القاهرة 22 يوليو 2014 الساعة 12:27 م
"في العش الهادئ بين أغصان شجر البلوط الضخمة
الحبيبة الأنثى والحبيب الذكر، يجمع بينهما الحب.
ما الذي يشغلك أيها الحبيب؟
سوف لن تتركني وترحل؟
ثقيل الوطأة على قلب المحب
هو الفراق والمجهول والأخطار
هناك في البلد الغريب.
لا تبكي، سأعود ومعي حكايا مسلية وقصص كثيرة
سأقصها عليك، وستضحكين لها كثيرًا.
الجناح كسير، والرأس إلى أسفل
يعود المهاجر من أقصر طريق إلى الوطن والحبيبة
وإلى شجرة البلوط يلعن حماقته.
أية إحباطات وآلام تحجب عنا الفرح والمسرات؟"
"لافونتين"
على مسرح دار الأوبرا الوطنية في كوفنت جاردن بلندن، قدمت فرقة "سادلرز ويلز" للباليه عرض "زوج الحمام" للموسيقي الفرنسي "أندريه ميساجيه" (1853م – 1929م)، ولمصمم الرقصات الإنجليزي "فريدريك آشتون". قدم عرض باليه "زوج الحمام" لأول مرة على مسرح أوبرا باريس في 18 أكتوبر 1886م، وكتب له السيناريو "هنري وجنيه"، وصمم رقصاته "لوي ميرانت". وأول عرض لهذا الباليه في كوفنت جاردن بلندن قدمته فرقة الباليه الملكية "ذي رويال باليه" عام 1961م.
ترتفع الستائر الحمراء القرمزية لمسرح دار الأوبرا الملكية عن رسام شاب يقف متأملاً أمام لوحة رسم. الفرشاة في اليد والألوان إلى جانب الحامل الخشبي. الرسام يلقي بنظراته إلى وجه الحبيبة "الموديل" الجالسة أمامه. تشكل فرشاته الخط المستقيم والمنحني والمنكسر ومساحات الظل والنور. الموديل في مقعدها تتململولا تقوى على المكوث في ثبات وسكون.. يثور الرسام ويقذف بالفرشاة بعيدًا.
القلق والملل وعدم الرضا، وتوقف الحركة ورخاوة الزمن ورداءته، والنباتات المتسلقة تسد النوافذ والنور يختنق والظل يتسيد المكان... تزداد جهامة الصورة أمام عين الفنان. يتوقف الفنان عن تعاطي الفن الجميل تاركًا الساحة للأدعياء. سوق الحب يمتلئ بالتجار والرقيق ويعلو النشاز على كل النغمات الطيبة وعلى صدق الكلام.
في رحلة البحث عن الهواء النقي والنبض المتدفق والدم الحار، وعن اقتناص الحركة المتفاعلة المتوترة واللحظة المتوهجة ليضعهما بفرشاته على سطح اللوحة العبقرية المرتقبة، يفكر الفنان في الرحيل والهجرة.
إلى النافذة يشخص الفنان ببصره إلى البعيد. الحبيبة تلفت نظره إلى الحمام في البرج القريب من المرسم. تومئ له أن أزواج الحمام سعيدة بالحب الذي يربط بين كل زوج منها. الحبيبان يتمثلان الحمام.. يقلدان سلوكه في الغزل.. يهزان أكتافهما وذراعيهما.. يضربان بأقدامهما ضربات خفيفة ناعمة في الهواء في انسجام مع موسيقى "ميساجيه" الناعمة المرحة الشجية.
إلى النافذة المغطاة بالنباتات المتسلقة ينظر الرسام إلى البعيد نظرات حالمة.. تفشل الفتيات صديقات الحبيبة في رقصتهن المرحة في إخراج الحبيب من مشاعر اليأس والإحباط التي يتردى فيها.
فجأة تنبعث من الموسيقى نغمات قوية حية وثابة.. الغجر قادمون.. رقصاتهم مفعمة بالحرارة والعفوية والتلقائية وحركاتهم طليقة نشطة.. نفوسهم مجبولة على الفطرة يعيشون في قلب اللحظة الحاضرة.. يعتصرونها ويرتشفونها إلى آخر قطرة.
الفتاة الغجرية ترقصوتقفز في الهواء.. خطواتها ووقع أقدامها بركان ثائر.. الذراعان والكتفان وارتعاشات الصدر النافر ونداءات الشفاه وكلام العين والحاجب وإيماءات الرمش الكاحل، تبعث الحياة وتشعل جذوة الفن في روح الرسام الشاعر.. تتفتح للفتاة الغجرية براعم متوحشة كامنة في نفس الرسام الشاعر.. انه العشق لحياة البرية والتوق إلى ما في الطبيعة من حس صادق وفطري ووحشي.
الحبيبة الجميلة الرقيقة تبكيوتتوسل بدموعها.. لكن الحب الكبير الذي جمعهما وحده ليس بقادر على أن يمنع الحبيب من الرحيل إلى عالم أكثر حرارة وتلقائية.
في المشهد الأول من الفصل الثاني، خيام الغجر منصوبة في حضن الطبيعة البكر. يرقص المهاجر مع الفتاة الغجرية التي تدنيه منها حينًا وتصده وتبعده حينًا آخر. زعيم الغجر لا يقبل بوجود الغريب بينهم. والعاصفة على الأبواب يظلم الجو وتتساقط الأمطار وينسحب الغجر داخل خيامهم.. ولا يجد المهاجر المأوى والملجأ بعد أن خسر كل ما يملك في لعب الورق أمام الغجر.
يعود بنا المشهد الثاني من الفصل الثاني إلى المرسم.. الحبيبة متألمة مستوحشة حزينة.. ترنو ببصرها إلى البعيد.. إلى الأرض التي تحمل حبيبها المهاجر.. تنتظر عودته إلى العش.. تصيخ السمع إلى وقع قدمي الحبيب العائد على درجات السلم.
بعد رحلة البحث والاكتشاف يعود الفنان إلى الوطن والحبيبة.. يعي التناقضات التي كادت أن تودي به، ويدرك سبب الخراب الظاهر في صوره ورسوماته القديمة التي تومئ إلى الأصل المنهار الضارب فيه السوس والعفن.. إنها العودة الفتية الشابة إذن في خطوات واثقة ثابتة والرأس إلى أعلى.
الحركة على المسرح قوية في حنان.. والنغمة الأساسية الصادرة من الأوركسترا فرحة تتناثر من حولها تنويعات لحنية حزينة خافتة.. والموسيقى ترتفع نغماتها العذبة مشيعة في أجواء المكان عبق الحب وعطره الناجي.. تقترب دائرتا الضوء في تلاق فريد أخاذ.. الاثنان في واحد.. الموسيقى اللغة العذبة تحكي وتحاور وتعلق.. زوج الحمام في دعة وألفة يقتربان من بعضهما.. يعود الدفء إلى العش المهجور.
يعتبر باليه "زوج الحمام" من أكثر الباليهات سحرًا وعذوبة واقترابًا من عالم الشعر وأقربها إلى قلوب محبي فن الباليه، كما يعد من أهم أعمال مصمم الرقصات الإنجليزي "فريدريك آشتون" ذات الطابع الشعري. عبرت الرقصات كما أراد لها "آشتون" عن الطموحات والأحلام والإحباطات التي تمور في نفوس الشباب الصغير دون إغراق في العاطفية، وأفصحت كذلك عن مشاعر المحبين في رقة وشفافية وسمو.
في تدرج محبب وفي إتقان تام كشفت راقصة الباليه "ماريوت تيت" عن دخائل وخلجات نفس الحبيبة المرحة ذات الابتسامة الكبيرة التي تناضل لاسترجاع حبيبها. وأجاد "كارل مايرز" في رسم دور الشاب الصغير الباحث عن حب أكثر توقدًا وعن الحياة في بدائيتها وبراءتها الأولى، والذي يعود إلى حبه الأول أكثر فهمًا وإدراكًا لصدقه وحقيقيته وديمومته، كما نجحت رقصاته الفردية في الكشف عن حالة الصراع داخل نفسه وعن الغنائية الشعرية المحلقة التي تدخل في نسيج العرض.
جسدت "مارجريت باربيري" برقصاتها المتوهجة وتعبيرات وجهها ونظرات عينيها وبالملابس المبهرة الموشاة حياة الغجر بكل عنفوانها وبهجتها وعاداتهم وطبائعهم، التي لم تهذبها قيود أو أعراف أو قوانين المدن الزائفة، واستطاعت أن تحفظ للخيط الدرامي توتره وتصعيده، كما أثرت العرض وساهمت في النجاح الكبير الذي حققه تصميمات الملابس والمناظر لـ"جاكوز دوبونت".
مشهد رقصة الختام الثنائية والحبيبان يلتقيان بعد فراق من أجمل مشاهد الباليه وأكثرها توهجًا وتألقًا وغنائية.. الحبيبان يعيشان فرحة اللقاء.. تترجم الموسيقى كلام الحب.. وفي فضاء خشبة المسرح تحلق الحمامة الأنثى وتحط على المقعد.. من الناحية الأخرى يأتي ذكر الحمام محلقًا ليحط إلى جانب أنثاه الحبيبة.
تقول مصممة الرقصات "دوريس همفري": "ليس هناك ما يكشف عن داخل الإنسان بوضوح أكثر من الحركة والإيماءة، فمن الممكن للمرء أن يختفي أو يرائي خلف الكلمات، لكن اللحظة التي يتحرك فيها ينكشف أمر المرء وتبدو حقيقته خبيثة كانت أم نبيلة".
باليه "زوج الحمام" مستوحى من قصيدة شعرية للشاعر الفرنسي "لافونتين".