القاهرة 19 يوليو 2014 الساعة 05:19 م
ندخل مباشرة في دوامة الجدل العقيم الذي لا أساس له مطلقا، حول ما يقال عن محاولات جر مصر إلى الحرب !! من طلب من مصر أن تحارب، أو جرها إلى حرب نيابة عنه ؟! لا أحد بالطبع .. لماذا إذن نتاجر بهذه الكلمات؟ ومن الذي أوحى إلينا بهذه المزاعم حتى نخوض في حديث آخر بعيدا عن الدماء الجارية وجثامين الأطفال والنساء في غزة ( يمثلون 65 % من ضحايا قصف وعدوان المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على غزة ) .
ثم إنشغلنا بضيق الأفق، ليقول بعض خبرائنا، إن حركة حماس إندفعت بتصرفات "عنترية" لتستفز إسرائيل، وبدوافع حسابات خاصة، ورؤية أيديولوجية " مذهبية"، ومصالح ضيقة، وإرتباطات إقليمية مشبوهة ! وكأن إسرائيل مؤسسة عسكرية مستأنسة ونحن الذين نستفزها ! وحتى لو كان ما يقولون به عن " حماس" صحيحا، وهو في جانب منه، وفيما أتصور صحيحا، ولكن غزة ليست حماس، والشعب الفلسطيني في غزة ليسوا إخوانا مسلمين، وقضية شعب عربي محاصر ومستهدف بالدم والنار، أكبر وأخطر بالضرورة من قضية فصيل واحد، له ما له، وعليه ما عليه !!
• من إذن طلب أو حاول أن يجرنا إلى حرب؟! حتى الأخوة في بقايا فلسطين المحتلة "الضفة وغزة" لم يطلبوا حربا، وكل ما يطلبونه صراحة هو مساندتهم إنسانيا للبقاء والصمود والمقاومة .. والمعروف أن الطرف الذي لا يمسك بالأرض، عليه في مواجهة الطرف الذي يقبض على الأرض، أن يعزز موقفه بسند عربي على الأقل، ولكن لم يلتفت أحد من الفلسطينيين إلى حقيقة أن المقاومة أصبحت "فعلا" مذموما في الخطاب السياسي العربي، وأن هذا الفعل
"المرفوض" قد يجر الآخرين رغما عنهم إلى الحرب ؟!
• وهل مطالبة الشارع العربي بفتح معبر رفح هو دعوة للحرب أو جرنا للحرب ؟! ورغم أن فقهاء القانون الدولي يؤكدون بأن هنالك التزام قانوني على مصر بفتح المعبر وفقا لإتفاقية جنيف الرابعة لحقوق الإنسان التي تفرض على الدول المجاورة للدول التي تندلع فيها حالة حرب بأن تخفف أثار هذه الحرب، كما أن مصر تستطيع أن تفتح معبر رفح، وتتغاضى عن إتفاقية المعابر لعام 2005، خاصة أن مصر لم تكن طرفا فيها ولم توقع عليها، وهناك أكثر من مبرر سياسي يدعو مصر إلى فتح المعبر، على رأسها أننا نتعامل مع مؤسسة إحتلال تضرب بكل القوانين عرض الحائط، وكل هذه الأمور تجعل الوضع السياسي والقانوني في صالح فتح المعبر وليس إغلاقه ؟!
• وهل المطالب الشعبية بتجميد العلاقات الدبلوماسية، على الأقل ليس قطعها، وسحب السفراء، إعلان حرب أو جرنا للحرب؟ وفي العرف السياسي والدبلوماسي، فإن تجميد العلاقات أو تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي، هو مجرد إعلان احتجاج، أو رادع سياسي، ودون حرب سابقة أو لاحقة !! أما القول بأن وجود القنوات مفتوحة مع إسرائيل أمر مهم للإتصالات والمشاورات لصالح الفلسطنيين وقضيتهم، فهو قول مردود عليه إسرائيليا، والشوهد السابقة خير دليل !
وكل ما سبق كان محور الجدل العقيم الدئر حاليا، وقد اتسع نطاقه لنشهد ملاسنات واتهامات عربية ـ عربية، ولا مجال هنا للتعقيب عليها، ولكن ما نود الإشارة إليه وبشعور عميق بالمرارة والدهشة والذهول، أن البعض داخل الساحة العربية لم يتصور أن تصل أحوالنا العربية إلى هذه الدرجة، وأن يصدر ـ مثلا ـ عن الإجتماع الطارىء لوزراء الخارجية العرب، الإثنين الماضي، قرارا بترحيل الموقف العربي من مذبحة غزة، إلى مجلس الأمن الدولي، وبعدها يفعل الله ما يشاء !! وصحيح أن وزراء الخارجية مجرد موظفين في الإدارة العليا السيادية للأنظمة الحاكمة، وينطقون بما يملي عليهم من تعليمات وتوجيهات، ولكنهم يعلمون تماما ـ مثل رجل الشارع البسيط ـ أن كل ما صدر عن مجلس الأمن منذ عام 1948 لم ينفذ، وأن ممارسات إسرائيل ودائما فوق القانون والشرعية الدولية، وأن هناك " فيتو أمريكي " يتربص بأي مشروع قرار يحمل ولو مجرد إشارة بإدانة إسرائيل !!
وقد أثبت الوزراء العرب، أننا في حالة أسوأ من حالة " الغياب " غير قادرين على صنع قرار، لا أحد في العالم العربي قادرا، ولا أحد لديه القدرة، وأصبح الهدف الابتعاد فقط، وفي لحظة هروب في التاريخ العربي، وكأن الكل يحاول النفاذ من أية ثغرة مفتوحة، ولذلك كان القرار بالهروب إلى قاعة مجلس الأمن الدولي، لعل وعسى أن يجدوا مخرجا !!
وهكذا .. نحن أمام منطق مختلف تماما، يحاولون تسويقه بإدعاء الحكمة، وهو إدعاء تضيق به الصدور، وهو أيضا إدعاء يحجب الرؤية عن التساؤل الحائر : لماذا بدا العالم العربي كله عاجزا حتى الآن، وفاقدا لقدرته على المنطق، فضلا عن قدرته على الحركة والفعل، إزاء عدوان فادح وخطير، والمقاتلات الإسرائيلية تدك البيوت دكا فوق أجساد الرضع والأطفال والنساء، والقصف المجنون يحصد أرواح المحاصرين في قطاع غزة؟! هل السبب نقص في الموارد العربية ؟ ليس صحيحا .. والقصور ليس في الموارد، وإنما القصور في أدائها، وقصور وعجز عن تحديد استراتيجية عربية واضحة للمرحلة ! ألم يكن بالإمكان ـ وهو أضعف الإيمان ـ أن تنعقد قمة عربية عاجلة يصدر عنها بالإجماع قرارا واحدا (ليس التهديد بالطبع بالمواجهة ) ولكن فقط التهديد بتجميد العلاقات، وإعادة النظر في مسرحية مشروع السلام، حتى يتم وقف مجزرة غزة .. أليس هذا ممكنا ومتاحا ؟!
أتصور أن المشكلة ليست فقط مرتبطة بنظام عربي ضاع منه هدفه الرئيسي، واختلت موازينه الداخلية، وإنقلب على نفسه، ولكن المصيبة الأكبر أن إسرائيل تدرك أن الحركة العربية في مجملها مقيدة، وهي ترى أن هناك أنظمة عربية قيدتها أحكام الصداقة والتبعية للدولة الأعظم، وتنتظر منها الكلمة والإشارة وبعد أن قيدتها أحكام وشروط اتفاقيات سلام وملاحقها!! وأنظمة أخرى قيدتها أحكام ومتطلبات قواعد وامتيازات عسكرية أمريكية، واتفاقيات أمنية للحفاظ على أمنها الداخلي والخارجي! وثالثة قيدتها مشاكلها وأزماتها الداخلية أو تصدع أركانها الداخلية! ورابعة تتحرك على طرف منعزل عن قلب المنطقة العربية وقضاياها !!
ولذلك ليس أمام إسرائيل إلا مواجهة مشاعر غضب تجتاح الشارع العربي، وهي ترى ـ أيضا ـ أنه ليس أيسر على الإنسان العربي من شحنة غضب تقوم الأيام بتفريغها، وأن المآسي الدامية يتابعها المتفرجون العرب ـ كالعادة ـ بعواطفهم الحزينة، وربما يدموعهم، وهذا كل شيء، لأن خطرها عليهم محدود .. وبكل أسف مثل هذا يحدث دائما، وحدوثه أصبح كأنه ظاهرة طبيعية إنفردت بها المنطقة العربية !!
ونكرر .. لا أحد يطالب بالحرب، وقد أزاحت الأنظمة العربية احتمال الحرب من معادلة أزمة الشرق الأوسط، وباعتبار أنه ليس هناك بديل إلا السلام، بل ليس هناك بديل إلا " أي " سلام !! ونكرر للمرة الثالثة بعد المئة، ليس هناك من يحاول " التسخين بدل التبريد" وجرنا إلى الحرب، ولكن هناك عقيدة عربية، بأن مصير الأمة مرتبط بمصير مصر، لأنه لابد أن يكون هناك محور تدور من حوله الحركة، وفي غياب المحور عن أداء دوره، فإن هناك خلخلة في أداء كل حركة .. وهناك من يأمل بأن تضع مصر نفسها في موضعها الصحيح تاريخيا وتؤدي دورها .
وبقيت كلمة أخيرة لابد أن أقولها للرئيس السيسي : كانت الآمال والتطلعات العربية، تربط بينكم وبين زمن الستينيات حين كانت الأمة تملك نخوة الكرامة، وأن تقول كلمتها قوية رادعة على لسان زعيمها الراحل، ولذلك لدينا صدمة مشاعر، ولم يكن الموقف الراهن متوقعا، مهما كانت التحديات والأزمات داخل مصر وخارجها !!