القاهرة 27 يوليو 2014 الساعة 03:18 م
صدر عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندريةالعدد الحادي والعشرون من سلسلة "مراصد" بعنوان "منهج النظر إلىمفهوم الجاهلية والحاكمية" للكاتب هشام جعفر.
ويقول الكاتب إن لفظ الجاهلية من مبتكرات القرآن، فلميُسمع هذا اللفظ في العرب إلا بعد نزول القرآن، ثم استخدمته السنة النبوية فكان لهحينئذ معنى واضح ومحدد، ولئن شابه كثير من الغموض والاضطراب في الفكر الإسلامي الحديث، فلعل ذلك يرجع في كثير من جوانبه إلىافتقاد التأصيل المنهجي الواضح لهذا المفهوم انطلاقًا من دلالته في اللغة العربيةأولاً ثم في الأصول المنزلة بعد ذلك.
وفي محاولة تحديد مفهوم هذا المصطلح تثور مجموعة منالتساؤلات الهامة: أولها يتعلق ببيان ما إذا كانت "الجاهلية" فترةتاريخية انقضت ببعثة الرسول أو بفتح مكة على خلاف في ذلك؟ أم أنها "حالةموضوعية"، وليست "فترة تاريخية" توجد كلما وُجِدَت مقوماتها وتوافرت خصائصها وسماتها؟ وثانيهما: أنه إذاكانت الجاهلية "حالة موضوعية" ترتبط بتوافر صفات وشروط معينة، فإنالتساؤل الطبيعي حينئذ يكون عن ماهية هذه المقومات وتلك الخصائص؟
ويحاول الباحث عبر الفصل الأول من الدراسة عن هذهالتساؤلات من خلال النقاط التالية: أولاً: الجاهلية حالة موضوعية أم فترة تاريخية؟ثانيًا: الجاهلية في اللغة والأصول. ثالثًا: مستويات الجاهلية. رابعًا: مقوماتالجاهلية.
إن الرأي في الفكر الإسلامي انقسم بشأن احتمال تكرار الجاهليةمرة أخرى بعد ظهور الإسلام كما انقسم أيضًا بشأن إلحاق صفة الجاهلية بالمجتمعاتالمسلمة اليوم بناءً على اختلاف الآراء بشأن تحديد مضمون الجاهلية ومقوماتهاوالجاهلية التي اعترف بها الفكر الإسلامي الحديث لدى بعض تياراته ورموزه؛ من حيثإمكانية تكرارها مرة أخرى نظر إليها باعتبارها منهجًا في الحياة مناقضًا لمنهجالله، أو بتعبير آخر الجاهلية وفقًا له منهج في الحياة مقابل ومضاد لمنهج الإسلام،وأن الجاهلية طُرِحت أولاً كتعبير عن واقع الانحراف في حياة المسلمين ثم استُخدمتلمواجهة المشروع العلماني للدول الوطنية بعد الاستقلال وموقف الجماهير المسلمة منهذا المشروع. وواقع الأمر فإن حسم هذا الخلاف لا يمكن أن يتم إلا في ضوء التحديدالواضح لدلالات مفهوم الجاهلية كما جاءت في اللغة والأصول المنزلة.
وإن الجاهلية وإن جاءت في النصوص الشرعية بمعنى الفترةالتاريخية المحددة إلا أن هذا لا ينفي أنها يمكن أن تكون "حالةموضوعية"، أي وصفًا يمكن أن يلحق بأية فترة زمنية خلت من منهج الله. فاستعراضوجهتي النظر (الجاهلية فترة تاريخية أم حالة موضوعية) في ضوء آيات القرآن وأحاديث الرسول r ينتهي بنا إلى القول بأن مفهومالجاهلية - كما جاء في النصوص - لا يعد في حقيقته أن يكون (ظاهرة اجتماعيةإنسانية) قبل أن يكون وقتًا زمنيًّا خاصًّا معينًا يمكن أن يتخذ صورًا وتعابير شتى.فالجاهلية بهذا المعنى جوهر، فكرة، مضمون، تجريد له صور وقوالب شتى، وهي بهذاالمعنى لا تحد من حيث نطاق انطباقها وتوافر مقوماته بزمان أو مكان أو إنسان، علىمعنى أنها كما وجدت قبل الإسلام يمكن أن توجد بعده، وكما ظهرت وتأصلت في جزيرةالعرب قبل البعثة فإنها تتعداها إلى سواها، فضلًا عن أنها تصلح وصفًا للإنسان بغضالنظر عن نطاقه الاجتماعي ومستوى تحضره.
وعن مستويات الجاهلية، يشير الكاتب إلى جاهلية الفسوقوالعصيان أن هناك أولاً جاهلية الفسق والعصيان، ويطلق عليها البعض "جاهليةالأعمال"، وهي تلك التي لا يخرجصاحبها من الملة. أما المستوى الثاني فهو الذي تتعلق فيه الجاهلية وتختص بالكفر،ويطلق عليه سالم البهنساوي "جاهلية الاعتقاد"؛ وهي تلك التي يخرج بهاصاحبها عن الملة؛ لأنه لا يصدر عن مجرد سلوك وإنما عن عقيدة تستحل ذلك السلوك.
ويتناول الكاتب مقومات الجاهلية، ويقصد بالمقومات في هذاالسياق تلك السمات الأساسية التي إن توفرت في فرد أو مجتمع أو نظام يمكن أن نطلقعليه وصف الجاهلية مع ضرورة مراعاة التمييز بين مستوياتها: جاهلية الأعمال،وجاهلية الاعتقاد. وبتعبير آخر فإن كل مقوِّم من هذه المقومات له آثاره السلوكيةبالنسبة للفرد والمجتمع والنظم؛ فهذه المقومات بمثابة تصورات نظرية لها آثارهاالسلوكية، أو بعبارة أخرى فهي بمثابة منبع وقاعدة تنطلق منها كثير من التصرفاتوالممارسات. ويحدد الكاتب المقومات الأربعة؛ وهي: تصور الجاهلية لله وعلاقتهبالإنسان والكون والأحداث، وضعية التشريع، الجامع السياسي بين حمية الجاهليةودعواها، وسيطرة قانون اللذة والمنفعة.
خلصت الدراسة إلى عدد من النتائج التي كانت بمثابة إجابةعن التساؤلات التي طرحتها افتراضات الدراسة: أولاً: مفهوم الحاكمية من المفاهيمالأصولية الشرعية التي امتلأت بها آيات القرآن وأحاديث الرسول r، وقد وردت في الأصول بمعنيين؛ المعنىالأول: الحاكمية الكونية، وهي إرادة الله الكونية القدرية التي تتمثل في مشيئتهالعامة المحيطة بجميع الكائنات، وهي تعني القضاء الكلي الناتج عن العلم الإلهيالعام المترتب على الحكمة الكونية في الأفعال الإلهية. المعنى الثاني: الحاكميةالتشريعية؛ وهي تلك التي تتعلق بإرادة الله الدينية، وتتمثل هذه الإرادة في تصورعقدي عن الله والكون والإنسان ونظرية الشريعة العامة؛ حيث تكون العبادات جزءًامنها بالإضافة إلى النظرية الأخلاقية. والتزام الإنسان بالحاكمية التشريعية يحققالانسجام بينه وبين الكون من حوله؛ حيث يكون خاضعًا لإرادة الله اختيارًا باتباعقانون الله الشرعي في حياته الاختيارية، كما هو خاضع لإرادة الله الكونية وتابعلقانونه الطبيعي في حياته الجبرية.
ثانيًا: ومن هذا المنطلق يمكن فهم طبيعة العلاقة بينمفهوم الحاكمية ومفهوم الاستخلاف في الرؤية الإسلامية، فمضمون الحاكمية بمكوناتهاهو عهد الاستخلاف الذي يجب على الإنسان الالتزام به وتحقيقه. فطبيعة الاستخلافتستوجب وجود منهج وشريعة يحدد فيها المستخلف أسس وقواعد وضوابط حركة المستخلف.الحاكمية هي المحددة لهذا المنهج والموضحة للضوابط الحاكمة لتحقيق الاستخلاف.
ثالثًا: أن النتيجة الأهم في ظن الباحث تتحدد من خلالدراسة طبيعة العلاقة بين كلٍّ من مفهوم الحاكمية ومفهوم الجاهلية ومظاهرهماالمعاصرة وتبدياتهما الحاضرة. فكل منالمفهومين له نسق خاص به يستدعي بعضه بعضًا مكوِّنًا نقطة مثالية تكون مثاليةبمثابة قمة التناقض بين المفهومين.