القاهرة 19 يوليو 2014 الساعة 04:57 م
كتب:حسام ابراهيم
أثارت الأنباء عن حالته الصحية تضرع ابن البلد فى رسالة للسماء: فليعد بكل الوهج..اللهم
أنصره على آلام الجسد".. دعوات الملايين التى أبدع منها ولها صاعدة للسماء:
ليعد الفنان مصطفى حسين سالما لمصر التى أحبها كما لم يحب أحد..ليعد لابن البلد.
مصطفى حسين قصة مصرية حتى النخاع فى عالم الكاريكاتير..قصة الفنان وقصة الانسان..قصة
الشر الغادر الذى تسلل للجسد الطيب..حكاية المعانى الخضراء الطازجة لابن حى الحسين..وسرالخيط
المسحور الذى يجمع مابين مبدع بالكلمة ومبدع بالرسم.
إنه صوت الشعب فى حوارات الأيام وهموم اللحظة..صاحب المنصة العالية فى الكاريكاتيرلأنها
للمفارقة منصة رجل الشارع وأحكامه ووجهات نظره بعيدا عن "الأفكار النخبوية
المعقمة " بقدر ماتشكل رسومه "بحرارة لذتها الحارقة الحراقة ولهب الفنان" مظلة ضاحكة
يحتمى بها المواطن البسيط من المنغصات اليومية وهجير الأيام ووجع الأحلام المحبطة
وربقة الحاجة وخسران الرهانات وثرثرة النخب المتلفزة.
وفرق المرض بين مصطفى حسين والكاتب الكبير احمد رجب والشريك الابداعى بالفكرة فى الكاريكاتير
اليومى الشهير بجريدة الاخبار فيما افتتح احمد رجب عموده اليومي "نص كلمة"
يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين بالدعاء لمصطفى حسين الذي يرقد في غرفة العناية
المركزة بمستشفى في الولايات المتحدة.
كانا يجتمعان معا عبر خط هاتفى لوضع ابتسامة كاريكاتير..احمد رجب فى القاهرة وتوأم
روحه مصطفى حسين الذى يعانى الآلام على بعد آلاف الأميال فى أمريكا!..أى نبل هذا
وأى إبداع وقدرة فذة على تجاوز أعتى ألوان الألم الشخصى لصنع البهجة من اجل ابن
البلد وحتى لاتغيب ابتسامة الصباح عن وجه مصر?!.
هل يمكن لوطن انجب امثال هؤلاء النبلاء المبدعين أن يموت أو يهزم?!..أى كلمات تعبر
عن عظمة هذا الولاء للوطن ولابن البلد?!.
"ابن البلد" مصطفى حسين الذى ولد فى السابع من مارس عام 1935 وتفرد فى التعبير بريشة
الفنان عما يعتمل فى صدور الناس من عجب أو غضب واستنكار ينتمى لمدرسة السهل الممتنع
والقدرة على تطويع المعانى فى قوالب مشحونة بالحيوية والطاقة الضاحكة فيما
يمد يده بحب لينقذ أبناء البلد من قاع الاكتئاب السحيق ويقدم لهم ترياق البهجة .
وهو فى ذلك يعبر بسلاسة المبدع عن حقيقة الشخصية المصرية التى تحتفل بالحياة حتى فى
اكثر اللحظات دقة وخطورة مثلما حدث فى غمار ثورة يناير الشعبية.. فالثورة فى حقيقتها
لم تكن متجهمة أو عابسة وحتى اللافتات التى رفعت فى ميدان التحرير او الهتافات
التى تحفظها ذاكرة الميدان فى ذروة المواجهة مع النظام الاستبدادى احتفظت بروح
النكتة فيما صنع المصريون الاف النكت على ايقاع المتغيرات بعد الثورة وكلما اشتدت
الشدائد حبكت النكتة المصرية حبكتها العبقرية!.
ومصطفى حسين الذى تخرج من كلية الفنون الجميلة عام 1959 أحد عباقرة فن الامساك باللحظة
المصرية والتقاط واقتناص مايهم رجل الشارع وهو مايدخل بالفعل فى خبايا الابداع
التى لايمكن تفسيرها بالعقل أو الحديث عنها بالمنطق والاتكاء على مرجعية أو مراجع.
ولعل الاجابة الأقرب للصواب فى حالة كهذه تكمن فى الانفلات أو التحرر من كل المحددات
التقليدية والقوانين الصارمة والمؤشرات المعيارية..فانفعالات المبدع فى غموضها
الجميل يصعب تجميدها وتشريحها بغرض الدراسة او محاولة تفكيك اللحظة السرية التى
تنقدح فيها شرارة الابداع من اعماق الفنان والمتاهات الفاتنة ومناطق الدهشة.
وللفنان الحق فى أى مجال عالمه الكبير والفسيح بل أكثر من عالم وعالم كما يتحدث مايكل
تشابون فى طرح بديع عن "عوالم ويس اندرسون" صاحب فيلم "مملكة بزوغ القمر" ومملكته
الابداعية فى عالم الاخراج السينمائى .
والمملكة الابداعية لمصطفى حسين بشخصياتها الكاريكاتورية الشهيرة عرفت طريقها للشاشة
الصغيرة وتحولت بعضها الى مسلسلات تلفزيونية كوميدية مثل مسلسل :"ناس وناس" ومسلسل:"قط
وفار" فيما تولى رئاسة هيئة التحكيم الدولية لمهرجان سينما الأطفال عام
2001وقبل ذلك شارك فى صنع اول فيلم للرسوم المتحركة تنتجه مؤسسة السينما المصرية
فى منتصف ستينيات القرن العشرين.
نعم هذا العالم كبير ومعقد ومفعم بالأعاجيب والمدهشات والأمر قد يستغرق سنوات طويلة
ليبدأ اغلب البشر فى ملاحظة ان كثيرا من الأشياء المفعمة بالأعاجيب والمدهشات
لايمكن استعادتها وانها ذهبت بعيدا للأبد ولم يتبق منها سوى رماد يثير الحسرة والحنين
كما يقول مايكل تشابون.
ومن هنا فان الفنان الحق هو القادر على الامساك باللحظة حتى لاتضيع للأبد وهذا مايفعله
مصطفى حسين عندما يمسك باللحظة المصرية بأعاجيبها ومدهشاتها..إنه يبدد الزهق
الذى قد يعربد فى جنبات النفس وبين الضلوع الصابرة خاصة فى ايام الأخبار القلقة
المقلقة والمتغيرات الحادة والشدائد وتقلبات النفوس وتحولات العنف بكل مايعنيه ذلك
من خلل فى التوازن النفسى لابن البلد.
وبالقدر ذاته يشكل منجزه الشاهق فى فن الكاريكاتير دقائق الذاكرة المصرية وتفاصيل
الحلم الكبير والنبيل فى الخلاص من كل قبح على قاعدة الحرية والعدالة والكرامة فيما
يبقى احد الكبار الذين شكلوا ثقافيا القوة الناعمة لمصر فى محيطها العربى والانسانى
سواء فى الكاريكاتير او الرواية والشعر والسينما والمسرح .
فالقاهرة كانت ومازالت المركز العربى الأكثر اهمية للكاريكاتير بقائمة تطول ومرصعة
بأسماء نجوم مثل صلاح جاهين ومصطفى حسين وحجازى والليثى وزهدى وطوغان وصاروخان ورخا
وعبد السميع والبهجورى ورجائى واللباد ورمسيس وايهاب وناجى شاكر على تعدد الألوان
والثقافات والنزعات.
لكل لونه ولكل عبقريته..فمصطفى حسين قد يبدو مع قرينه احمد رجب اقرب لرجل الشارع واكثر
تماسا مع الأزقة والحوارى والنجوع والكفور من العظيم المتعدد المواهب صلاح
جاهين الذى كان يراوح فى كيمياء العبقرية بين المرح والانقباض وبين انفعالات البهجة
وانفعالات الغضب غير ان الحزن اتى عليه فى نهاية المطاف بعد حالة اكتئاب ظهرت
ارهاصاتها عقب واقعة الخامس من يونيو 1967 المشؤومة وتصاعدت مع بؤس التحولات وهزيمة
الحلم العام.
فصلاح جاهين كما قال كان يتأرجح كالبندول بين حالة المرح اللازمة لابداع النكتة والكاريكاتير
وبين حالة الحزن التى تتجلى فى شعره ورباعياته الفاتنة بينما مضى مصطفى
حسين ببصيرة المعنى والابداع على ايقاع اللحظة المصرية لتتوالى مع اشراقة كل شمس
رسومه الصريحة بنزعتها الواقعية وابتعادها الشجاع عن الأقنعة التى قد تخاصم قابليات
التأويل لكنها تتجه بالبساطة والعمق معا لسويداء القلب وتصنع بابتسامة عريضة
او قهقهة صاخبة نوعا من التوازن النفسى للمتلقى.
واذا كان الكاريكاتير لغة كونية ففى الثقافة الغربية كثير من الكتب لرسامى الكاريكاتير
او عنهم مثل كتاب رسام الكاريكاتير البلجيكى بريخت ايفينز الذى صدر بعنوان :"صنع
الأكاذيب " وهو قصة مصورة وحكاية ضاحكة عن الصلف والعجرفة بما قد يعيد للأذهان
على نحو ما شخصية "عزيز بك الأليت" لمصطفى حسين.
وفيما تصف راشيل كوك التى تناولت هذا الكتاب الجديد للبلجيكى بريخت ايفينز فى جريدة
الأوبزرفر البريطانية رسومه الكاريكاتورية بالرسوم المبهرة التى تخطف الأبصار وتتحدث
باعجاب عن هذا الرسام "كسفير بلجيكا الساخرة فى العالم" وكأحد امراء السخرية
المعاصرين فى الثقافة الأوروبية فلا جدال ان مصطفى حسين هو سفير مصر الضاحكة الساخرة
فى العالم واحد اعظم امراء السخرية المعاصرين فى الثقافة العربية وهى سخرية
ذات طابع انسانى عميق.
بشخصيات كاريكاتورية مثل : "فلاح كفر الهنادوة" و"عبده مشتاق" و"عزيز بيه الأليت"
و"على الكوماندا" و"عباس العرسة" و"الكحيت" و"مطرب الأخبار" و"قاسم السماوى" و"كمبورة"
و"عبد الروتين" تمكن مصطفى حسين من "انسنة الهم المصرى" وتحويله بدرجة عالية
من الكشف لضحكة من القلب وفى القلب.
انه الضمير المرئى للشارع المصرى و"الناس" وكسر المسافة الملتبسة بين القارىء والصحافة
ليتحقق التواصل المنشود والوصل الذى لايعرف التكلف بين شريكين .
فالولاء للوطن وللشعب اقترن برحلة مصطفى حسين المديدة فى بلاط صاحبة الجلالة منذ ان
التحق بدار الهلال عام 1962 كما عمل من قبل رساما للكاريكاتير بجريدة المساء واشترك
فى تأسيس مجلة "كروان" حتى استقر فى مؤسسة اخبار اليوم وبات علامة واى علامة
فى جريدة الأخبار فضلا عن جريدة اخبار اليوم ناهيك عن انه مؤسس مجلة الكاريكاتير
التى تخصصت فى هذا الفن الرائع .
وقصة شراكته او بالأحرى "توأمته" الابداعية فى الكاريكاتير اليومى مع الكاتب الكبير
احمد رجب هى قصة وحدها فى عالم الصحافة المصرية جديرة بالدراسة عن هذا الثنائى
المتفرد وكيمياء الابداع فى تفاعلاتها بين شخصين اصبحا قرينين وباتت قصتهما هى قصة
مصرية لفتت حتى انظار الصحافة العالمية ووكالات الأنباء الغربية الكبرى.
ونشرت صحف فرنسية وروسية رسومات كاريكاتورية لمصطفى حسين الذى اقيم له معرض بمتحف
الفن الحديث فيما تنبض اعماله سواء فى الكاريكاتير او اللوحات التشكيلية "بمصرية
الفنان وحالة نشوة عارمة بالفن والحياة والناس".
ومصطفى حسين المسكون بالحلم المصرى له ابداعاته فى روائع الفن التشكيلى وكان نقيبا
للفنانين التشكيليين فى عام 2002 وهو العام ذاته الذى اختير فيه لعضوية المجلس الأعلى
للجامعات والمجلس الأعلى للثقافة فيما اقتنت المحكمة الدستورية العليا والهيئة
العامة للكتاب ومتحف الفن الحديث والمعهد العالى للموسيقى ومركز الابداع بالأسكندرية
بعض لوحاته التشكيلية.
فنان "عقيدتة الثقافية" مصرية قلبا وقالبا بلا تنظير او اغراق فى نظريات تحول الفن
الى طلاسم رغم انه عمل كأستاذ غير متفرغ بكلية الفنون الجميلة وهو بمنجزه الكبير
يعبر عن الدور الاجتماعى والجمالى للفن دون حذلقة او ثرثرة تماما كما يجسد بالفن
معنى الهوية .
وإذا كانت الثقافة صيرورة وتفاعل واضافة وتجديد ومواكبة لاتعرف الانقطاع ولاتعرف الحدود
او الركود فان مصطفى حسين فى حالة تقص وبحث لاهوادة فيه عن هموم المصرى..فمصر
فى قلب وعقل الفنان ويده الساخرة الحانية على رجل الشارع بقدر سخريتها الباطشة
بأعداء هذا الرجل.
قصة مصطفى حسين فى احد اهم ابعادها هى قصة الاخلاص للوطن والفن والاشتباك مع كل ماينغص
صفاء الحياة المصرية ومايراه قابلا للتصحيح والاصلاح والتقويم فى هذه الحياة
او الثورة عليه وهدمه واعادة البناء من جديد .
آليس الانسان هو المخلوق الوحيد الذى قد يرفض واقعه ويسعى لتغييره نحو الأفضل كما
يقول الفيلسوف الفرنسى الكبير البير كامو?!..وآليس الفن هو القادر فى نهاية المطاف
على لم شمل البشر كما تقول راشيل كوك فى تناولها للكتاب الجديد لرسام الكاريكاتير
البلجيكى بريخت ايفينز والذى تصفه بأنه اعظم من انجبته بلاده فى هذا الفن منذ
الفنان البلجيكى الراحل هيرجيه صاحب مغامرات "تان تان" الشهيرة وصاحب البصمة الباقية
على فن الكاريكاتير فى الغرب بأكمله?!.
الأصالة وتفرد الرؤى البهيجة ورسالة القلوب الدافئة كلها سمات مميزة لرسامى الكاريكاتير
الكبار فى العالم شرقا وغربا مثل هيرجيه وبريخت ايفينز وصلاح جاهين ومصطفى
حسين..رسالة فن الكاريكاتير التى تقول ان هذا العالم يمكن ان يكون جميلا رغم حماقات
بعض البشر وغرورهم وغطرستهم.
وهى رسالة تضحك الجميع على هذا النوع من البشر بأقنعتهم و"بالنفخة الكاذبة" كما تسخر
من كل مايعادى الروح الانسانية الأصيلة فى جوهرها الطيب وفطرتها النقية بقدر ماتربت
حانية على كل من جرحته الأيام وافعال الشر والحمق والغرور والطغيان.
وهذا كله يتجلى فى كتاب الجديد بريخت ايفينز كما يتجلى دوما فى ابداعات مصطفى حسين
التى تخرج من القلب الدافىء والشجاع للفنان الى رجل الشارع ..فالشجاعة او الجسارة
التى نال بريخت ايفينز جائزة باسمها عن كتابه :"المكان الخطأ" فى مهرجان انجوليم
الدولى للكوميكس فى فرنسا خاصية اصيلة لأى فنان كاريكاتير اصيل تماما ان المغامرة
الابداعية والتجريب الجامح احيانا والذى يطلق العنان لروح الفنان خاصية اخرى جوهرية
لهذه السلالة المباركة من الفنانين.
لهذه السلالة التى ينتمى لها مصطفى حسين وصاحب الجوائز العديدة ومن بينها جائزة الدولة
التقديرية- الخطى تضبط نفسها بنفسها وايقاع اللحظة حاضر ابدا و لايمثل مشكلة
حتى انه قد يصل لمرتبة صانع اللحظة او المشارك فى صنعها فيما يحمل دوما الوعد الصادق
بالجديد والمدهش والخارج عن المألوف..وهذا وعد المبدع الحق مثل الفنان مصطفى
حسين.
ومن هنا تأثيره فى الشارع والأثر القوى لفعله الابداعى ومن هنا لايتأبى الفن على
المبدع الحق ليحقق فنه الخلود ..هكذا مصطفى حسين فنان بقلب طفل وذاكرة حضارية عمرها
الاف السنين وجامعة فى الكاريكاتير قالت وتقول كل شىء ولخصت ببلاغة المعادل البصرى
عبارة:"الشعب يريد...".
وهكذا توجه الشعب والشارع ملكا للكاريكاتير ..ولاحاجة للقول ان كثيرا من القراء يبدأون
الصباحات بكاريكاتير مصطفى حسين وفكرة احمد رجب ليكون جزءا من طعم الحياة المصرية
والوانها ولتجعل الدنيا اقل تجهما واكثر رحابة وبهجة..ملايين المصريين احبوا
مصطفى حسين لسان حال الشارع وسفير مصر الضاحكة المحتفلة بالحياة ..احبوا حلمه الذى
لايقهر لأنه حلمهم.