القاهرة 06 سبتمبر 2014 الساعة 05:09 م
رحلتْ عنا عالمة المصريات الفرنسية(كريستيان ديروش نوبلكور) فى يونيو 2011عن عمر تجاوز97عامًا (مواليد1913) هذهالعالمة (وغيرها من علماء علم المصريات) عندما يقرأ العقل الحر كتبهم عن الحضارةالمصرية ، يتساءل : لماذا أنصف هؤلاء العلماء حضارة جدودنا ، بينما المصريون/العروبيون/ الإسلاميون يُعادون (جدودهم) ؟ أليس الفيصل فى ذلك هو الاحتكام إلى لغةالعلم التى تـُعرى الانحياز الأيديولوجى ، بأضلاعه الثلاثة : السياسى والعرقىوالدينى . وبينما تذهب الأيديولوجيا إلى مزابل التاريخ ، تصمد لغة العلم وتزدهر. ولأنّنوبلكور اعتمدتْ على علمىْ المصريات واللغويات ، وعلى التنقيب الأثرى وإقامتها فىمصر لعدة سنوات ، لذلك أصبحتْ كتبها مرجعًا لا غنى عنه لأى دارس للحضارة المصرية. ويُوزعكتابها عن رمسيس الثانى أكثر من مليون نسخة فى فرنسا . وعندما عقدتْ مقارنة بينشعبنا فى العصر الحديث وجدودنا فى مصر القديمة ، تواضعتْ وكتبتْ فى مقدمة كتابها(المرأة الفرعونية) : ((لاريب أنّ تجربتى الطويلة على مدار سنوات قضيتها معالفلاحين فى القرى ، أو فى مواقع التنقيب عن الآثار، ثم مع سكان المدن ، ساعدتنىعلى تفهم أفكار سكان وادى النيل القدماء ، ومكنتنى من أنْ أدنو منها كثيرًا.فالمظهر الخارجى للمصريين تغيّر فى شىء أو آخر، ولكن الجوهر كما هو. وكم أفدتُ منمراقبتى لنساء الريف فى مصر العليا وهنّ يمارسنَ شئون حياتهن العادية. وكم أفدتُمن حديثى مع سيدات الطبقة الراقية ، ولولا ذلك لما استطعتُ أنْ أتفهم المواقف والتقاليدالتى تـُعبّرعنها الرسوم والمناظر المنقوشة على الجدران فى المعابد والمقابر، أو التعبيراتاللغوية التى وردتْ فى النصوص القديمة. إنّ آثار مصر ترسم لنا صورة للدولةالخالدة)) (هيئة الكتاب المصرية- عام 1999- ترجمة فاطمة عبدالله محمود)
أكثر من ملكة مصرية :
علمتنا الثقافة السائدة البائسة أنّ المرأة التى تولتْ حكم مصر هى حتشبسوتفقط ، وأحيانـًا تتم الاشارة إلى نفرتيى زوجة أخناتون ، ونفرتارى زوجة رمسيسالثانى بصفتهما شاركتا فى الحكم ، بينماالبرديات والجداريات تؤكد على وجود أكثر من ملكة حكمتْ وحدها مثل (نيتوكريس) التىتولتْ الحكم أواخر الأسرة السادسة. وأنها ((كانتْ تفوق جميع رجال عصرها شجاعةوإقدامًا)) والملكة الثانية هى (نفروسبك) فى الدولة الوسطى وختمتْ الأسرة12وأحدتماثيلها الآن بمتحف اللوفر. أما نفرتيتى فقد تولتْ الحكم بعد أنْ مات زوجهاأخناتون . أما الملكة (تا وسرت) فحكمتْ فى أواخرالأسرة19 وتأثر بشخصيتها الكاتبالفرنسى (تيوفيل جوتييه) وجعلها بطلة روايته الشهيرة (قصة المومياء) بهذا المدخلتنقلنا نوبلكور إلى حقيقة ثابتة فى مصرالقديمة وهى أنّ ((وراثة العرش كانتْ تتم منخلال الملكة)) وأنه منذ الأسرة الثانية تولتْ المرأة حكم مصر. وأنّ الفرعون العظيمحور- إم – حب كان من عامة الشعب ، ومع ذلك تولى حكم مصر بعد زواجه من الأميرة (موت– نجمت) وحدث العكس عندما تزوّج الفرعون أمنحتب الثالث من الفتاة (تى) وهى من عامةالشعب. ونظرًا للدورالعظيم الذى أدّته (أع حتب) زوجة الفرعون العظيم سقنن- رع وأمكل من كاموس وأحمس ، فإنّ الأخير بعد أنْ قضى على الهكسوس قرّر تكريم أمه بمنحهاوسامًا عسكريًا ، فكانتْ أول امرأة فى التاريخ تحمل الوسام العسكرى . وفى حوار بينأحمس وزوجته حدّثها عن فضل جدته وأمه فى التحريض على مواصلة القتال ضد الهكسوس بعداستشهاد الأب (سقنن- رع) وأخيه الأكبر(كاموس) وأنه يتذكر دائمًا ((والدة أبىووالدة أمى الزوجة الملكية المعظمة. والأم الملكية المتوفاة تيتى شيرى))
المساواة المطلقة بين المرأة والرجل :
بعد دراستها للبرديات التى تناولتْ القانون فى مصرالقديمة ، توصلت نوبلكور إلىأنّ مصر وضعتْ البذور الأولى للمساوة بين المرأة والرجل ، فكتبتْ (كانت مصر فىنطاق العصور القديمة ، البلد الوحيد الذى خصّص فعلا للمرأة وضعًا قانونيًا تتساوىفيه مع الرجل . ويبدو هذا واضحًا دون غموض طوال فترة حكم الدولة القديمة كلها ،ويتألق بوضوح ساطع خلال الدولة الحديثة.. وكل الدلائل تؤكد أنّ المرأة المصريةكانت تتساوى مع الرجل من الناحية القانونية وتـُعامل مثله على قدم المساواة. وكانتالمرأة تستطيع أنْ تكون صاحبة أملاك وأنْ تـُبرم العقود.. ولا يطرأ أى تغيير علىوضعها القانونى بعد زواجها.. وفى الميراث لا فرق بين الرجل والمرأة ، عكس الوضع فىالعراق القديم . ونقلتْ ما ذكره عالم المصريات فيشرH. Ficher الذى جمع أكثرمن 25لقبًا لسيداتمصر القديمة : مفتشة الخزانة ، مديرةإدارة ، ومديرة المغنيات. ورئيسة الطبيبات السيدة (بسشت) أول امرأة فى العالمتمارس مهنة الطب . وشغلتْ السيدة (نبت) منصب قاضٍ ومنصب وزير. وهناك مهنة (سيدة أعمال) مثل السيدة (نينفر)صاحبة الأراضى الشاسعة. ولم تعرف المرأةالمصرية الوصاية التى خضعتْ لها المرأة الرومانية. وبسبب هذا الفرق الحضارى بينمصر وروما ، صبّ سوفوكليس ويوربيديس غضبهما على الرجل المصرى الذى يتنازل عن حقوقهلزوجته. ولم يفت نوبلكور أنْ تـُـشير إلىالخيال الخلاق لجدودنا الذين أبدعوا إلهة للعدالة (ماعت) وأنّ تدريس ال (ماعت)للتلاميذ فى المدارس كان واجبًا مقدسًا ، وكتب الحكيم (بتوزيريس) أنّ ((زوجته..حبيبته.. ربة الحسن والجمال.. ذات الحديث الطيب.. وأنّ كل ما تنطق به شفتاهايتشابه تمامًا مع أعمال الماعت)) (ص228)
الحضارة المصرية ضد التعصب العرقىوالطبقى :
أكدتْ نوبلكور من واقع البرديات أنّ أى سيد كان يستطيع أنْ يتزوج من جاريته، وبعد الزواج تـُصبح الزوجة حرة مستقلة هى وأولادها منه. وعندما حكم البطالمة مصرألغوا هذا القانون. وفى مصر عندما تتزوج الخادمة كان سيدها يدفع لها مهرها لزوجها.وفى (بردية التبنى) قصة السيدة التى تزوّج أخوها (باديو) من خادمتها الشابة. وحدثالعكس وفقــًا للنصوص المحفوظة بمتحف اللوفر، إذْ تزوّجتْ سيدة ثرية من خادمها رغمأنه أسير حرب زمن تحتمس الثالث. وأوضحتْ البرديات أنّ السيدات الثريات كنّيتبنّيْنّ أبناء الخدم ، ويُقدّمن لهم الهبات القيمة ويمنحونهم حق التوريث كأىمواطن مصرى . كما كان للخادم أنْ يشهد ضد سيده أمام المحاكم . وكان تعليق نوبلكور فىهذا الفصل من كتابها (إنّ المصريين لم يكن لديهم أى تعصب عنصرى) (ص222)
معنى كلمة (زواج) بالمصرى :
لغة العلم هى السلاح المضاد للتعصب الأيديولوجى ، ولأن نوبلكور تسلحتْبعلمىْ اللغويات والمصريات ، لذلك توقفتْ أمام معنى كلمة زواج فى اللغة المصريةالقديمة ، فوجدتْ أنها تعنى حرفيًا (يجلس) و(يجلس مع) ومنها امتد المعنى إلى(عايش) و(عاش مع) وأنّ التعبير المستخدم لوصف المعاشرة الزوجية هو(يعيش مع) (ص260،340) وأعتقد أنّ ترجمة الكلمة عن اللغة المصرية القديمة ، عمّقتْ البعد الحضارىلجدودنا ، فى هذا المعنى الراقى للحياة الزوجية فى دلالة (المشاركة) التى تعنى(الندية) و(المساواة) وتنفى خضوع طرف لطرف كما هو شائع لدى ثقافات عديدة سواء فىالعصورالقديمة أو الحديثة. كما ذكرتْ أنّ كلمة عيد فى اللغة المصرية القديمة تعنى(حب) hep وأنهااستمرّت فى اللغة القبطية بتغيير بسيط فأصبحتْ (هب) hop التى تعنى ليس فقط (عيد) ولكن (عيدزواج) بصفة خاصة (ص263) هذه المعانى الرقيقة عن الحياة الزوجية عبّرتْ عنها زوجةلزوجها فى هذه القصيدة ((يا زوجى.. إنه لأمر مستحب وممتع الذهاب إلى البحيرة. إنّرغبتك فى أنْ ترانى وأنا أنزل إليها. وأنْ أستحم أمامك. يغمرنى بالنشوة. سأتركك ترى جمالى.. وأنا أرتدى رداء التيل..بخلاصة العطور.. إننى أنزل إلى الماء كى أكون بجانبك)) (274) وفى المقابل يكتبالحبيب لحبيبته (ليتنى أغسل ملابسها.. وهنا تكون سعادتى ونشوتى) (ص205) وتكتب فتاةقصيدة تتخيل فيها زوج المستقبل ((أنت يا أكثر الرجال وسامة.. إنّ رغبتى هى فىالسهر على ممتلكاتك.. وأنْ تستريح ذراعك فوق ذراعى.. وأنْ يغمرك حبى.. إننى أسر إلىقلبى برغبة العاشقة : هل يمكن أنْ أحصل عليه كزوج هذه الليلة ؟ فبدونه.. أنا كائنفى مقبرة.. ألستَ أنتَ العافية والحياة ؟)) وتكتب فتاة أخرى قصيدة رومانسية ((لقدأثار حبيبى قلبى بصوته. إنه يسكن قريبًا من بيت والدتى. إنه لا يعلم برغبتى فى أنْآخذه بين ذراعى . ولا يعرف بما دفعنى للافصاح بسرى لأمى.. فيا حبيبى.. فلتعمل ربةالنساء الذهبية.. على أنْ تجعلنى من نصيبك.. إنّ قلبى يُسرع فى دقاته.. لقد أصبحتُلا أعرف كيف أرتدى ملابسى.. وأهملتُ مراوحى.. إلخ)) (ص236) ألا تـُذكرنا هذهالقصيدة بقصيدة كامل الشناوى التى غنتها نجاة الصغيرة ((وفساتينى التى أهملتهافرحتْ به.. إلخ)) وإذا كان البشر فى كل كوكبنا الأرضى يضعون (دبلة الزواج) فىأصابعهم ، فإنّ الفضل يعود (أولا) إلى جدودنا المصريين القدماء ، ويعود (ثانيًا)إلى عالم المصريات (سونيرو) الذى قرأ فى احدى البرديات عن التشريح أنه يكفى الحصولعلى كمية صغيرة من دم الاصبع الثانية المجاورة للخنصر باليد اليسرى ، الذى يتطابقمع الطحال ، وكانتْ تـُسمى بإصبع القلب. وعُرفتْ فى اللغة القبطية باسم (سيلويين)وبناءً على ذلك يتضح لنا حاليًا سبب وضعنا دبلة الزواج فى الإصبع البنصر باليداليسرى ، وهذا ما رأتْ نوبلكور أهمية أنْ تـُشير إليه وهى تكتب عن حضارة جدودنا(ص243)
نوبلكور مصرية العقل والوجدان :
شاهدتْ نوبلكور مشهد نقل تابوت الملك رمسيس الثانى إلى مركب بالنيل يتجه بهإلى القاهرة فكتبتْ ((وقف المصريون على الشاطىء عند الأقصر وكأنهم يُشاركون فىجنازة عصرية. النساء يولولنَ من الحزن وينشرنَ الغبار على شعورهنَ . والرجاليُطلقون النار من البنادق) وفى كتابها عن رمسيس الثانى كتبتْ ((إننى أرفض الافتراءعلى التاريخ. وأنّ الادعاءات اليهودية على الملك رمسيس هى محض افتراء ، وليس لهاأى أساس من الصحة)) كتبتْ هذا بعد أنْ أمضتْ أكثر من 30سنة تبحث وتدرس وتـُنقب وتنتقلفى مواقع الآثار قبل أنْ تـُصدر كتابها. كما أنها أدّتْ دورًا مهما فى إنقاذآثارالنوبة. وهى التى أنقذتْ معبد (السبوع) أحد أهم معابد النوبة. إذْ طلبتْ منالحكومة الفرنسية إعداد قضبان السكك الحديدية. وفوق هذه القضبان جرى (سحب) المعبدإلى أعلى الجبل ، بعيدًا عن المجرى الذى غمرته مياه النيل عند بناء السد العالى ،وبذلك أنقذتْ المعبد من الغرق. وكتبتْ ((أنّ الساميين الذين كانوا يفدون إلى مصر للعملبها ، كانوا يعيشون حياة هانئة. هذه هى حقائق التاريخ الثابتة)) وانتهتْ إلى تفنيدالتراث العبرى عن الطغيان فى مصر القديمة فكتبتْ ((لم يكن الفراعنة قساة)) وعنمعركة (قادش) التى كاد رمسيس أنْ يُهزم فيها بسبب العبرانيين الذين عملوا جواسيسلصالح الحيثيين ضد مصر، وصدّقهم رمسيس ، لكنه تنبه للمؤامرة فى آخر لحظة فبدّلخططه. ودحر جيش الحيثيين سكان الأناضول.
وعن انطباعاتها عن الفترة التى عاشتها فى مصر كتبتْ ((إننى أجد لدى أصدقائىالمصريين الذين أحبهم وأقدّرهم- سواء سكان القاهرة أو الصعيد- ردود أفعال هى نفس ردودأفعال أسلافهم منذ أربعة آلاف عام. إنّ الاستمرار واضح. إنّ الشعب المصرى يتمتعبحكمة هائلة لا أجدها فى الشعوب الأخرى. والمصريون القدماء مهندسون عظماء. إنّخطوطهم تتسم بالصفاء وبالتوازن . وكل هذا نجده فى طبائع المصريين الآن . والمصريونلا يكرهون الأجانب مثل معظم الشعوب الأخرى.. والمصريون القدماء لم يكونوا قساة علىالإطلاق.. وعندما أرى أفلامًا مثل الوصايا العشر وغيرها تـُصوّرالمصريين وهميدوسون فوق رقاب العبيد الساميين ، أشعر بالغضب ، فهذا كذب وافتراء)) (لمزيد منالتفاصيل أنظر كتاب (الفرعون الذى يُطارده اليهود بين التوراة والقرآن) تأليف سعيدأبوالعنين- أخباراليوم- مايو97أكثر من صفحة. نوبلكور لأنها ولتْ وجهها شطر لغةالعلم ، نبذتْ الأيديولوجيا فتمكنتْ من التجرد العرقى ، فكتبتْ فى مقدمة كتابها(المرأة الفرعونية) : ((تروى لنا بعض الآثار روايات عجيبة ، تـُبرهن على المواهبالرفيعة التى تمتــّع بها المصريون القدماء ، ذلك الشعب الذى أبدع حضارة متقدّمة ،فى ذات الوقت الذى كان جدودنا فى أوروبا قابعين فى ظلمات الكهوف))
***