه لم يستطع أن يقدم قدراته وإمكانياته
الفنية على الشاشة".
إن النظرة العميقةللدراما التلفزيونية التركية- التي تراجع مدها الآن بصورة واضحة
في المنطقة العربية-تكشف عن تأثر واضح بمسألة الشكل, كما يتبدى في رموز تلك الدراما
: "مهند وفاطمة",ومسلسلات مثل "حريم السلطان", و"زينب", غير أن تلك النظرة
تكشف أيضا عن سبقمصري في هذا الاتجاه مع السنوات الأولى للسينما المصرية, فهو أسلوب
تبناه شيخ المخرجينالمصريين محمد كريم.
ومحمد كريم هوأول من اشتغل بالإخراج السينمائي من المصريين وعرف بالعناية الفائقة
"بالمنظرولوازمه ومحتوياته", وكان يقدم الطبيعة في أجمل صورها, وهو ما يتجلى في
أفلام مثل"زينب", و"الوردة البيضاء", ودارت اغلب أفلامه حول مواضيع عاطفيةوغنائية.
والسينما المصريةكان لها فضل السبق في إدخال "الواقعية" في الفن السابع بالمنطقة
كلها بإبداعاتالمخرج كمال سليم منذ عام 1939 وظهور فيلم "العزيمة" ليدشن مدرسة الواقعية
في مواجهة الإغراقفي الرومانسية لشيخ المخرجين محمد كريم.
أما كمال سليمبواقعيته فهو يعالج مشاكل اجتماعية من صميم الواقع المصري عن طريق تقديم
"شخصيات مصريةنعرفها تماما لأنها تعيش معنا ونلتقي بها كل يوم في حياتنا اليومية",
وفي عام1965 اختارالناقد والمؤرخ السينمائي الفرنسي جورج سادول في كتابه
"قاموس الأفلام"فيلم "العزيمة" لكمال سليم كواحد من الأفلام العالمية في تاريخ
السينما.
بل إن سادول اعتبرهذا الفيلم المصري الذي ظهر عام 1939 "يفوق الأفلام الفرنسية والإيطالية
التي ظهرت في الفترةذاتها", فيما جاء صلاح أبو سيف ليمسك كمخرج مصري كبير
بخيط الواقعيةمن جديد ولتعبر أفلامه مثل "الأسطى حسن", و"ريا وسكينة", و"الفتوة",
عن اللحظة التاريخيةالمصرية.
وتبلور هذا الاتجاهبمزيد من الوضوح في "القاهرة 30", و"بين السماء والأرض", و"بداية
ونهاية",و"القضية 68" وكان هذا الفيلم الذي دشن ما عرف "بالواقعية النقدية"يتحدث
وقتها عن ضرورةالثورة بعد ان تهدم كل ما عداها, "فالثورة ضرورة من اجل النمو
والتقدم",وهناك كمال الشيخ صاحب أسلوب الإثارة والتشويق وأول من أخذ بيد سعيد
مرزوق مباشرة لعالمالسينما, فيما لا حاجة للإفاضة في إنجازات يوسف شاهين للفن
السابع المصريوالعالمي, وحرفية المخرج نيازي مصطفى وتمكنه من أدواته في أفلام المغامرات
والصراعات, وتميزأفلام المخرج فطين عبد الوهاب المفعمة بروح الضحك والمرح,
و"أستاذية"حسن الإمام في أفلام الميلودراما.
وسيبقى اسم المخرجسعيد مرزوق طويلا في ذاكرة السينما كأحد "كبار المفكرين بالصورة",
وأصحاب الدراماالتي شكلت الوجدان المصري والعربي لسنوات طويلة.
وإذا كان المخرجالإيطالي "انطونيني", هو صاحب مقولة ان "اكثر ما يثير انتباهي في
هذا العالم هوالإنسان وتلك هي المغامرة الوحيدة لكل منا في الحياة", فتلك هي مغامرة
ورحلة المصري سعيدمرزوق, وما أروعها وأنبلها من مغامرة ورحلة باقية في ضمير
مصر الخالدة!