بقدر مايؤكد الجدل الذي اثير حول
مسلسل تلفزيوني رمضاني تناول أهم شخصيتين في ثورة 23 يوليو التي نحتفل اليوم بذكراها
ال62 على ان هذه الثورة مازالت حاضرة في الأذهان ومؤثرة في الثقافة المصرية
فان هذا الجدل يؤشر ايضا لأهمية الدراما التلفزيونية والحاجة لنقد تاريخي موضوعي.
فقد اثار مسلسل "صديق العمر" الذي ركز على العلاقة البالغة الخصوصية والأهمية بين
الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر تساؤلات بين العديد من المثقفين
المصريين حول العلاقة بين الدراما وكتابة التاريخ وانعكاس العمل الدرامي على الوعي
الجمعي.
ووصف السيناريست والكاتب مصطفى محرم بعض المناقشات والتعليقات واللغط حول مسلسل "صديق
العمر" "بالخروج عن المفاهيم النقدية السليمة", معتبرا ان بعض من انتقدوا هذا
العمل يفتقرون للفهم او المعرفة الحقيقية بأصول الفن وأصول علم التاريخ معا.
وحرص محرم على التمييز بين "العمل الفني" الخاضع للمقاييس الفنية " و"العمل التاريخي
الوثائقي" موضحا ان مسلسل "صديق العمر" هو عمل فني لا وثيقة تاريخية ..واضاف ان
"الحقيقة الفنية تختلف عن الحقيقة في الواقع.
غير أن محرم اقحم في هذا الجدل رأيه السياسي في الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بقوله
في جريدة الأهرام :"انا اعتقد ان جمال عبد الناصر كان يخطيء كثيرا ويصيب قليلا
وهذا من ابرز سمات الشخصية التراجيدية حيث ان المحصلة النهائية لم تكن في صالح
عبد الناصر ولكن للأسف كانت في مصلحة اعداء مصر".
وفيما كان مدير مكتب الرئيس جمال عبد الناصر الوزير السابق سامي شرف ضمن من انتقدوا
هذا المسلسل وعدد مآخذه عليه فان مصطفى محرم انبرى للهجوم عليه قائلا :"وقد شجع
هذا اللغو سكرتيرا كان يعمل مع عبد الناصر ان يدقق من ناحية قربه من الزعيم في بعض
تفاصيل حياته حتى كاد يصل به الأمر الى ماكان يأكله عبد الناصر وماكان يرتديه
من ثياب وماكان ينطق به في جلساته من اقوال بشكل يثير الضحك عند الذين يدركون الفرق
بين الفن والتاريخ".
وفي المقابل لفت الكاتب احمد الجمال لضرورة احترام القائمين على النص لوقائع التاريخ
المعروفة وماوصفه "بالظرف الموضوعي زمانا واطرافا" فيما سلم هذا الكاتب المعروف
باتجاهه الناصري "بأنه ليس لأحد الحق في ادعاء الامساك بأختام الوطنية ودمغات الموضوعية"
" وانما الأمر يتعلق بالمادة التاريخية بمصادرها ومراجعها والقدرة على
التعامل مع تلك المادة كما انه امر قدرة على التعامل مع هذه المادة وفق القواعد المنهجية
المستقرة في علم النقد التاريخي ناهيك عن قواعد وادوات علمية تعرفها اكاديميات
ومعاهد الفنون .
واذا كان ثمة ابداع لرائد يتمرد على تلك القواعد والأدوات ويأتي بجديد غير مسبوق -فان
ذلك كما يقول احمد الجمال وهو دارس للتاريخ- يأتي بعد احترام البديهيات في مجال
علم التاريخ وعلوم السيناريو والاخراج ومن ثم فان خرق هذه البديهيات او تجاوزها
يفصح عن "ان للعمل هدفا اخر غير اجلاء الحقيقة وتعظيم الموضوعية".
ولاحظ الجمال ان مسلسل صديق العمر "يأتي في توقيت مفصلي للانتقال في مصر والمنطقة
من حالة الى حالة جديدة تهدف العيش والحرية والعدالة الاجتماعية واستقلال الارادة
الوطنية" فيما ذهب الى ان المستهدف من المسلسل في ظنه هو "محاولة كسر الموجة العاتية
او التسونامي من الحنين غير المرضي لعبد الناصر الفكرة والمبدأ والأهداف".
ويأتي ذلك-حسب مايقوله احمد الجمال- بالتركيز زورا على سلبياته وخاصة تصويره بأنه
لايحسن تقدير الظروف ومن ثم ينفرد بالقرار ويخطيء فيه خطأ مدمرا" فيما انتقد ايضا
عدم التفات المسلسل لخلفيات وظروف الكثير من القرارات والمواقف.
وطال النقد ايضا مسلسل "سرايا عابدين" بسبب ماوصف بالأخطاء التاريخية الفادحة وذهب
الباحث والمؤرخ ماجد فرج الى ان هذا المسلسل "كله اكاذيب" نتيجة لما وصفه في مقابلة
تلفزيونية"بجهل المؤلفة بتاريخ مصر" .
وقال الدبلوماسي والبرلماني السابق الدكتور مصطفى الفقي"راق لي تعريف متميز لمفهوم
الثقافة حددها بأنها الوعي بالتاريخ" معتبرا ان المطلوب "تنقية التاريخ من شوائبه
سواء كانت اساطير او اكاذيب او اهواء شخصية".
ويحرض الفقي المفكرين والمثقفين والمؤرخين واساتذة علم السياسة "لكي نعيد قراءة
التاريخ المصري من جديد" لافتا الى ان "شعبية عبد الناصر الكاسحة تضعه في المقدمة
بين صفحات تاريخنا المعاصر" فيما رأى استاذ العلوم السياسية الدكتور محمد السيد
سليم ان "دور اهل الفن في الارتقاء بالذوق العام بل وبالاخلاق وبتاريخ وتراث مصر"
يدخل في "باب المسئولية الاجتماعية".
وتحدث سليم في هذا السياق عن "الاعتداء الفاضح على تاريخ مصر في الأعمال الفنية التي
تتناول موضوعات تاريخية بما يرسخ في اذهان الأجيال معلومات تاريخية غير صحيحة
ويشوه شخصيات اسهمت في بناء مصر".
وبدوره انتقد الشاعر والكاتب فاروق جويدة المسلسلين التاريخيين "صديق العمر" و"سرايا
عابدين" معتبرا ان مثل هذه الأعمال "قد شوهت التاريخ وافسدت ذاكرة الأجيال الجديدة"
فيما لاحظ ان اعمالا فنية راقية "ضاعت وسط هذا الركام".
وفي سياق انتقاده لأغلب مسلسلات رمضان هذا العام قال جويدة :"من يجلس امام الفضائيات
المصرية ويشاهد عشرات المسلسلات التي تقدمها لايمكن ان يتصور ان هذا الفن يقدمه
شعب ابهر العالم بثورتين" معددا مظاهر الانفلات الاخلاقي ومتسائلا :"هل هذا هو
الابداع الذي يدافع عنه البعض تحت شعارات الحرية وحقوق الانسان?".
وفيما ترددت دعوات لانتاج عمل درامي حول ثورة 30 يونيو 2013 تباشر لجنة تقصي الحقائق
حول هذه الثورة مهامها وبما قد يعيد للأذهان تلك اللجان التي شكلت من قبل لتقصي
الحقائق والتوثيق لثورة 23 يوليو 1952 فان هناك اتفاقا بين تيار واسع من المثقفين
على ان ثورة يونيو شأنها شأن ثورة يوليو لم تكن حدثا فجائيا مقطوع الصلة بثورات
سابقة او منفصل عن مجمل نضال الشعب المصري من اجل العدل والحرية.
وكانت لجنة تقصي الحقائق حول ثورة 30 يونيو قد استمعت الى شهادة الدكتور حازم الببلاوي
رئيس الوزراء السابق بشأن الأحداث التي شهدتها البلاد عقب هذه الثورة وقت توليه
رئاسة الحكومة كما استمعت اللجنة الى عدد من المنظمات الحقوقية ومالديها من معلومات
حول الأحداث.
واذا كان الدكتور محمد السيد سليم قد ذهب الى ان الفن المصري بلغ مرحلة "الجنوح الاجتماعي
الأخلاقي الشامل" كما يتجلى في المسلسلات التلفزيونية لشهر رمضان هذا العام
فقد رأت الفنانة آثار الحكيم ان "مايحدث في دراما رمضان كارثة" غير انها اشادت
بأداء الفنانة نيللي كريم في مسلسل "سجن النسا" فيما كان الكاتب والمحلل الدكتور
اسامة الغزالي حرب قد اعتبر مسلسل سرايا عابدين بمثابة "تقليد غير لطيف" للمسلسل
التركي "حريم السلطان" مضيغا ان هذا العمل "يسيء لتاريخ مصر".
وانتقدت كاتبة الأهرام الكبيرة سناء البيسي هذا المسلسل ايضا ضمن مسلسلات رمضانية
اثارت استياءها هذا العام وخاصة جراء حالة الانفلات الاخلاقي او ماوصفته "بالتسونامي
الاباحي" بينما تحتفظ الذاكرة الثقافية بالجدل الذي اثير حول مسألة الدراما التلفزيونية
التركية.
ورأى مثقفون وكتاب ان الاهتمام بالدراما التلفزيونية كان ضمن حسابات تركيا عندما
ارادت تعظيم نفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي في المنطقة العربية دون تناسي
ان الأعمال الدرامية كانت جزءا من القوة الناعمة المصرية وادوات التأثير الثقافي
في المنطقة الأمر الذي يتطلب الاهتمام بمستوى هذه الأعمال لاستعادة الرسالة الثقافية-الحضارية
لمصر.
وفي الوقت ذاته فان راهن اللحظة المصرية في صناعة الدراما تثير تساؤلات مثل :كيف عجزت
الثورة المصرية عن التأثير على الدراما?..ولماذا بقى المشهد السينمائى والتلفزيوني
الدرامي المصرى بعد ثورة 25 يناير دون تغيير.
ويوما ما قيل بحق في سياق مقاومة التطبيع ان مصر لايمكن ان تخشى من الثقافة الاسرائيلية
وان العكس هو الصحيح بحكم التفوق الحضاري-الثقافي المصري واصالته الضاربة في
جذور التاريخ ولاجدال ان الدراما المصورة المصرية كانت دوما صاحبة السبق في تلك
المنطقة .
ومن هنا يقول المطرب الجزائري الأصل والعالمي الشهرة "الشاب خالد" ان مصر هي المدرسة
الكبيرة التي يتعلم منها كل المطربين والفنانين العرب" منوها بأنه "تعلم الكثير
من الموسيقى المصرية خلال مسيرته الفنية".
ان النظرة العميقة للدراما التلفزيونية التركية- التي تراجع مدها الآن بصورة واضحة
في المنطقة العربية- تكشف عن تأثر واضح بمسألة الشكل كما يتبدى في رموز تلك الدراما
:"مهند وفاطمة" ومسلسلات مثل "حريم السلطان" و"زينب" غير ان تلك النظرة تكشف
ايضا عن سبق مصري في هذا الاتجاه مع السنوات الأولى للسينما المصرية التي يزيد
عمرها عن ال199 عام فهو اسلوب تبناه شيخ المخرجين المصريين محمد كريم.
ومحمد كريم هو اول من اشتغل بالاخراج السينمائي من المصريين وعرف بالعناية الفائقة
"بالمنظر ولوازمه ومحتوياته " وكان يقدم الطبيعة في اجمل صورها وهو مايتجلى في افلام
مثل "زينب" و"الوردة البيضاء" ةدارت اغلب افلامه حول مواضيع عاطفية وغنائية.
والسينما المصرية كان لها فضل السبق في ادخال "الواقعية" في الفن السابع بالمنطقة
كلها بابداعات المخرج كمال سليم منذ عام 1939 وظهور فيلم "العزيمة" ليدشن مدرسة الواقعية
في مواجهة الرومانسية المغرقة لشيخ المخرجين المصريين محمد كريم.
اما كمال سليم بواقعيته فهو يعالج مشاكل اجتماعية من صميم الواقع المصري عن طريق تقيم
"شخصيات مصرية نعرفها تماما لأنها تعيش معنا ونلتقي بها كل يوم في حياتنا اليومية"
وفي عام 1965 اختار الناقد والمؤرخ السينمائي الفرنسي جورج سادول في كتابه
"قاموس الأفلام" فيلم العزيمة لكمال سليم كواحد من الأفلام العالمية في تاريخ السينما.
بل ان سادول اعتبر هذا الفيلم المصري الذي ظهر عام 1939 "يفوق الأفلام الفرنسية والايطالية
التي ظهرت في الفترة ذاتها" فيما جاء صلاح ابو سيف ليمسك كمخرج مصري كبير
بخيط الواقعية من جديد ولتعبر افلامه مثل "الأسطى حسن" وريا وسكينة" و"الفتوة"
عن اللحظة التاريخية المصرية.
وتبلور هذا الاتجاه بمزيد من الوضوح في "القاهرة 30" و"بين السماء والأرض" و"بداية
ونهاية" و"القضية 68" وكان هذا الفيلم الذي دشن ماعرف "بالواقعية النقدية" يتحدث
وقتها عن ضرورة الثورة بعد ان تهدم كل ماعداها "فالثورة ضرورة من اجل النمو والتقدم".
وهناك كمال الشيخ صاحب اسلوب الاثارة والتشويق فيما لاحاجة للافاضة في انجازات يوسف
شاهين للفن السابع المصري والعالمي وحرفية المخرج نيازي مصطفى وتمكنه من ادواته
في افلام المغامرات والصراعات وتميز افلام المخرج فطين عبد الوهاب المفعمة بروح
الضحك والمرح و"استاذية" حسن الامام في افلام الميلودراما.
وسيبقى اسم المخرج توفيق صالح طويلا في ذاكرة السينما فيما عرف بأسلوب الواقعية الجديدة
المتأثر بالمدرسة الايطالية مع ابداع مصري خالص واصيل كما تبدى في "صراع الأبطال"
و"درب المهابيل" واستحق هذا المخرج الذي قضي مؤخرا اعجاب وتقدير كل عشاق السينما
لابداعاته الرفيعة المستوى والتي دخلت على الرغم من قلة عددها في قائمة افضل
100 فيلم مصري.
لكن المصارحة تقتضي التسليم بأن ثمة ازمة في الدراما المصرية في راهن اللحظة طالت
المسلسلات التلفزيونية كما تبدى في شهر رمضان الحالي وتثير قلق العديد من المثقفين
المصريين كما ان دواعي الانصاف تقتضي القول بأن الدراما التلفزيونية المصرية
واجهت مشاكل حجم الانفاق الذي تراجع امام الظروف الاقتصادية الصعبة.
واذا كانت هذه الدراما هي التي شكلت الوجدان المصري والعربي لسنوات طويلة فمن المفيد
الآن استعادة ماقاله المؤرخ الأمريكي هوارد زن في كتابه "قصص لاتحكيها هوليوود
ابدا" ان مهمة المبدع سواء كان يكتب او يخرج او ينتج او يمثل في افلام او يعزف
موسيقى ليست فحسب الهام الناس وتقديم السعادة لهم وانما تعليم الجيل الصاعد اهمية
تغيير العالم.
واذا كان المخرج الايطالي "انطونيني" هو صاحب مقولة ان "اكثر مايثير انتبهي في هذا
العالم هو الانسان وتلك هي المغامرة الوحيدة لكل منا في الحياة" فللدراما المصرية
ان تركز على هذا الانسان وان تتطور اكثر خاصة وان الجماهير المصرية والعربية تؤازرها
.
في تلك اللحظات لابد من وضوح الرؤية لتبقى مصر دوما منارة للابداع والجمال..الوطن
الذي شهد ثورتين عظيمتين في ثلاث سنوات يتطلب دراما تعبر عن اللحظة المصرية..عن الانسان
المصري الذي يسير في الدرب ليقدم للدنيا امثولة مصرية لاتموت.