القاهرة 24 يوليو 2014 الساعة 02:21 م
نواصل اليوم تحليلنا النقدى للخطاب الإخوانى الذى بدأناه في مقالنا المنشور في (17 يوليو 2014) والذى اعتمدنا فيه على تحليل المقابلة المهمة التى أجرتها الصحفية «سها الشرقاوى» مع المستشار «أحمد مكى» وزير العدل السابق في عهد الدكتور «مرسى».
وقد اهتممنا على وجه الخصوص بهذه المقابلة لأن المستشار «أحمد مكى»- ولو أنه يقول أنه ليس عضواً في الإخوان إن كان متعاطفاً معهم كما ظهر في المقابلة- إلا أن ما يميزه هو صراحته ونظرته النقدية سواء لحكم الإخوان أو للمشهد السياسى المصرى بعد 30 يونيو. وهى صراحة يحمد عليها لأننا نحتاج في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ مصر إلى ممارسة النقد الاجتماعى المسئول الذى يسمى الظواهر بأسمائها الحقيقية حسب وجهة نظر المتحدث.
ومن أهم الأفكار التى طرحها المستشار «مكى» والتى أشار لها بقوة عنوان المقابلة الصحفية «لم نصل لمرحلة الديموقراطية والمجتمع لم ينضج بعد».
والواقع أن هذه المقولة لا ينفرد بها المستشار «مكى»، لأنها متداولة منذ سنوات سواء في الدوائر الأكاديمية أو في الدوائر السياسية. والدليل على شيوع هذه المقولة في الدوائر الأكاديمية العربية ما ورد بصددها فى أهم ندوة علمية في الفكر العربى المعاصر عقدت عن الديمقراطية وهى الندوة التى نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في قبرص بتاريخ 27 نوفمبر 1993.
ولو رجعنا إلى أحد أبحاث الندوة المهمة التى قدمها الباحث المعروف الدكتور «بسام الطيبى» والتعليقات عليه والمناقشات التى دارت حوله، لوجدنا فكرة استحالة تطبيق الديمقراطية في المجتمع العربى بدون استيفاء شروط مبدئية سبق للدكتور «شارل عيسوى» أن حددها حين قال «إن الأرضية الاجتماعية والاقتصادية في الشرق الأوسط مازالت تفتقر للعمق الذى يؤهلها على أن تجعل الديموقراطية السياسية قادرة على تثبيت جذورها حتى تستطيع أن تتطور عليها ويضيف» إن التغيير وحده الذى سيجعل المجتمع قادراً على أن يخلق أسس الدولة الحديثة».
قد تبدو هذه العبارات مجردة، غير أن عالم الاجتماع التونسى المعروف «الطاهر لبيب» في تعليقه على هذا البحث كشف النتائج العملية التى يمكن أن تترتب على هذه المقولة المجردة حين قال «أن البحث يشير إلى أنه لا ديمقراطية في مجتمع فقير متخلف» وقد تم الاستشهاد «بشارل عيسوى» الذى قرر «إن لم يزدد الدخل الفردى في الشرق الأوسط إلى الضعفين أو ثلاثة أضعاف ما هو عليه الآن فإن الجماهير ستبقى مشغولة بحاجاتها اليومية وسوف تتابع اللحاق بكل قائد ديماموجى «يعدها بتسهيل أمورها».
وقد وجه «الطاهر لبيب» انتقادات حادة لهذه المقولات التى تذهب إلى أن شيوع الفقر في المجتمع العربى أحد موانع تطبيق الديمقراطية.
ولو عدنا إلى تصريحات المستشار «مكى» لوجدناه يتناقض تناقضاً شديداً في موقفه من الديمقراطية. في موقف أول يتحدث عن المجتمع المصرى باعتباره لم ينضج ديموقراطياً بعد، أما الموقف الثانى الذى يتناقض تناقضاً صريحاً مع الموقف الأول فقد جاء استجابة لسؤال طرح عليه وهو «ما تقييمك» بشكل عام للأجواء التى صاحبت العملية الانتخابية» (والخاصة بانتخابات رئاسة الجمهورية الأخيرة).
وكانت إجابته نصها كما يلى «الاستقطاب كان هو النغمة السائدة، والجميع اعتبر أن إزاحة جماعة الإخوان المسلمين هدف كاف لانتخاب الرئيس. فكان من الممكن أن يزيح الإخوان أى أحد، لكن الإزاحة تأتى بالطرق الديمقراطية وعبر وجود جماعة سياسية مناقشة تغلبها». ومعنى ذلك أن المستشار «مكى» ينكر صلاحية المجتمع المصرى لتطبيق النظام الديمقراطى لأنه لم ينضج بعد، ولكنه في الموقف الثانى لأنه يرفض بشكل قاطع ما حدث في 30 يونيو وما تلاه في 3 يوليو من عزل الدكتور «مرسى»- لا ينبغى أن يتم ذلك إلا بالطرق الديمقراطية!
والواقع أن الحل الذى يقترحه المستشار «مكى» كان يقتضى حتى لو سلمنا بصلاحية الديموقراطية للتطبيق في المجتمع المصرى- أن ينتظر الشعب حتى يكمل الدكتور «مرسى» مدته الدستورية ثلاث سنوات أخرى، أو يقبل فكرة إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وهو ما رفضه تماماً.
ولو ناقشنا بموضوعية اقتراح التغيير الديمقراطى لرئيس الجمهورية الإخوانى لاكتشفنا أنه اقتراح خادع، وضعاً في الاعتبار مشروع جماعة الإخوان المسلمين في «أخونة الدولة وأسلمة المجتمع». والدليل العملى على ذلك أن جماعة الإخوان أخذت تبث كوادرها في مفاصل الدولة الحاكمة وأهمها تعيين عدد من أعضائها محافظين وفق خطة تجعل المحافظين جميعاً إلا قليلاً من أعضاء الجماعة، ثم كانت ستسيطر بعد ذلك على المجالس المحلية حتى تضمن أن يكون لها الغلبة.
ومما يؤكد هذا الاتجاه الاستئثارى بالسلطة أن مكتب إرشاد الجماعة حرص على الانتهاء بأسرع وقت من وضع الدستور، وأصدر الدكتور «مرسى» قراراً جمهورياً بالاستفتاء عليه ليلة تسلمه من رئيس الجمعية التأسيسية المعيبة في تشكيلها. بعبارة أخرى لو انتظر الشعب ثلاث سنوات أخرى لكان معنى ذلك انتخاب رئيس جمهورية إخوانى جديد يضمن استمرار حكم الإخوان إلى الأبد كما صرح بذلك أحد زعمائهم.
ولكن للموضوعية والإنصاف يمكن القول أن المستشار «مكى» ليس وحده الذى يأخذ من الديمقراطية موقفاً متناقضاً.
وذلك لأن المشكلة حقاً محيرة ومقتضاها كيف في شعب نسبة الأمية فيه 40% وعدد من يقعون تحت خط الفقر 26 مليون مواطن، ومن يقطنون في العشوائيات 16 مليون مواطن، كيف له أن يمارس الديموقراطية بصورة سليمة ويتغلب على هذه المعوقات الثقافية والاقتصادية؟
غير أن هذا الاتجاه ينكر في الواقع التاريخ الديمقراطى المصرى والذى تبلور في العصر الليبرالى ابتداء من دستور 1923 حتى ثورة 23 يوليو 1952، حين كان حزب «الوفد» هو حزب الأغلبية والتى كان يحصل عليها لأن إرادة الشعب الديمقراطية فرضتها على الحكم الملكى.
ولنا بالإضافة إلى ذلك- أن نتساءل هل خروج الشعب في ثورة 25 مطالباً بالحرية والعدالة الاجتماعية أليست ممارسة ديمقراطية رفيعة المستوى؟
ألم تؤكد هذه الحقيقة خروج الملايين في 30 يونيو لإسقاط حكم الإخوان المسلمين بعد أن انتخبتهم الغالبية ديموقراطياً، بعد أن أدركت خطورة هذا الحكم على كيان الدولة وتماسك المجتمع. غير أن هذا النقد الذى نوجهه إلى المستشار «مكى» لا يمنع من تحيته على موضوعيته حين قرر أن الإخوان المسلمين جاءوا بدون برنامج سياسى حقيقى، وأضاف إضافة مهمة تستحق التعليق عليها فيما بعد وهو أن «مشكلة مصر منذ ثورة 25 يناير أنه لا توجد خطط جامعة للشعب سواء من الثوار أو الأحزاب».