القاهرة 27 اغسطس 2014 الساعة 03:54 م
يمثل علم التاريخ الذاكرة الجمعية لأي شعب، كلما كانت تلك الذاكرة قوية ومتماسكة كلما كانت قدرة المجتمع على الصمود والاستمرار ومواجهة التحديات والتعامل مع المتغيرات أكثر صلابة ومرونة في آن واحد.
وكتاب " المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" لمؤلفه المؤرخ القدير بل العبقري "تقي الدين احمد بن علي بن عبد القادر المقريزي " نموذجا فريداً في هذا المجال . وكتاب المقريزي يقع في أربعة مجلدات تقدم وصفا دقيقا وعرضا أميناً لمصر بوجه عام، وللقاهرة بوجه خاص، في زمن المقريزي. ويتناول أوضاع الطوائف والأعراق والعادات والتقاليد مالها وما عليها كما يتناول المعمار في القاهرة والقصور والقلاع وأخيرا يقدم كشاف بأسماء الأعلام والأماكن ( ويعد الكتاب وثيقة تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية ومعمارية وسكانية) في مجاله وهو بخلاف مؤلفات كثير من المؤرخين والكتاب المحدثين الذين يتأثرون بالنظام القائم وأحيانا يصبغون كتاباتهم بصبغة النظام، فيبرزون شيئا، ويتجاهلون أشياء، ولعل ذلك يعطينا الدرس الأول في كتابة علم التاريخ، وهو الحيادية والشمولية بقدر الإمكان والبعد عن التحزب أو ما أصبح يطلق عليه الادلجة في الكتابة المعاصرة سواء اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية. ولعل العبرة هنا هي الاستفادة من منهج العمالقة من القدماء والابتعاد عن تلوين المواقف بلون الحكام لان مؤدي ذلك تشويه كتابة التاريخ، وعدم الدقة في عرض الوقائع والأحداث . المؤرخ المقريزي ولد في حارة نرجوان بالقاهرة عام 764 هــ 1364 م ميلادية، وعاش و توفى في القاهرة فيها عام 845 هـ 1442م وهو تلميذ وكانت القاهرة عاصمة دولة المماليك، واهم واكبر مدينة في العالم الإسلامي ومرت سيطرتها على مصر والهلال حتى الفرات والأماكن المقدسة في الحجاز، قامت دولة المماليك في وقت بدء انهيار دولة الأيوبيين أمام جيش الإفرنج الصليبين في حملة لويس التاسع، ونجح المماليك في صد الغزو ووضع نهاية للممالك الصليبية في فلسطين والشام، كما صدوا المغول واستضافوا الخلفاء العباسيين عام 1258. وقد قام بتحقيق الكتاب المؤرخ المصري المعاصر الدكتور ايمن فؤاد سيد من الطبعة المحفوظة في متحف باستانبول ونشرها عام 1995 ثم أعاد تنقيحها ومراجعتها مع طبعات أخرى محفوظة في متاحف كثيرة في فرنسا وألمانيا وانجلترا وإيران ومصر وايطاليا وتونس والجزائر وروسيا والولايات المتحدة ومكة المكرمة وهولندا والقدس والفاتيكان والعراق، وهذا يظهر لنا أهمية مراجعة الوثائق وتقديمها، وأهمية المحافظة على التراث وإعادة إحيائه، ويظهر لنا جريمة الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 بنهب المتاحف، وجريمة العابثين في ثورة 25 يناير في مصر بحرق المتحف العلمي وحرق المتحف الإسلامي وغيره من المؤسسات الثقافية مما يدل على جهل بأهمية التاريخ وخبث في السعي لطمس معالم الذاكرة بل وعلى سعي لتصوير مصر أو العراق أو غيرها بأنها ولدت اليوم، أو حتى أفغانستان عندما قام المتطرفون والإرهابيون بتدمير تمثال بوذا أو قام بعضهم في مصر والعراق وسوريا وليبيا بتدمير الأضرحة والأماكن الدينية بدعوى إنها بدع. وهنا من قمة الجهل لان المسلمين الأوائل وهم أكثر فهماً لمعنى كتاب الله ولمعنى الوحدانية لم يدمروا الكنائس والمعابد عندما فتحوا مصر والشام أو الهند إنهم حطموا الأصنام التي عبدت كالهة ولم يحطمها كتراث أعمالا لقوله تعالي "أَوَلَمْ يَسيرُوا في الْأَرْض فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقبَةُ الَّذينَ منْ قَبْلهمْ كانُوا أَشَدَّ منْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ ممَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالْبَيّنات فَما كانَ اللَّهُ ليَظْلمَهُمْ وَلكنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلمُونَ (9الآية ، سورة الروم) " وقوله تعالى " أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى، عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، ? 82? فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) (سورة غافر)" وقال تعالى " قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ( النمل (69) ) " وهنا نشيد بالمقريزي لحسن اختياره عنوان كتابه الذي يحمل عنوانا له دلالاته وهو المواعظ والاعتبار في ذكرالخطط والآثار " فهذا مصطلح بالغ الدقة لأنه يقدم لنا المعنى الحقيقي لعلم التاريخ وعلم الآثار، وهي العظة والاعتبار، واستخلاص الدروس المستفادة وليس مجرد الحفظ في المتاحف أو القراءة السطحية أو الدعاية السياسية الساذجة وهذا إعمالاً للمضمون العلمي في القران الكريم وقصصه عن القرون والشعوب السابقة، وما فعلت من سوء، وما حققت من تقدم وأسباب دمارها وانتهاء عظمتها وتدهورها.
ويحمد لمحقق التاريخ الدكتور ايمن فؤاد سيد انه قارن كتابات المقريزي في عدة متاحف وكذلك قارنتها بمؤلفات لاحقة في القرن التاسع مثل " وصف مصر" الذي أصدره علماء الحملة الفرنسية والذي صدر لأول مرة عام 1822 كما أشار في مقدمته التفصيلية لدور المؤرخين الأوروبيين والفرنسيين في تسجيل وصف مصر واستفادتهم مما كتب المقريزي وغيره من المؤرخين المصريين وإفادة محمد علي، باني مصر الحديثة من كل ذلك في مشروعه لتحديث مصر ،رغم انه كان عسكريا، وليس مؤرخا، ومع هذا فقد كان صاحب رؤية عميقة واستقطب العلماء الأجانب كما أرسل البعثات المصرية لأوروبا وهو ما ساعد في أحداث النهضة بعد انتهاء فترة حكمه . كما أشاد المحقق بجهود وزارة الأوقاف المصرية ونشرها عام 1948 كتاب " مساجد مصر" ونشرها عدة صور فوتوغرافية لمساجد مصر. ويلاحظ ان كل مسجد كانت تلحق به مدرسة وهذا يدل على ارتباط الدين بالعلم في الفكر والحضارة الإسلامية، وليس مجرد مظهر للدين في شعائر وطقوس وتجاهل العلم والعلماء كما يحدث الآن بل وادعاء البعض بان علوم الفضاء والعلوم الحديثة كفر، وان علوم التراث كفر، كما تجلى في حرق الجهلاء للمتحف العلمي والمتحف الإسلامي، وكادوا يحرقون المتحف المصري ( أي أثار الفراعنة) وثمة إشادة واجبة من الدكتور أيمن بالشيخ احمد زكي يماني صاحب مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي ومركز دراسة المخطوطات الإسلامية.
ويعد كتاب المقريزي "في خطط الآثار" الذي يستعرض تاريخ مدينة القاهرة من أوائل الكتب في مجاله هذا العلم، وسبق بذلك كتاب تاريخ فلورنسا الذي أرخ مدينة فلورنسا وصدر عام 1840 أي بعد وفاة مؤلفه بنحو 40 عاما، وقد أشار المقريزي إلي ان أول من رتب "خطط مصر وأثارها" كان محمد بن يوسف الكندي المتوفى عام 350 هـ 961 م وسبقه أيضا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم المتوفى عام 257 هـ 870 م في كتابه " فتوح مصر وأخبارها" وان كانت بعض تلك المؤلفات للكندي وابن الحكم قد فُقدت كليا أو جزئيا.
إن عظمة المؤرخين القدامى أنهم كانوا يذكرون المصادر التي اعتمدوا عليها أو نقلوا منها فالمقريزي ذكر من سبقوه، والسيوطي المتوفى عام 911 هـ 1505م في كتاب " حسن المحاضرة" أشار إلى انه نقل رواية فتح مصر في كتابه من كتاب " الخطط " للقضاعي الذي ظل متداولاً حتى العقود الأولى من القرن العاشر الهجري والذي ظهر في القرن الحادي عشر الميلادي.
كان ابرز من تأثر به المقريزي وتتلمذ على يديه وتبنى مدرسته هو عبد الرحمن بن خلدون مؤسس علم الاجتماع وتأثر بنظريته في العمران، واستخدمها بطريقة أكثر توسعا لان ابن خلدون طبقها على تحليل الماضي ألمغاربي، وابتعد عن تطبيقها على الحاضر ألمغاربي أو المملوكي اللذين عايشهما كنوع من الدهاء السياسي ورغبة في الإبقاء على خطوط تواصل معهما، ونظرية بن خلدون من تتابع أطوار العمران والخراب سبب حتمية صعود وسقوط الدول في التاريخ، وارتبط المقريزي مع ابن خلدون منذ قدومه مصر عام 1382م 784 هـ حيث استقر في مصر فترة طويلة وتأثر به كثير من المؤرخين وكونوا مدرسة من المعجبين به، و أوضح المقريزي ذلك بوجه خاص في كتابه " إغاثة الأمة" و كتابه " النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم " ولكنه طبق النظرية في كتابه " المواعظ والاعتبار". ومما يجدر ذكره ان المقريزي برز كمواطن مصري غيور، كرس كتبه وجهده العلمي لكتابة تاريخ مصر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ولإحياء معالم مسقط رأسه القاهرة، بل انه كان هو وأقرانه يفاخرون بحارة بزجوان " التي ولد ونشأ فيها على حارات القاهرة الأخرى.
يُعد كتاب الدكتور أيمن فؤاد سيد المعنون المقريزي وكتابه : المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار . " الصادر من مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي عام 2013م بمثابة تحليل وتقديم لكتب المقريزي من حيث مصادره وأسلوبه وتاريخه واستعراض لأساتذته ولكل قسم أو مجلد من المجلدات الأربعة، وكذلك لفكره وللمذاهب الدينية و التصوف، والمسيحيين واليهود وغيرهم من سكان مصر في جزء كبير منه تاريخ للكتاب والمؤلف والمصادر.
وباختصار يعد الكتاب بمن فؤاد سيد موسوعة او مدخلا لفهم كتاب المقريزي، وفهم المصطلحات وتطورها مثل المدارس و الخانكات والقصور والدور، ليس فقط في مصر بل في الدولة العباسية، وكذلك في إشارته لبروز المدارس السنية والجوامع والمشاهد الشيعية وبناء القباب فوق مشاهد الموتى وتطورها وهو مرجعاً قيماً لفهم تطور مصر الإسلامية سواء في عصور الفاطميين او المماليك وفي تطور حركة السلاجقة في المشرق العربي، إذا استخدمنا المصطلح الحديث أي في أملاك الدولة العباسية في أسيا الوسطى وإيران والعراق وسيطرة الحركة البويهية الشيعية على الدولة العباسية في مرحلة ضعفها حتى أعادها السلاجقة للمذهب الأشعري بعد ذلك. وهذا بحث علمي مهم وضروري لكل متخصص في التاريخ الإسلامي وتطوره والمذاهب الإسلامية وغير الإسلامية، وكانت القاهرة في تلك المرحلة اكبر المدن الإسلامية، ووفد إليها العلماء والمتعلمون من بغداد التي تراجعت، ومن بلاد المغرب، ولهذا لأعجب انه عندما وفد إليها ابن خلدون تألق نجمه وانبهر بها وأطلق عليها اللقب الذي مازال بتردد بأنها "أم الدنيا "رغم كل ما طرأ عليها من تراجع، وبروز مدن ودول أخرى عديدة، ولكنه بقى تعبيرا يحمل عبق التاريخ، وتأثير الحضارة خاصة في خلال ثمانية قرون من التاريخ الإسلامي أي القرن الثالث الهجري حتى القرن الحادي عشر أي من القرن التاسع الميلادي حتى القرن السادس عشر الميلادي . الكتاب موسوعي ولكنني بحثت على المقريزي فوجدت مدخلا لفكره وتاريخه ولم اعثر عن الفكر ذاته وربما يتحفنا الدكتور ايمن فؤاد بكتاب آخر يحلل لنا فكر المقريزي وكتابه حول " الخطط والآثار" وكتبه الأخرى لكي يتعلم صغار المؤرخين والباحثين بل وعامة المواطنين ورجال السياسة كيف يكتب التاريخ وضرورة احترام الحقيقة التاريخية القائمة على مفهوم الوثيقة كأساس للبحث التاريخ ولعلم التاريخ.