القاهرة 23 يوليو 2014 الساعة 03:48 م
• محاكاة أشهر جرائم القتل التي تورط فيها رجال المال والسياسة تفضح زواج المال والسلطة في عصر «مبارك» !
تُصفد الشياطين في شهر رمضان المبارك،اتباعاً لحديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :«إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ»،لكن إراحة الخلق من شرِّ شياطين الجن لم يحل دون تسلل «شياطين الدراما» إلى الشاشة الرمضانية،وبعد أن عاثوا في الأرض فساداً،وأسرفوا على أنفسهم بالذنوب،وظلموا عباد الله من الفقراء والبسطاء،واصلوا غيهم على الشاشة،بعد ما جعل منهم كتاب الدراما،أبطالاً، وضحايا،بينما هم في حقيقة الأمر أشرار ومرضى ليس أكثر !
المفارقة المثيرة للدهشة والاستغراب معاً أن كتاب الدراما يعلمون علم اليقين أنهم استقوا أعمالهم من الواقع،مثلما استمدوا أفكارهم من وقائع شاعت واحتلت أوراق قضايا يعرفها القاصي والداني،كونها محل نزاع في المحاكم،ومثار جدل في الصحف والمجلات،وعلى الرغم من هذا لا يتورعون عن إنكار أي صلة لهم،ولأعمالهم،بهذه القضايا الشهيرة،كما فعلت أسرة مسلسل «المرافعة» تأليف تامر عبد المنعم وإخراج عمر الشيخ عندما سارعت بوضع تنويه،في مقدمة العمل،يفيد بأن «جميع أحداث وشخصيات المسلسل من وحي خيال المؤلف،وأي تشابه بينها وبين الواقع هو من قبيل الصدفة ليس أكثر»،في حين يعلم تامر عبد المنعم أنه عندما رسم شخصية «جمال أبو الوفا»،الذي جسد دوره الممثل السوري باسم ياخور،فقد كان يستدعي شخصية هشام طلعت مصطفى رجل الأعمال الشهير،وعضو لجنة السياسات في الحزب الوطني الديمقراطي،ووكيل اللجنة الاقتصادية في مجلس الشورى،الذي أتهم بالتورط في مقتل المغنية اللبنانية سوزان تميم في دبي بتاريخ 28 يوليو عام 2008؛خصوصاً أن فريد الديب،الذي تولى الدفاع عن هشام طلعت مصطفى،هو والد زوجة تامر عبد المنعم،أي أنه قادر على وضع كل المعلومات بين يدي زوج ابنته !
طبق الأصل
في رأيي أن «تامر» ورفاقه في «المرافعة» لجئوا إلى النفي رغبة في تجنب الدعاوى القضائية؛التي بدأها عبد الستار تميم والد المغنية القتيلة،لكن أحد لم يبرر التطابق الحرفي بين أحداث المسلسل ووقائع الجريمة الشهيرة؛فإضافة إلى الذبح،الذي اختار المؤلف،من قبيل التمويه،أن يجري في لندن وليس دبي،فإن شخصية المغنية «نوران شويري»،التي أدت دورها المطربة اللبنانية دوللي شاهين،تنطق بأنها «سوزان تميم»،بينما يصرخ «أشرف توفيق»،الذي يؤدي دوره تامر عبد المنعم،بأنه «محسن السكري»،الذي اعترف في التحقيقات بأنه تقاضى مبلغاً كبيراً من هشام طلعت مصطفى ليقوم بقتل سوزان تميم؛فالمسلسل يُشير إلى أن «أشرف» ضابط سابق تم عزله من موقعه بجهاز سيادي،في حين تُشير الوثائق إلى أن «السكري» هو نجل لواء شرطة سابق،تخرج من كلية الشرطة ليعمل ضابطاً بأمن الدولة قبل أن يقدم استقالته،ويعمل لحساب هشام طلعت مصطفى،وسرعان ما أصبح كاتم أسراره،وهو ما رأيناه بالضبط ضمن أحداث «المرافعة»،الذي لم يكتف بهذا،وإنما ألقى الضوء على شخصية عادل معتوق زوج «سوزان»،وجسدها في العمل الممثل جرير منصور،كما تعرض للعلاقة الوثيقة التي ربطت بين «جمال أبو الوفا» والحزب الوطني الديمقراطي؛حيث كشفت مشاهد كثيرة بالعمل عن شكل المصالح التي كانت تجمع بينه وقيادات الحزب؛خصوصاً صفوت الشريف،الذي جسد شخصيته الممثل مجدي عبد الوهاب،وأحمد عز،الذي جسد شخصيته الممثل محمد مرزبان .
الطريف أن مسلسل «المرافعة» ليس الأول الذي يتناول قضية مقتل سوزان تميم؛إذ سبق إنتاج مسلسل بعنوان «ليالي» عُرض في رمضان 2009،وجسدت فيه «زينة» شخصية «سوزان تميم» بينما أدى عزت أبو عوف دور هشام طلعت مصطفى،وكالعادة نفى أيمن سلامة كاتب المسلسل وجود أي تشابه بين العمل وقصة سوزان تميم فيما هدد عبد الستار تميم والد المغنية القتيلة برفع دعوى قضائية ضد صناع المسلسل لتناولهم حياة ابنته من دون الرجوع إليه،وهي نفس التهديدات التي أطلقها عقب عرض «المرافعة»؛حيث هدد باللجوء إلى القضاء لوقف المسلسل.
بعيداً عن تهديد عبد الستار تميم يثير ما جرى في مسلسل «المرافعة» تساؤلات عدة حول مشروعية قيام تامر عبد المنعم بالتعرض لقضية حسمها القضاء بعد تأييد محكمة النقض حكم محكمة جنايات القاهرة بالتجمع الخامس،برئاسة المستشار عادل عبد السلام جمعة،بسجن رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى 15 عاماً،وضابط أمن الدولة السابق محسن السكرى 25 عاماً،بالإضافة إلى 3 سنوات للسكرى عن تهمة حيازة سلاح بدون ترخيص؛حيث بدا العمل وكأنه يؤلب الرأي العام ضد الحكم أو ينبش في أوراق القضية من جديد للإيحاء بأن «هشام» و«السكري» تعرضا للظلم،وأنهما راحا ضحية تصفية حسابات بين الكبار !
نجل المسئول الكبير
جريمة أخرى تداولها القضاء،وقال كلمته فيها،تحولت وقائعها إلى محور لأحداث مسلسل «ابن حلال»،الذي كتبه حسان دهشان وأخرجه إبراهيم فخر؛حيث العامل البسيط «حبيشة» ـ محمد رمضان ـ الذي تم القبض عليه لاتهامه بقتل «يُسر» ـ سارة سلامة ـ ابنة الفنانة المعروفة ـ وفاء عامر ـ وتعمدت الأجهزة الأمنية التعتيم على القاتل الحقيقي كونه نجل مسئول كبير في الدولة،وبعد عرض الحلقات الأولى للمسلسل ربط الجمهور بينه والجريمة الشهيرة التي حدثت عام 2008،وأتهم فيها محمود سيد عبد الحفيظ عيساوي الشهير ب «محمود العيساوي» بقتل هبة العقاد ابنة المطربة المغربية ليلى غفران،وصديقتها نادين جمال،والمعروفة إعلاميًا باسم قضية «هبة ونادين».ومرة أخرى نفى أصحاب المسلسل وجود أية صلة بين أحداث العمل والقضية التي شغلت الرأي العام،إلا أن الصورة دحضت كل ما قالوه؛فما شاهدناه على الشاشة محاكاة بصرية دقيقة لما جرى على أرض الواقع؛سواء من حيث المرحلة العمرية الواحدة ل «حبيشة» و«العيساوي»،وطبيعة العمل المتشابهة؛فالأول «نقاش» والثاني «نجار مسلح»،بالإضافة إلى وقوع الجريمتين في مدينة السادس من أكتوبر،فضلاً عن كون القتيلة «يُسر» ابنة لفنانة مثلما كانت «هبة» ابنة لمطربة،وإذا كانت «هبة» قتلت مع صديقتها «نادين»،فإن الهروب من الملاحقة القضائية اضطر مؤلف العمل إلى إدخال تغيير طفيف أدى إلى نجاة الصديقة «عزيزة» ـ ميرهان حسين ـ من الموت،بينما وصل عدد الطعنات التي تلقتها «يُسر» إلى 22 طعنة،وقالت ليلى غفران،في معرض نفيها وجود أية علاقة بين المسلسل وما حدث لابنتها،إن ابنتها تعرضت لسبع طعنات فقط !
المفاجأة أن المؤلف حسان دهشان انحاز في «ابن حلال» إلى الرواية الشهيرة،التي روجت لها الصحف،واتهمت نجل مسئول كبير بالتورط في قتل «هبة» وصديقتها «نادين»؛حيث بدا غير مقتنع بأن «حبيشة» هو القاتل،وقدم مشهداً صريحاً أظهر فيه الشاب «نائل» ـ أحمد حاتم ـ نجل «ثروت» ـ أحمد فؤاد سليم ـ صاحب الهيمنة والنفوذ،وهو يطعن «يُسر» ويلاحق «عزيزة» لكنه يفشل في قتلها،وبعدها يقوم والده المسئول الكبير بتهريبه إلى الخارج،وينجح مساعده ويده اليمنى «مسعد» ـ محسن منصور ـ في إجبار الأجهزة الأمنية على تلفيق التهمة للشاب «حبيشة»؛حيث يتعرض للضرب والتعذيب من أجل انتزاع اعترافه بارتكاب الجريمة،وهو نفس المصير الذي واجهه «العيساوي»؛حسب شهادة محاميه سيد فكري،فضلاً عن توجيه تهمة القتل المقترن بالسرقة ضد «العيساوي» على أرض الواقع،وضد «حبيشة» على الشاشة !
أكبر الظن أن المؤلف حسان دهشان سيواجه أزمة كبيرة مع نهاية حلقات مسلسل «ابن حلال»؛إذ سيصبح مطالباً بإعادة النظر في حكم الإعدام الذي صدر ضد «العيساوي»،وتم تنفيذه بالفعل يوم الخميس الموافق 19 يونيو الماضي؛فالشركة المنتجة سترى أن الحكم بإعدام «حبيشة» سيتسبب في صدمة للجمهور،بالإضافة إلى أن العادة جرت على ألا يموت «البطل» في أعمالنا الدرامية،وربما يرى البعض في الهروب من تنفيذ حكم الإعدام طوق النجاة من اتهام المسلسل بالسطو على قضية المطربة وابنتها !
زواج المال والسلطة
هنا أيضاً،ومثلما فعل مسلسل «المرافعة» يستدعي مسلسل «ابن حلال» شيطاناً جديداً من «شياطين الواقع» متمثل في المسئول الكبير «ثروت»،الذي لا يعيث في الأرض فساداً فحسب،وإنما يبطش بخصومه،وينكل بمعارضيه،ويؤمن مصالحه الخاصة،ويحمي أفراد عائلته المُدللين؛فهو «الشيطان الأكبر» الذي يوحي العمل بأنه «مركز قوي» مرهوب الجانب،وكأننا بصدد عودة لظاهرة «مراكز القوى» الذين انقلب عليهم «السادات» . وإذا كان التجاوب كبيراً مع «ابن حلال» فإن السبب يعود إلى النص الذي كتبه «دهشان» بحس جماهيري واضح،والأسلوب الواقعي للمخرج إبراهيم فخر،وبراعة محمد رمضان، الذي اقترب من التتويج كبطل شعبي بمعنى الكلمة .
مابين «المرافعة» و«ابن حلال» وشائج قربى وتناغم كونهما فضحا جرائم ارتكبت في حق مواطنين أبرياء،بواسطة مشاهير من رجال الأعمال والمال والسياسة اقترفوا الإثم بدم بارد،اعتماداً على أنهم نافدين،وأصحاب سلطة،واللافت للنظر في هذه القراءة أن جريمتي مقتل ابنة ليلى غفران وصديقتها،بتحريض من نجل سياسي كبير،وكذلك مقتل المغنية اللبنانية سوزان تميم، بتحريض من رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى،وقعتا في عهد «مبارك»،الذي بارك زواج المال والسلطة،وهو ما عجل بانهيار حكمه،وانقلاب الشعب ضده،بعد أن عم التواطؤ بكل أشكاله،وجرى تلفيق القضايا على نطاق واسع،وساد الفساد في ظاهرة غير مسبوقة حاول مسلسل «السيدة الأولى» تأليف عمرو الشامي وياسر عبد المجيد وإخراج محمد بكير الاقتراب منها لكن العمل تاه بسبب الخوف من الملاحقة،والحرص على تجنب رفع دعاوى قضائية ضده،ومن ثم جرى التعتيم على الحقبة الزمنية التي يتناولها المسلسل،وحدث خلط متعمد بين شخصيتي جيهان السادات وسوزان مبارك،وهيمنت غادة عبد الرازق على المسلسل من خلال شخصية «مريم»،وكأن العمل تم تفصيله خصيصاً من أجلها؛إذ لم تتحكم في مقاليد الحكم،والسيطرة على قصر الرئاسة فحسب،وإنما بسطت سيطرتها على العمل بأكمله،بعد أن أصيبت بداء النجومية،ولا تكاد تختفي في لقطة حتى تعوضها بعشرة مشاهد،وبدا مسلسل «السيدة الأولى» وكأنه عمل درامي ملاكي أكثر من كونه وثيقة درامية ترصد ظاهرة «زوجة الرئيس» التي تستغل مرض زوجها أو ضعف شخصيته لتتولى،من وراء ستار،تسيير أمور الحكم،وتهيمين على مؤسسات الدولة،وتفرض سطوتها،وهي المنطقة الجديدة التي لم تقترب منها الدراما العربية من قبل لكن غادة عبد الرازق أفسدت جدة وطزاجة الموضوع بأداء متعالي،مثلما ضيعت فرصة محاكاة ما كان يجري إبان عهد «مبارك»،و«السادات» من قبله،وإلقاء الضوء على محاولات زوجة الأول والثاني لاعتلاء سدة الحكم،وتجنيد حفنة من رجال الحكم ليعملوا لحسابها، ويكونوا أقرب إلى البطانة والحاشية التي تأتمر بأوامرها،وتنفذ قراراتها وتعليماتها،بأكثر مما تخضع للرئيس نفسه،وهو الوضع السياسي الخاطئ الذي عايشناه منذ انتهاء الحقبة الناصرية،وكان سبباً في تذمر طبقات وشرائح وقطاعات عديدة في المجتمع، كما كان سبباً في التسريع بالتغيير أملاً في إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح .