القاهرة 15 يوليو 2014 الساعة 12:15 م
حوار يسرى حسان
مسعود شومان ليس شاعراً مهماً أصدر. حتي الآن . ثمانية دواويين شكل كل واحد منها علامة في تاريخ شعر العامية فحسب. لكنه أيضاً باحث مهم في التراث الشعبي. لعب دوراً مؤثراً في جمعه وتصنيفه وأرشفته. وأنجز حوله العديد من الدراسات التي تجلي هذا التراث وتمسك بعناصر الجمال فيه. تلك العناصر التي تعكس هوية مصر.. وباكتشاف هذا الموروث الشعبي وحفظه وتحليله فإن شومان - كغيره من الباحثين الجادين والوطنيين - إنما يسهم في حفظ الهوية المصرية والاستمساك بها.
* سألته: كيف تنظر إلي المكون الثقافي المصري في تنوعه وإلي أي مدي تراه عاكساً للهوية المصرية وما الدور الذي لعبه هذا المكون في رأيك؟
- قال: حين نتأمل المكون الثقافي المصري سنجده دون مبالغة سبيكة من عناصر منتخبة بعد أن صهرت في آتون حضارتها التي شكلها وعي الإنسان المصري. فالراقات الثقافية المصرية. لا نقول طبقات. قد تداخلت. بل علي وجه أكثر دقة قد تعشقت حتي صارت سبيكة مصرية صهرها العقل الجمعي المصري لنمسك بجوهرة ـ جوهر الشخصية المصرية التي استطاعت أن تعبر الثقافات صانعة ثقافتها وأن تثبت ملامح هويتها علي واجهة مصر لتعلن لكل غاز أو محتل أو مختل أو فاتح أو طامع أو غبي أن شخصيتها وشخوص أبنائها الحقيقيين ـ لا المدعين ولا المرتمين في أحضان ثقافة الغرب أو دعاة ثقافة العصور الوسطي. أو جهّال كل العصور من الدوجمائيين ـ لن يمحوها أي كائن أو أي جماعة سياسية أو عرقية أو دينية. فقد استطاع الوعي المصري أن يتجاوز الحواجز والمكبلات الإثنية واللغوية والدينية والجغرافية ليصمد في مواجهة الأزمنة التي عبرت من هنا لكنها لم تترك إلا ما أراد الوعي المصري أن يدخله ضمن عناصر الشخصية المصرية. وما أكثر ما مر علي مصر من غزاة وطامعين وبرابرة متخلفين. ومتحجرين يعيشون في كهوف الماضي ويختارون منه ما يعوق الحياة. وهم ينظرون للماضي بقدسية وللراهن بانتهازية وللمستقبل بأنانية جاهلة تدعي لنفسها الحقيقة.
* وماسر التسامح الذي ساد مصر عبر عصورها.. كيف لعبت الثقافة دوراً في هذا الصدد؟
- طبعاً كان للثقافة المصرية دور مهم فالتجانس بين عناصر الثقافة المصرية هو ما جنب مصر طوال تاريخها الصراع. واستمر نهر التجانس منسابا في نعومة آخذا طبيعة النهر. محققا استقرارا نسبيا يعمق شعور الشخصية بأنها صارت أكثر تكاملا مع محيطها الثقافي. ومع تكرار الأنماط السلوكية والتعبيرية القديمة والجديدة في انسجامها مع روح الثقافة فإن قيم الفرد يتم دعمها بهذه الروح التي تتسم بملامح منسجمة قائمة علي التسامح والتناغم والتجاور. بل والتداخل بين الراقات الثقافية لتصير سبيكة متحدة من العناصر المنتخبة والمنتقاة عبر الأزمنة.
* في هذا السياق أين نضع شهر رمضان بطقوسه وعاداته؟
رمضان ليس حلية أو فانوسا يضاء كلما هلت الرؤية. لكنه يصور لنا دورة حياة مكتملة تبدأ بالرؤية: رؤية القمر يوحا أو وحوي حين يولد في كبد السماء ويطلع إليه العشاق والمحبون. ينتظرون هلته وإطلالته. يذهبون لرؤياه من الأماكن العالية ويمنح من يراه العطايا كمبشر بميلاد قمر يأتي ليزيح ظلام الجماعة. آتيا بمنظومة من العادات والتقاليد والتعابير والتحايا وعناصر الثقافة المادية. كما يأتي بلغة تتحصن بالمحبة. السماح. فيخلي للجماعة مساحة تحكي فيها وتغني وتنشد وتبدع علي قدر ولد جاء لتوه كهدية من الله فتمتليء به حصالة الخير. فالقرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود أو ربما تحويشة لمواجهة شر قادم.
يأتي إلينا وكأنه قد مارس طقس العبور من الدين إلي الجماعة الشعبية. فهي تسعد حينما يكون الدين يدا بيد مع ما تشربته الروح المصرية من إرث ثقافي هو العرق الذي حفظ لنيلها الفولكلوري بقاءه. فظل مستمرا يمزج بين العناصر بعد أن تصهرها روحه أو يستبدل أو يعدل. لكن يظل الدين جليا في الشعبي. والشعبي قادرا علي الصمود. فحين نستمع إلي الأغنية الشعبية الرمضانية التي تقول: فانوسي أحمر..جميل منور..بابا جابهولي..من عم أنور.. أنواره والعه.. والشمعه والعه.. يا رب أكبر.. واصوم وأفطر.. واجيب لماما.. فستان مشجر.. سنجد سحرا يجمع بين الموسيقي والحركة والدلالات التي تتعمق حين نربطها بالعادات والتقاليد التي مثلت الجسر الذي عبر عليه المصريون لتظل البهجة إلي جانب الدين. فالدين لا يحض علي الكآبة أو القتل ورمضان يمثل شهرا للمحبة والتسامح والوحدة وهو ما يجب أن يفهمه المصريون ليستعيدوا مجد مصر الذي سيظل سلاحنا في المواجهة مع كل مايحاك لها.
* ألم يلفت نظرك أن الأخوة المسيحيين يطلقون علي أبنائهم أسم فانوس؟
- بالتأكيد لفتني تسمية الأخوة الأقباط لأبنائهم بفانوس. وهو اسم منتشر بينهم. فأعادني إلي النيروز الذي يؤكد البعض أنه عيد الربيع عند الفرس. طيب. وماذا يعني اسم ناروز عندنا غير الضوء. وها نحن نري معظم فلاحي مصر وهم يطلقون علي كوة في البيوت الطينية اسم ناروزه. فالفانوس قديم في مصر. قدم اكتشاف الشموع. قدم المعابد. قدم معرفة الإله. واكتشاف الضوء و الظلمة. وتتبدي المصرية قي ارتباط الشموع بالسبوع كطقس احتفالي لكن الفانوس ارتبط بميلاد هلال ودولة في آن واحد حينما استقبل المصريون هلالهم ومعه المعز لدين الله الفاطمي الذي وصل القاهرة ليلا. فكان الاستقبال بالفوانيس والمشاعل. أكان الفانوس حلما انتقاليا. مساحة ضوء بين زمنين. ليتحول فيما بعد إلي فانوس / ضوء. يحمله الأطفال كأن كل واحد يحمل قمره. أو رمز الضوء:
وَحَوِيِ يَا وَحَوِي.. إيَّاحَا
وكمَانْ وَحَوِي .. إيَّاحَا
بِنْتْ السُلطانْ .. إيَّاحَا
لابْسَهْ الفـُسْتـَانْ..إيَّاحَا
مِنْ بـِدْعْ زَمَانْ .. إيَّاحَا
أحْمَرْ واخْضَرْ .. إيَّاحَا
طرَابيشْ عَسْكَـَرْ.. إيَّاحَا
وِوَحَوِيِ يَا وَحَوِي..إيَّاحَا
وبعد أن عبر تاريخا طويلا جاء الفانوس الصيني ليصدر إلينا مرة أخري أغانينا الشعبية. وكاد أن ينهي علي حرفة عريقة. ورمز مصري.فهل بمقدورنا أن نستعيد جزءاً مهماً من أرواحنا التي ضلت بعيدا. و أن نستعيد مع أطفالنا أغنياتهم وهم يحملون الفوانيس:
رمضان في الكتّاب بيمسح لوحه
فاضل تلت دقايق وتطلع روحه
تواصل الجذور
* كلمة يوحا المنتشرة في أغلب أغاني رمضان ما سرها؟
كلما استمعت إلي أغنية شعبية رمضانية ستجد يوحا أو وحوي أمامك. ينير لك الطريق إلي المعني. إن أيوح هو القمر قي اللغة المصرية القديمة. فالشهور القبطية قمرية أيضا. وأيوح ملك للجميع. يستدعيه الأطفال ويغنون في جماعية مجلجلة: طلعنا الجبل.. يوحا.. قابلتنا قطيطه.. يوحا.. لقيت محجوب..يوحا..راحت بو السوق.. يوحا.. جابت بو حنه.. يوحا..حنت إيديها.. يوحا.. حنت رجليها.. يوحا..الكعب التاني..يوحا.. أحمر سلطاني.. يوحا.. ضهري مكسور.. يوحا.. يا بابور السكة.. يوحا..رايح علي فين.. يوحا.... إلخ.
هكذا تتواصل الجذور معلنة عن نفسها لتغني حالو يا حالو أليست العلاقة قائمة بينها وبين هالو وبينها وبين الهالة. ففي المصرية القديمة هالا بمعني حلاوة. فالقران جائز بينها وبين مفردة الله وهي تعني السمو والرفعة والعلو. وكذا بينها وبين الحلاوة بمعني الجمال والاستحسان.
نحن بحاجة حقيقية لجمع عادات وتقاليد وأغاني وصناعات وأطعمة رمضان. فهو جماع لها. والذاكرة ملآنة بالأغاني لكننا لسنا في معرض لذكرها. وإنما التنبيه بمنطق المسحراتي لطغيان ثقافات أخري علي عناصرنا. مرة بإعادة تصديرها عبر وسائطها. وأخري عبر محوها. وثالثة بالانتصار عليها.
* هل تعتقد أن ثورة 30يونيو لعبت دوراً في إنقاذ تراث رمضان بل وإنقاذ هوية مصر نفسها؟
- ثورة 30 يونيو مثلت مفصلا مهما في الالتفات للأكذوبة الإخوانية التي سعت لمحو هويتنا المصرية. فقد لاحظت علي المستوي الميداني أن رمضان استعاد شعبيته بعيدا عن النزعات الظلامية المتشددة فبدت الزينات أكثر في الشوارع والإحساس النسبي بالأمن جعل الأطفال يستعيدون أغانيهم ومن جديد بدأت ألمح المسحراتي وهو يوقع علي البازة "آلة إيقاع صغيرة لها رق من الجلد يضرب عليها بقطعة من الجلد. وهو ينادي أفراد الأسرة اسما اسما" لتقوم الأرواح من غفوة الركون للقوالب التي انهكت شعرا ونري أن المسحر العظيم فؤاد حداد كان يوقع نصه وهو يتسمع إلي ضربة الجلدة علي البازه.حينما يقول المسحراتي: عز من يقول لا إله إلا الله."تن تتن تن تن" محمد الهادي رسول الله. "تن تتن تن تن" وأسعد لياليك. يا ابن فلان "تن تتن تن تن" ليتواصل الإيقاع موقظا. أين المسحراتي. هل أصبح علي رأي المثل أمام سطوة الإضاءة والفضائيات بيطبل في المتطبل . لا بل يقاوم بقاءه قارعا البازة ومقرظا كل من يقول إنه لم يعد له فائدة. فنحن بحاجة إلي مسحراتي لا يكف عن دفق الوعي في أرواحنا طوال الوقت. وفي هذه المرحلة التاريخية التي استعادت مصر ذاتها نقول أننا في رمضان جديد يليق بتاريخها العظيم الذي حاول المتأسلمون أن يقتلوا أجمل مافيه وهو سبيكة الهوية المصرية التي حمت مصر من الضياع.